موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: ردُّ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ على المُرجِئةِ في العلاقةِ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ


المشهورُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وُجودُ فَرقٍ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ، وعلى هذا دلَّت النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ.
أوَّلًا: الأدلَّةُ مِن القرآنِ في المُغايَرةِ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ:
1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] .
2- قال اللهُ سبحانَه: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] .
4- قال اللهُ تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35-36].
ثانيًا: الأدلَّةُ مِن السُّنَّةِ في المُغايَرةِ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ:
1- حديثُ عائِشةَ رضِي اللهُ عنها في زيارةِ القُبورِ، قالت: ((كيف أقولُ لهم يا رسولَ اللهِ؟ قال: قولي: السَّلامُ على أهلِ الدِّيارِ مِن المُؤمِنينَ والمُسلِمينَ )) [364] أخرجه مسلم (974). .
2- حديثُ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه، وفيه قولُ جِبريلَ عليه السَّلامُ: ((أخبِرْني عن الإسلامِ، ثُمَّ قال: فأخبِرْني عن الإيمانِ؟ )) [365] أخرجه مسلم (9). .
3- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى رَهطًا وسَعدٌ جالِسٌ، فترَك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلًا هو أعجَبُهم إليَّ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما لك عن فلانٍ؟ فوالله إنِّي لأَراه مُؤمِنًا، فقال: أوْ مُسلِمًا )) [366] أخرجه البخاري (27) واللَّفظُ له، ومسلم (150). .
مِن أقوالِ السَّلفِ في التَّفريقِ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ:
1- قال مُحمَّدُ بنُ عليٍّ الباقِرُ في قولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ، ولا يسرِقُ حينَ يسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يشرَبُ الخَمرَ حينَ يشرَبُها وهو مُؤمِنٌ )) [367] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((لا يزني الزَّاني حينَ يزني...)). ، قال: (يخرُجُ مِن الإيمانِ إلى الإسلامِ، ولا يخرُجُ مِن الإسلامِ البتَّةَ، فإن تاب تاب اللهُ عليه، ورجَع إليه الإيمانُ) [368] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 608). .
2- كان حمَّادُ بنُ زيدٍ يُفرِّقُ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ، فيجعَلُ الإسلامَ عامًّا، والإيمانَ خاصًّا [369] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 895)، ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السنة (2/ 154). .
3- قال أبو عُبَيدٍ: (أخبَر اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّه إنَّما أكمَل الدِّينَ الآنَ في آخِرِ الإسلامِ في حَجَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعَم هؤلاء أنَّه كان كامِلًا قَبلَ ذلك بعِشرينَ سَنةً في أوَّلِ ما نزَل عليه الوَحيُ بمكَّةَ حينَ دُعِي النَّاسُ إلى الإقرارِ به، ولو كان ذلك كذلك ما كان لذِكرِ الإكمالِ معنًى، وكيف يكمُلُ ما قد استُقصِي مِن عندِ آخِرِه وفُرِغ منه؟! هذا قولٌ غَيرُ مقبولٍ، حتَّى لقد اضطُرَّ بعضُهم حينَ أُدخِلَت عليه هذه الحُجَّةُ إلى أن قال: إنَّ الإيمانَ ليس بجميعِ الدِّينِ، ولكنَّ الدِّينَ ثلاثةُ أجزاءٍ؛ فالإيمانُ جُزءٌ، والفرائِضُ جُزءٌ، والنَّوافِلُ جُزءٌ.
وهذا غَيرُ ما نطَق به الكتابُ، ألم تسمَعْ إلى قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، فأخبَر أنَّ الإسلامَ هو الدِّينُ برُمَّتِه، وزعَم هؤلاء أنَّه ثُلُثُ الدِّينِ؛ فصيَّروا ما سمَّى الله دينًا كامِلًا ثُلثَ الدِّينِ) [370] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (1/ 355). .
4- سُئِل أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ عن الإيمانِ والإسلامِ، فقال: (الإيمانُ غَيرُ الإسلامِ) [371] يُنظر: ((السنة)) للخَلَّال (3/ 603). .
وقيل لأحمَدَ أيضًا: (تُفرِّقُ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ؟ قال: نعَم، قيل له: فتذهَبُ إلى ظاهِرِ الكتابِ معَ السُّنَنِ؟ قال: نعَم، قيل: فإذا كان المُرجِئةُ يقولونَ: إنَّ الإسلامَ هو القولُ؟ قال: هم يُصيِّرونَ هذا كُلَّه واحِدًا، ويجعَلونَه مُسلِمًا ومُؤمِنًا شيئًا واحِدًا على إيمانِ جِبريلَ، ومُستكمِلَ الإيمانِ، قيل: فمِن هاهنا حُجَّتُنا عليهم؟ قال: نعَم) [372] يُنظر: ((السنة)) للخَلَّال (3/ 604). .
وسُئِل أحمَدُ أيضًا عن قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمِنٌ )) [373] أخرجه البخاري (6810)، ومسلم (57) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرجه البخاري (6782) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، قال: (يخرُجُ مِن الإيمانِ إلى الإسلامِ؛ فالإيمانُ مقصورٌ في الإسلامِ، فإذا زنى خرَج مِن الإيمانِ إلى الإسلامِ) [374] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 607). .
5- قال الآجُرِّيُّ: (الإيمانُ يزيدُ بالطَّاعاتِ، ويَنقُصُ بالمعاصي، والإسلامُ لا يجوزُ أن يُقالَ: يزيدُ ويَنقُصُ) [375] ((الشريعة)) (2/ 593). .
6- قال قَوَّامُ السُّنَّةِ في بيانِ الفَرقِ بَينَ الإيمانِ والإسلامِ والرَّدِّ على المُرجِئةِ: (الإيمانُ عِبارةٌ عن جميعِ الطَّاعاتِ، والإسلامُ عبارةٌ عن الشَّهادتَينِ معَ طُمأنينةِ القلبِ، وإذا كان كذلك وجَب الفَرقُ بَينَهما) [376] ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 443). .
وقال قَوَّامُ السُّنَّةِ أيضًا: (الإيمانُ والإسلامُ اسمانِ لمعنيَينِ؛ فالإسلامُ عبارةٌ عن الشَّهادتَينِ معَ التَّصديقِ بالقلبِ، والإيمانُ عبارةٌ عن جميعِ الطَّاعاتِ، خِلافًا لمَن قال: الإسلامُ والإيمانُ سَواءٌ إذا حصَلَت معَه الطُّمأنينةُ.
والدَّليلُ على الفَرقِ بَينَهما قولُه تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] ، عطَف الإيمانَ على الإسلامِ، والشَّيءُ لا يُعطَفُ على نَفسِه؛ فعُلِم أنَّ الإيمانَ معنًى زائدٌ على الإسلامِ) [377] ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 441). .
7- قال ابنُ رَجبٍ: (... لكنَّ المُتكلِّمينَ عندَهم أنَّ الأعمالَ لا تدخُلُ في الإيمانِ، وتدخُلُ في الإسلامِ.
وأمَّا أصحابُنا وغَيرُهم مِن أهلِ الحديثِ فعندَهم أنَّ الأعمالَ تدخُلُ في الإيمانِ، معَ اختِلافِهم في دُخولِها الإسلامَ، فلهذا قال كثيرٌ مِن العُلَماءِ: إنَّ الإسلامَ والإيمانَ تختلِفُ دَلالتُهما بالإفرادِ والاقتِرانِ؛ فإن أُفرِد أحدُهما دخَل الآخَرُ فيه، وإن قُرِن بَينَهما كانا شيئَينِ حينَئذٍ، وبهذا يُجمَعُ بَينَ حديثِ سُؤالِ جِبريلَ عن الإسلامِ والإيمانِ -ففرَّق النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَهما [378] أخرجه مسلم (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (... أخبِرْني عن الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الإسلامُ: أن تَشْهَدَ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فأخبرني عن الإيمان قال: أن تُؤمِنَ باللهِ، ومَلائِكَتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه...). وأخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((...ما الإيمانُ؟ قال: الإيمانُ أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وبلِقائِه ورسُلِه ... قال: ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ أن تَعبُدَ اللهَ ولا تُشرِكَ به ...)) - وبَينَ حديثِ وَفدِ عبدِ القيسِ؛ حيثُ فسَّر فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإيمانَ المُنفرِدَ [379] أخرجه البخاري (7556) واللَّفظُ له، ومسلم (17) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البخاريِّ: ((آمُرُكم بالإيمانِ باللهِ، وهل تدرون ما الإيمانُ باللهِ؟ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وتُعطوا من المَغنَمِ الخُمُسَ)). [380] ((فتح الباري)) (1/ 119). .
وقال ابنُ رَجبٍ أيضًا: (قال المُحقِّقونَ مِن العُلَماءِ: كُلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ؛ فإنَّ مَن حقَّق الإيمانَ ورسَخ في قلبِه، قام بأعمالِ الإسلامِ...، فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمانِ إلَّا وتنبعِثُ الجوارِحُ بالأعمالِ، وليس كُلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا؛ فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقيقًا تامًّا، معَ عَملِ جوارِحِه بأعمالِ الإسلامِ؛ فيكونُ مُسلِمًا، وليس بمُؤمِنٍ الإيمانَ التَّامَّ) [381] ((جامع العلوم والحكم)) (1/108). .
فالصَّوابُ أنَّ الإسلامَ غَيرُ الإيمانِ، وهو المشهورُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (مَن يقولُ: الدِّينُ والإيمانُ شيءٌ واحِدٌ، فالإسلامُ هو الدِّينُ، فيجعَلونَ الإسلامَ والإيمانَ شيئًا واحِدًا؛ هذا القولُ قولُ المُرجِئةِ) [382] ((مجموع الفتاوى)) (7/380) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال أيضًا: (المُرجِئةُ يقولونَ: الإسلامُ أفضَلُ؛ فإنَّه يدخُلُ فيه الإيمانُ... والقَولُ الثَّالثُ أنَّ الإيمانَ أكمَلُ وأفضَلُ، وهذا هو الذي دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ في غَيرِ مَوضِعٍ، وهو المأثورُ عن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ) [383] ((مجموع الفتاوى)) (7/414). ويُنظر: ((نقض عقائد الأشاعرة والماتريدية)) لخالد الغامدي (ص: 380). .
وأمَّا ما قرَّره الباقِلَّانيُّ الأشعَريُّ في معنى الإسلامِ وعلاقتِه بالإيمانِ؛ حيثُ قال: (الإسلامُ: الانقِيادُ والاستِسلامُ؛ فكُلُّ طاعةٍ انقاد العبدُ لها لربِّه، واستسلَم فيها لأمرِه؛ فهي إسلامٌ، والإيمانُ خَصلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، وكُلُّ إيمانٍ إسلامٌ، وليس كُلُّ إسلامٍ إيمانًا) [384] ((التمهيد)) (ص: 347)، ((الإنصاف)) (ص: 56). ، فيُمكِنُ الرَّدُّ عليه على النَّحو التَّالي:
أوَّلًا: أنَّ هذه المقالةَ باطِلةٌ؛ لمُخالَفتِها الكتابَ والسُّنَّةَ، فإنَّ ما بيَّنه اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أنَّ الإسلامَ داخِلٌ في الإيمانِ، فلا يكونُ الرَّجلُ مُؤمِنًا حتَّى يكونَ مُسلِمًا، كما أنَّ الإيمانَ داخِلٌ في الإحسانِ، فلا يكونُ مُحسِنًا حتَّى يكونَ مُؤمِنًا.
ثانيًا: أنَّ معنى قولِهم: إنَّ الإيمانَ خَصلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، وإنَّ الطَّاعاتِ كُلَّها إسلامٌ؛ أنَّ الطَّاعاتِ كُلَّها ليس فيها إيمانٌ إلَّا التَّصديقُ، فيخرُجُ بذلك الشَّهادتانِ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، وغَيرُها مِن الطَّاعاتِ عن الإيمانِ، وهذا مُخالِفٌ للنُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ الإسلامَ داخِلٌ في الإيمانِ.
ثالثًا: أنَّ قولَهم: إنَّ الإيمانَ خَصلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، وإنَّه لا يكونُ مُؤمِنًا إلَّا مَن أتى بالإيمانِ كُلِّه، أي: بالتَّصديقِ- يُلزِمُهم أن يقولوا: إنَّه لا يكونُ مُسلِمًا إلَّا مَن أتى بالإسلامِ كُلِّه لا ببعضِه، كما قالوا ذلك في الإيمانِ.
رابعًا: أنَّ قولَهم: كُلُّ إيمانٍ إسلامٌ، وليس كُلُّ إسلامٍ إيمانًا، إن كان المُرادُ به أنَّ كُلَّ إيمانٍ هو الإسلامُ الذي أمَر اللهُ تعالى به؛ فهذا يُناقِضُ قولَهم: إنَّ الإيمانَ خَصلةٌ مِن خِصالِ الإسلامِ، فجعَلوا الإيمانَ بعضَ الإسلامِ، ولم يجعَلوه إيَّاه.
ويُقالُ لهم: على هذا يكونُ الإسلامُ مُتعدِّدًا بتعدُّدِ الطَّاعاتِ، وتكونُ الشَّهادتانِ وَحدَهما إسلامًا، والصَّلاةُ وحدَها إسلامًا، والزَّكاةُ وحدَها إسلامًا، وهكذا كُلُّ طاعةٍ فهي وحدَها إسلامٌ.
خامسًا: أنَّ قولَهم: إنَّ المُسلِمَ لا يكونُ مُسلِمًا إلَّا بفِعلِ كُلِّ ما أسمَوه إسلامًا يلزَمُ منه لوازِمُ باطِلةٌ؛ منها:
1- أن يكونَ الفُسَّاقُ ليسوا مُسلِمينَ معَ كونِهم مُؤمِنينَ، فجعَلوا المُؤمِنينَ الكامِلي الإيمانِ عندَهم ليسوا مُسلِمينَ.
2- أن يكونَ الفُسَّاقُ مِن أهلِ القِبلةِ ليسوا مُسلِمينَ بل كُفَّارًا.
فيكونُ إخراجُهم الفُسَّاقَ مِن اسمِ الإسلامِ -إن أخرَجوهم- أعظَمَ شناعةً مِن إخراجِهم مِن اسمِ الإيمانِ، فوقَعوا في أعظَمَ ممَّا عابوه على المُعتزِلةِ.
3- أن يكونَ مَن ترَك التَّطوُّعاتِ ليس مُسلِمًا؛ إذ كانت التَّطوُّعاتُ طاعةً للهِ، إن جعَلوا كُلَّ طاعةٍ -فَرضًا أو نَفلًا- إسلامًا.
سادسًا: أنَّ قولَهم: إنَّ كُلَّ مَن فعَل طاعةً سُمِّي مُسلِمًا، يلزَمُ منه أن يكونَ مَن فعَل طاعةً مِن الطَّاعاتِ ولم يتكلَّمْ بالشَّهادتَينِ، مُسلِمًا، ومَن صدَّق بقلبِه ولم يتكلَّمْ بلِسانِه أن يكونَ مُسلِمًا؛ لأنَّ الإيمانَ عندَهم إسلامٌ، فمَن أتى به فقد أتى بالإسلامِ، ويكونُ مُسلِمًا عندَهم مَن تكلَّم بالشَّهادتَينِ، وما أتى بشيءٍ مِن الأعمالِ.
سابعًا: أنَّ احتِجاجَهم بقولِ اللهِ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ، وفيها نَفيُ الإيمانِ عنهم، وإثباتُ الإسلامِ لهم هو حُجَّةٌ عليهم لا لهم؛ لأنَّه لمَّا أثبَت الإسلامَ معَ انتِفاءِ الإيمانِ دلَّ ذلك على أنَّ الإيمانَ ليس بجُزءٍ مِن الإسلامِ؛ إذ لو كان بعضُه لَما كانوا مُسلِمينَ إن لم يأتوا به.
وإن قالوا: أردْنا بقولِنا أن نُثبِتَ لهم الإسلامَ، أيَّ إسلامٍ ما؛ فإنَّ كُلَّ طاعةٍ مِن الإسلامِ إسلامٌ عندَنا؛ نقولُ: لزِمَكم ما تقدَّم مِن أن يكونَ صومُ يومٍ إسلامًا، وصَدقةُ دِرهَمٍ إسلامًا، وأمثالِ ذلك [385] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/154-158)، ((آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية)) لعبد الله السند (ص: 409- 413). .
وفي الرَّدِّ على مَن سوَّى بَينَ الإيمانِ والإسلامِ قال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا قولُ مَن سوَّى بَينَ الإسلامِ والإيمانِ، وقال: إنَّ اللهَ سمَّى الإيمانَ بما سمَّى به الإسلامَ، وسمَّى الإسلامَ بما سمَّى به الإيمانَ، فليس كذلك؛ فإنَّ اللهَ ورسولَه قد فسَّرا الإيمانَ بأنَّه الإيمانُ باللهِ وملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه واليومِ الآخِرِ [386] أخرجه مسلم (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: (فأخبِرْني عن الإيمانِ. قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورسُلِه واليومِ الآخِرِ). ، وأيضًا العَملُ بما أمَر اللهُ يَدخُلُ في الإيمانِ، ولم يُسمِّ اللهُ الإيمانَ بملائِكتِه وكُتبِه ورُسلِه والبَعثِ بَعدَ الموتِ إسلامًا، بل إنَّما سمَّى الإسلامَ الاستِسلامَ له بقلبِه وقَصدِه وإخلاصِ الدِّينِ والعَملِ بما أمَر به، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ خالِصًا لوَجهِه، فهذا هو الذي سمَّاه اللهُ إسلامًا، وجعَله دينًا، وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ مَن دان بغَيرِ دينِ الإسلامِ فعَملُه مردودٌ، وهو خاسِرٌ في الآخِرةِ، فيقتضي وُجوبَ دينِ الإسلامِ، وبُطلانَ ما سِواه، لا يقتضي أنَّ مُسمَّى الدِّينِ هو مُسمَّى الإيمانِ، بل أمَرَنا أن نقولَ: آمَنَّا باللهِ، وأمَرَنا أن نقولُ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133] ، فأمَرَنا باثنَينِ، فكيف نجعَلُهما واحِدًا؟) [387] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 410). .
وأمَّا قولُهم بأنَّ الإسلامَ والإيمانَ شيءٌ واحِدٌ فيلزَمُهم فيه أحدُ أمرَينِ:
الأوَّلُ: أن يقولوا: إنَّ الإسلامَ هو التَّصديقُ: وهذا ما لم يقُلْه أحدٌ مِن أهلِ اللُّغةِ.
الثَّاني: أن يقولوا: إنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في مُسمَّى الإيمانِ: وهذا خِلافُ قولِهم.
والقولُ بأنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ هذا حقٌّ لا مِريةَ فيه، ولكنَّ إطلاقَ القولِ بأنَّ كُلَّ مُسلِمٍ مُؤمِنٌ، أو مَن أتى بشرائِطِ الإسلامِ فهو مُؤمِنٌ؛ غَيرُ صحيحٍ [388] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 489). ، بدليلِ أنَّ الإسلامَ يتناوَلُ مَن أظهَر الإسلامَ، وليس معَه شيءٌ مِن الإيمانِ، وهو المُنافِقُ المحضُ، ويتناوَلُ مَن أظهَر الإسلامَ معَ التَّصديقِ المُجمَلِ في الباطِنِ، ولكن لم يفعَلِ الواجِبَ كُلَّه، وهُم الفُسَّاقُ، يكونُ في أحدِهم شُعبةُ نِفاقٍ، ويتناوَلُ مَن أتى بالإسلامِ الواجِبِ، وما يلزَمُه مِن الإيمانِ، ولم يأتِ بتَمامِ الإيمانِ الواجِبِ [389] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 427). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (قد يكونُ مُسلِمًا يعبُدُ اللهَ كما أمَره، ولا يعبُدُ غَيرَه، ويخافُه ويرجوه، ولكن لم يخلُصْ إلى قلبِه أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، ولا أن يكونَ اللهُ ورسولُه والجِهادُ في سَبيلِه أحَبَّ إليه مِن جميعِ أهلِه ومالِه، وأن يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه، وأن يخافَ اللهَ لا يخافُ غَيرَه، وألَّا يتوكَّلَ إلَّا على اللهِ، وهذه كُلُّها مِن الإيمانِ الواجِبِ، وليست مِن لوازِمِ الإسلامِ؛ فإنَّ الإسلامَ هو الاستِسلامُ، وهو يتضمَّنُ الخُضوعَ للهِ وَحدَه، والانقِيادَ له، والعُبوديَّةَ للهِ وَحدَه، وهذا قد يتضمَّنُ خَوفَه ورجاءَه، وأمَّا طُمأنينةُ القلبِ بمحبَّتِه وَحدَه، وأن يكونَ أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وبالتَّوكُّلِ عليه وَحدَه، وبأن يُحِبَّ لأخيه المُؤمِنِ ما يُحِبُّ لنَفسِه؛ فهذه مِن حقائِقِ الإيمانِ التي تختصُّ به، فمَن لم يتَّصِفْ بها لم يكنْ مِن المُؤمِنينَ حقًّا، وإن كان مُسلِمًا، وكذلك وَجَلُ قلبِه إذا ذُكِر اللهُ، وكذلك زيادةُ الإيمانِ إذا تُلِيَت عليه آياتُه) [390] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 426). .
وما استدلُّوا به مِن الأدلَّةِ السَّمعيَّةِ هو دليلٌ على نَقضِ قولِهم، وبيانُ ذلك فيما يلي:
قال اللهُ تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران: 19] ، وقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، ولم يقُلْ: ومَن يبتَغِ غَيرَ الإسلامِ عِلمًا ومعرفةً وتصديقًا وإيمانًا، ولا قال: رضِيتُ لكم الإسلامَ تصديقًا وعِلمًا؛ فإنَّ الإسلامَ مِن جِنسِ الدِّينِ والعَملِ والطَّاعةِ والانقِيادِ والخُضوعِ؛ فمَن ابتغى غَيرَ الإسلامِ دينًا فلن يُقبَلَ منه، والإيمانُ طُمأنينةٌ ويَقينٌ، أصلُه عِلمٌ وتصديقٌ ومعرفةٌ، والدِّينُ تابِعٌ له، يُقالُ: آمَنْتُ باللهِ، وأسلَمْتُ للهِ [391] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 378). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ أصلُه معرفةُ القلبِ وتصديقُه وقولُه، والعَملُ تابِعٌ لهذا العِلمِ، والتَّصديقُ مُلازِمٌ له، ولا يكونُ العبدُ مُؤمِنًا إلَّا بهما، وأمَّا الإسلامُ فهو عَملٌ محضٌ معَ قولٍ، والعِلمُ والتَّصديقُ ليس جُزءَ مُسَمَّاه، لكِنْ يَلزَمُه جِنسُ التَّصديقِ، فلا يكونُ عَمَلٌ إلَّا بعِلمٍ، لكِنْ لا يَستَلزِمُ الإيمانَ المفصَّلَ الذي بَيَّنَه اللهُ ورسولُه، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ؛ فإنَّ كثيرًا مِن المُسلِمينَ مُسلِمٌ باطِنًا وظاهِرًا معَه تصديقٌ مُجمَلٌ، ولم يتَّصِفْ بهذا الإيمانِ) [392] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 377) باختصارٍ. .
ولهذا أمَرَنا اللهُ تعالى أن نقولَ: آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 8] ، وأمَرَنا أن نقولَ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133] ، وكذلك قولُ موسى عليه السَّلامُ: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] ، فلو كان مُسمَّاهما واحِدًا كان هذا تكريرًا.
وكذلك قولُه تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب: 35] ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ إذا قام مِن اللَّيلِ: ((اللَّهمَّ لك أسلَمْتُ، وبك آمَنْتُ... )) [393] أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وكذا استِدلالُهم بآيةِ الحُجُراتِ دلَّ على نقيضِ قولِهم؛ فإنَّ القومَ لم يقولوا: أسلَمْنا، بل قالوا: آمَنَّا، واللهُ أمَرَهم أن يقولوا: أسلَمْنا، ثُمَّ ذكَر تسميتَهم بالإسلامِ، فقال: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] ، أي: في قولِكم: آمَنَّا، ولو كان الإسلامُ هو الإيمانَ لم يَحتَجْ أن يقولَ: إن كنْتُم صادِقينَ؛ فإنَّهم صادِقونَ في قولِهم: أسلَمْنا، معَ أنَّهم لم يقولوا [394] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 376-378). .
وأمَّا احتِجاجُهم بقولِ اللهِ تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35-36]، فقال ابنُ كثيرٍ: (احتَجَّ بهذه الآيةِ مَن ذهَب إلى رأيِ المُعتزِلةِ ممَّن لا يُفرِّقُ بَينَ مُسمَّى الإيمانِ والإسلامِ؛ لأنَّه أطلَق عليهم المُؤمِنينَ والمُسلِمينَ، وهذا الاستِدلالُ ضعيفٌ؛ لأنَّ هؤلاء كانوا قومًا مُؤمِنينَ، وعندَنا أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ لا ينعكِسُ، فاتَّفَق الاسمانِ هاهنا لخُصوصيَّةِ الحالِ، ولا يلزَمُ ذلك في كُلِّ حالٍ) [395] ((تفسير ابن كثير)) (7/ 422). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّ البَيتَ المُخرَجَ كانوا موصوفينَ بالإسلامِ والإيمانِ، ولا يلزَمُ مِن الاتِّصافِ بهما ترادُفُهما) [396] ((شرح الطحاوية)) (2/ 493). .

انظر أيضا: