موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: مَذهَبُ الجَهْميَّةِ في الإيمانِ وحقيقتِه


ينطلِقُ مَذهَبُ الجَهْميَّةِ في الإيمانِ مِن دعواهم (استحالةَ التفاوُتِ في الإيمانِ)؛ فهم أخرجوا العَمَلَ عن مُسمَّى الإيمانِ، وقصَروا الإيمانَ على المعرفةِ استنادًا لهذه الدَّعوى؛ لأنَّهم ظنُّوا أنَّ الإيمانَ إذا زال بعضُه زال بالكُليَّةِ؛ لذا حكَموا بأنَّ الإيمانَ هو المَعرفةُ، وأخرجوا العمَلَ عن مُسمَّى الإيمانِ، وكانوا يقولونَ: إنَّ النَّاسَ مُتساوُونَ في هذه المعرفةِ كأسنانِ المُشطِ، لا يزيدُ أحدٌ فيها عن الآخَرِ؛ لأنَّ المعرفةَ والعِلمَ لا يزولانِ بالجَحدِ، والإيمانَ لا يتبعَّضُ إلى عَقدٍ وقولٍ وعَمَلٍ، ولا يتفاضَلُ فيه أهلُه [93] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 114)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 88)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 510)، ((أصول المخالفين لأهل السنة في الإيمان)) للقرني (ص: 11). .
قال وكيعٌ: (أهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، والمُرجِئةُ يقولونَ: إنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَمَلٍ، والجَهْميَّةُ يقولونَ: إنَّ الإيمانَ المعرفةُ) [94] يُنظر: ((الإيمان)) لابن أبي عمر العدني (ص: 96). .
وقال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (إنَّ أهلَ الإرجاءِ يقولونَ: إنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَمَلٍ، ويقولُ الجَهْميَّةُ: ‌الإيمانُ ‌المعرفةُ بلا قَولٍ لا وعَمَلٍ، ويقولُ أهلُ السُّنَّةِ: ‌الإيمانُ ‌المعرفةُ والقَولُ والعَمَلُ) [95] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/ 305)، ((تهذيب الآثار- مسند ابن عباس)) للطبري (2/660). .
وقال أبو الحسَنِ الأشعَريُّ عن الجَهْميَّةِ: (زعَموا أنَّ الكُفرَ باللهِ هو الجَهلُ به، وهذا قولٌ يُحكى عن جَهْمِ بنِ صَفوانَ، وزعَمَت الجَهْميَّةُ أنَّ الإنسانَ إذا أتى بالمعرفةِ ثُمَّ جَحَد بلسانِه أنَّه لا يَكفُرُ بجَحدِه، وأنَّ الإيمانَ لا يتبعَّضُ ولا يتفاضَلُ أهلُه فيه، وأنَّ الإيمانَ والكُفرَ لا يكونانِ إلَّا في القَلبِ دونَ غَيرِه من الجوارحِ) [96] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 114). . وقال أيضًا: (الذي تفرَّد به جَهْمٌ أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ فقط) [97] ((مقالات الإسلاميين)) (1/219). .
وقال القاضي العُمرانيُّ: (قالت ‌الجَهْميَّةُ: ‌الإيمانُ ‌التصديقُ بالقَلبِ لا غيرُ) [98] ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (3/ 737). .
وقال البَغداديُّ: (زعَمَت الجَهْميَّةُ أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ وَحدَها) [99] ((أصول الإيمان)) (ص: 249). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا ‌الجَهْميَّةُ فيَجعَلونَه تصديقَ القَلبِ، فلا تكونُ الشَّهادتانِ ولا الصَّلاةُ ولا الزَّكاةُ ولا غيرُهنَّ من ‌الإيمانِ) [100] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 154). .
وقال أيضًا: (أصلُ نزاعِ هذه ‌الفِرَقِ ‌في ‌الإيمانِ من الخوارجِ والمُرجِئةِ والمُعتَزِلةِ والجَهْميَّةِ وغيرِهم: أنَّهم جعَلوا الإيمانَ شيئًا واحدًا، إذا زال بعضُه زال جميعُه، وإذا ثبَت بعضُه ثبَت جميعُه، فلم يقولوا بذَهابِ بعضِه وبقاءِ بعضِه، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يخرجُ من النَّارِ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ حبَّةٍ من الإيمانِ )) [101] أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184) باختلافٍ يسيرٍ من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه؛ ولفظ البخاريِّ: ((يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثمَّ يقولُ الله تعالى: أخرِجوا من كان في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من خردَلٍ من إيمانٍ ...)). . ثُمَّ قالت الخوارجُ والمُعتَزِلةُ: الطَّاعاتُ كُلُّها من الإيمانِ، فإذا ذهَب بعضُها ذهَب بعضُ الإيمانِ، فذهَب سائرُه، فحكَموا بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ ليس معه شيءٌ من الإيمانِ. وقالت المُرجِئةُ والجَهْميَّةُ: ليس الإيمانُ إلَّا شيئًا واحدًا لا يتبعَّضُ، إمَّا مجرَّدُ تصديقِ القَلبِ كقَولِ الجَهْميَّةِ، أو تصديقُ القَلبِ واللِّسانِ كقَولِ المُرجِئةِ، قالوا: لأنَّا إذا أدخَلْنا فيه الأعمالَ صارت جزءًا منه، فإذا ذهبَت ذهَب بعضُه، فيلزَمُ إخراجُ ذي الكبيرةِ من الإيمانِ، وهو قولُ المُعتَزِلةِ والخوارجِ، لكنْ قد يكونُ له لوازمُ ودلائلُ، فيُستدَلُّ بعدَمِها على عدَمِه) [102] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 510). .
وهناك فَرقٌ جوهريٌّ بَينَ رأيِ الجَهْميَّةِ ممَّن قال: إنَّ الإيمانَ هو التصديقُ، وغيرِهم ممَّن قال بالتصديقِ مِن فِرَقِ المُرجِئةِ؛ فالجَهْميَّةُ عندما يقولونَ: إنَّ الإيمانَ هو التصديقُ، فهم يجعَلونَه تصديقًا مجرَّدًا عن الانقيادِ القلبيِّ؛ فمَن عَرَف بقَلبِه اللهَ فهو مُؤمِنٌ، ولا يُشتَرَطُ أن يتبَعَ تلك المعرفةَ خُضوعٌ وانقيادٌ، فيكونُ قد صدَّقه بقولِ قَلبِه وعَمَلِ قَلبِه محبَّةً وتعظيمًا.
وأمَّا الآخَرونَ الذين يقولونَ: إنَّ الإيمانَ مجرَّدُ التصديقِ؛ فإنَّهم يقصِدون تصديقَ القَلبِ وانقيادَه بإدخالِ أعمالِ القُلوبِ فيه، بأن يُؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، ويُصدِّقَه في جميعِ ما نزَل من الوَحيِ الإلهيِّ، فيكونُ الفَرقُ بَينَ المَذهَبينِ أنَّ جَهْمًا جعَل التصديقَ مجرَّدًا من أعمالِ القَلبِ، بينما غيرُه أدخَلَ فيه أعمالَ القُلوبِ [103] يُنظر: ((الإيمان بين السلف والمتكلمين)) للغامدي (ص: 109). .

انظر أيضا: