موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّاني: مَذهَبُ الجَهْميَّةِ في الكُفرِ وحقيقتِه


كما سبق في المبحَثِ الأوَّلِ فإنَّ جَهْمًا حصَر الإيمانَ في معرفةِ القَلبِ، وجعَل الكُفرَ ما ضادَّ ذلك، أي ذهابَ المعرفةِ أو التصديقِ، فلم يَرَ الكُفرَ غيرَ ذلك.
قال أبو الحسَنِ الأشعريُّ: (زعَموا أنَّ الكُفرَ باللهِ هو الجَهلُ به، وهذا قَولٌ يُحكى عن الجَهْمِ بنِ صَفوانَ، وزعَمَت الجَهْميَّةُ أنَّ الإنسانَ إذا أتى بالمعرفةِ ثُمَّ جحَد بلسانِه أنَّه لا يكفُرُ بجَحدِه، وأنَّ الإيمانَ لا يتبعَّضُ ولا يتفاضَلُ أهلُه فيه، وأنَّ الإيمانَ والكُفرَ لا يكونانِ إلَّا في القَلبِ دونَ الجوارحِ) [104] ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 114). .
وقال الشَّهْرَستانيُّ: (ومنها قَولُه «أي جَهْمٍ»: مَن أتى بالمعرفةِ ثُمَّ جحد بلسانِه لم يَكفُرْ بجَحدِه؛ لأنَّ العِلمَ والمعرفةَ لا يزولانِ بالجَحدِ، فهو مُؤمِنٌ) [105] ((الملل والنحل)) (1/ 88). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 401). .
وحَصرُ الكُفرِ في القَلبِ ممَّا ذهب إليه كثيرٌ من أهلِ الإرجاءِ -من غيرِ الجَهْميَّةِ- أيضًا، لكنْ منهم من لا يَقصُرُه على التكذيبِ والجهلِ، بل يُضيفُ إليه ما يناقِضُ عَمَلَ القلبِ، كالعداوةِ والاستِخفافِ.
وهؤلاء جميعًا يوافِقونَ أهلَ السُّنَّةِ في تكفيرِ مَن أتى الكُفرَ الظَّاهِرَ، كسَبِّ اللهِ أو التكَلُّمَ بالتثليثِ، أو السُّجودِ للصَّنَمِ، لكنَّهم لا يَرَونَ ذلك كُفرًا في ذاتِه، بل هو علامةٌ على الكُفرِ.
ومن هؤلاء أبو الحُسينِ الصَّالحيُّ؛ حيث وافق جَهْمًا في أنَّ الكُفرَ هو الجَهلُ باللهِ فقط، وأنَّ قَولَ القائِلِ: إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ليس كُفرًا، ولكِنَّه لا يظهَرُ إلَّا من كافرٍ؛ لأنَّ اللهَ كفَّر من قال ذلك، وأجمع المُسلِمونَ أنَّه لا يقولُه إلَّا كافِرٌ [106] يُنظر: ((الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير (ص:201). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 544)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 115)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 145)، ((الفرق بين الفرق)) للبغداي (ص195). .
وهذا ما اختاره الأشعريُّ في أحَدِ قَولَيه، قال ابنُ تيميَّةَ: (وقد ذكَرَ الأشعريُّ في كِتابِه "الموجَز" قولَ الصَّالحيِّ هذا وغيرَه، ثُمَّ قال: والذي أختارُه في الأسماءِ قَولَ الصَّالحيِّ) [107] ((مجموع الفتاوى (7/ 544، 509). وكثيرًا ما يقرِنُ ابنُ تيميَّةَ بين جَهمٍ والصالحيِّ، ويجعل الأشاعرةَ ممن نصروا قولهما في الإيمان. ولا شكَّ أن جهمًا والصالحيَّ متفقان على أن الإيمانَ هو المعرفةُ بالله فقط، وأنَّ الكفرَ هو الجهلُ به فقط، كما حكاه الأشعريُّ عنهما في المقالات، ونقله ابن تيمية، لكن عند التحقيقِ يتبيَّنُ أنَّ الصالحيَّ يخالِفُ جهمًا في مسألتينِ: الأولى: أنَّه زعم أنَّ معرفةَ اللهِ هي المحبَّةُ له، وهي الخضوعُ له. يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 115)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 544) فأثبت عملَ القلبِ، لكن جعَلَه نفسَ المعرفةِ. وأمَّا جهمٌ فلا يُثبت عملَ القلبِ كما تقدَّم. لكن مذهبُ الصالحيِّ باطلٌ أيضًا، ويلزم منه القولُ بأنَّ إبليسَ وفرعونَ لم يكونا مصدِّقينِ؛ لذَهابِ عمَلِ القَلبِ منهما، ولعلَّ ابنَ تيمية كان يشيرُ إلى الصالحيِّ ومن تبعه حين قال: (المرجِئةُ أخرجوا العملَ الظاهِرَ عن الإيمانِ، فمن قصَد منهم إخراجَ أعمالِ القلوبِ أيضًا، وجعلها هي التصديقَ، فهذا ضلالٌ بيِّنٌ) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 554). الثَّانيةُ: أنَّ ظاهِرَ ما نُقِل عن الصَّالحي أنَّه يحكُمُ بالكُفرِ باطنًا لمن أتى المكَفِّراتِ الظَّاهرةَ، وأمَّا جهمٌ فقد التزم أنَّ من قال الكُفرَ أو فعَلَه، فهو كافرٌ في الظاهِرِ مؤمِنٌ في الباطنِ، والأشعريُّ تَبِع قولَ الصالحيِّ، وخالف جهمًا في هذا. يُنظر: ((الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير (ص: 202). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 554). .
ومنهم: أبو مُعاذٍ التُّومنيُّ وأصحابُه، وكان يقولُ: (من قَتَل نبيًّا أو لطَمَه كَفَر، وليس من أجلِ اللَّطمةِ كَفَر، ولكِنْ من أجلِ الاستخفافِ والعداوةِ والبُغضِ له) [108] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 120)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 144). .
ومن هؤلاء: بِشرٌ المِرِّيسيُّ، وكان يزعُمُ (أنَّ السُّجودَ للشَّمسِ ليس بكُفرٍ، ولا السُّجودُ لغيرِ اللهِ كُفرٌ، ولكِنَّه عَلَمٌ على الكُفرِ؛ لأنَّ اللهَ بَيَّنَ أنَّه لا يسجُدُ للشَّمسِ إلَّا كافِرٌ) [109] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 120)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص:193).
قال ابنُ حزمٍ في بيانِ مَذهَبِ الجَهْميَّةِ ومن وافقَهم: (وأمَّا قولُهم: إنَّ إخبارَ اللهِ تعالى بأنَّ هؤلاء كُلَّهم كُفَّارٌ دليلٌ على أنَّ في قلوبِهم كُفرًا، وإنَّ شَتْمَ اللهِ تعالى ليس كُفرًا، ولكِنَّه دليلٌ على أنَّ في القَلبِ كُفرًا، وإن كان كافِرًا لم يعرِفِ اللهَ تعالى قطُّ؛ فهذه منهم دعاوى كاذبةٌ مُفتراةٌ لا دليلَ لهم عليها، ولا بُرهانَ لا من نَصٍّ ولا من سُنَّةٍ صحيحةٍ ولا سقيمةٍ، ولا من حُجَّةِ عَقلٍ أصلًا ولا من إجماعٍ ولا من قياسٍ، ولا من قَولِ أحدٍ من السَّلَفِ قَبلَ اللَّعينِ جَهْمِ بنِ صَفوانَ، وما كان هكذا فهو باطِلٌ وإفكٌ وزُورٌ) [110] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 112). .
وقال ابنُ حزمٍ أيضًا: (قد حكَمَ اللهُ تعالى بالكُفرِ على إبليسَ، وهو عالمٌ بأنَّ اللهَ خلَقَه من نارٍ، وخلَقَ آدمَ من طينٍ، وأمرَه بالسُّجودِ لآدَمَ وكرَّمَه عليه، وسأل اللهَ تعالى النَّظِرةَ إلى يومِ يُبعَثونَ.
ثُمَّ يقالُ لهم: إذ ليس شَتمُ اللهِ تعالى كُفرًا عندكم، فمِن أين قُلتُم: إنَّه دليلٌ على الكُفرِ؟!
فإن قالوا: لأنَّه محكومٌ على قائِلِه بحُكمِ الكُفرِ.
قيل لهم: محكومٌ عليه بنَفسِ قَولِه لا بمَغِيبِ ضَميرِه الذي لا يعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى، فإنَّما حَكَم له بالكُفرِ بقَولِه فقط، فقَولُه هو الكُفرُ، ومَن قَطَع على أنَّه في ضميرِه؟ وقد أخبَرَ اللهُ تعالى عن قومٍ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] ، فكانوا بذلك كُفَّارًا كاليهودِ الذين عَرَفوا صِحَّةَ نبُوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَعرِفون أبناءَهم، وهم مع ذلك كُفَّارٌ باللهِ تعالى قطعًا بيقينٍ؛ إذ أعلنوا كَلِمةَ الكُفرِ) [111] ((المحلى)) (11/ 411). .
والحاصِلُ أنَّ الجَهْميَّةَ ومن وافقَهم يحصُرون الكُفرَ في جَهلِ القَلبِ أو تكذيبِه، ومع ذلك يُكفِّرونَ من أتى المُكَفِّراتِ المجمَعَ عليها، كسَبِّ اللهِ، والسُّجودِ للصَّنَمِ، ويقولونَ: إنَّ الشَّارعَ جعَل ذلك أمارةً على الكُفرِ، وقد يكونُ صاحِبُه مُؤمِنًا في الباطِنِ!
هذا هو مَسلَكُهم العامُّ في هذه القضيَّةِ، يَنفون التلازُمَ بَينَ الظَّاهِرِ والباطِنِ، ويزعُمونَ أنَّ الإيمانَ يكونُ تامًّا صحيحًا في القَلبِ مع وُجودِ كَلِماتِ الكُفرِ الأكبَرِ وأعمالِه في الظَّاهِرِ، وأنَّه إن حُكِمَ لفاعِلِ ذلك بالكُفرِ ظاهِرًا، فلا يمنَعُ أن يكونَ مُؤمِنًا باطنًا، سعيدًا في الدَّارِ الآخِرةِ!
لكنْ إذا أُورِدَ عليهم نصٌّ أو إجماعٌ أنَّ شخصًا ما كافِرٌ ظاهرًا وباطنًا، مُعذَّبٌ في الآخِرةِ عذابَ الكُفرِ، كإبليسَ وفِرعَونَ، قالوا: هذا دليلٌ على انتفاءِ التصديقِ والعِلمِ مِن قَلبِه [112] يُنظر: ((الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير (ص:204). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 557). !
قال ابنُ تيميَّةَ: (مِن هنا يظهَرُ خطأُ قَولِ جَهْمِ بنِ صَفوانَ ومن اتَّبَعه؛ حيثُ ظنُّوا أنَّ الإيمانَ مجرَّدُ تصديقِ القَلبِ وعِلمِه، ولم يجعَلوا أعمالَ القلبِ من الإيمانِ، وظنُّوا أنَّه قد يكونُ الإنسانُ مُؤمِنًا كامِلَ الإيمانِ بقَلبِه وهو مع هذا يسُبُّ اللهَ ورسولَه، ويُعادي اللهَ ورسولَه، ويُعادي أولياءَ اللهِ، ويوالي أعداءَ اللهِ، ويقتُلُ الأنبياءَ، ويهدِمُ المساجِدَ، ويُهينُ المصاحِفَ، ويُكرِمُ الكُفَّارَ غايةَ الكرامةِ، ويُهينُ المُؤمِنينَ غايةَ الإهانةِ! قالوا: وهذه كُلُّها مَعاصٍ لا تنافي الإيمانَ الذي في قَلبِه، بل يفعَلُ هذا وهو في الباطِنِ عِندَ اللهِ مُؤمِنٌ! قالوا: وإنَّما ثبَت له في الدُّنيا أحكامُ الكُفَّارِ؛ لأنَّ هذه الأقوالَ أمارةٌ على الكُفرِ؛ ليُحكَمَ بالظَّاهِرِ كما يُحكَمُ بالإقرارِ والشُّهودِ، وإن كان في الباطِنِ قد يكونُ بخلافِ ما أقَرَّ به وبخِلافِ ما شَهِد به الشُّهودُ، فإذا أُورِدَ عليهم الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ على أنَّ الواحِدَ من هؤلاء كافِرٌ في نَفسِ الأمرِ مُعَذَّبٌ في الآخرةِ، قالوا: فهذا دليلٌ على انتفاءِ التَّصديقِ والعِلمِ من قَلبِه! فالكُفرُ عندهم شيءٌ واحدٌ، وهو الجَهلُ، والإيمانُ شيءٌ واحِدٌ، وهو العِلمُ، أو تكذيبُ القَلبِ وتصديقُه؛ فإنَّهم مُتنازِعونَ هل تصديقُ القلبِ شيءٌ غيرُ العلمِ أو هو هو؟ وهذا القَولُ مع أنَّه أفسَدُ قَولٍ قيلَ في الإيمانِ، فقد ذهب إليه كثيرٌ من أهلِ الكلامِ المُرجِئةِ) [113] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 188). .
وقال ابنُ تيميَّةَ بَعدَ ذِكرِ ما ألزَمَ به أحمدُ هؤلاء مِن القَولِ بإيمانِ من شَدَّ الزُّنَّارَ في وسَطِه، وصلَّى للصَّليبِ، وأتى الكنائِسَ والبِيَعَ؛ لأنَّه مُقِرٌّ باللهِ: (هذا الذي ذكَره الإمامُ أحمدُ من أحسَنِ ما احتجَّ النَّاسُ به عليهم، جمَعَ في ذلك جُمَلًا يقولُ غيرُه بعضَها. وهذا الإلزامُ لا محيدَ لهم عنه، ولهذا لمَّا عَرَف مُتكلِّمُهم مِثلُ جَهْمٍ ومَن وافقَه أنَّه لازِمٌ التَزموه وقالوا: لو فَعَل ما فَعَل من الأفعالِ الظَّاهرةِ لم يكُنْ بذلك كافِرًا في الباطِنِ، لكِنْ يكونُ دليلًا على الكُفرِ في أحكامِ الدُّنيا، فإذا احتُجَّ عليهم بنصوصٍ تقتضي أنَّه يكونُ كافرًا في الآخرةِ، قالوا: فهذه النُّصوصُ تدُلُّ على أنَّه في الباطِنِ ليس معه من مَعرفةِ اللهِ شيءٌ، فإنَّها عندهم شيءٌ واحدٌ. فخالفوا صريحَ المعقولِ وصريحَ الشَّرعِ) [114] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 401). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (هذانِ القِسمانِ (كُفرُ الجُحودِ والعنادِ، وكُفرُ الإعراضِ) أكثَرُ المُتكلِّمينَ يُنكِرونَهما ولا يُثبِتون من الكُفرِ إلَّا الأوَّلَ (كُفرَ التكذيبِ أو الجهلِ) ويجعَلونَ الثَّانيَ والثَّالثَ (كُفرَ الجُحودِ، والإعراضِ) كُفرًا لدلالاتِه على الأوَّلِ لا لأنَّه في ذاتِه كُفرٌ، فليس عندهم الكُفرُ إلَّا مجرَّدَ الجَهلِ، ومن تأمَّل القُرآنَ والسُّنَّةَ، وسِيَرَ الأنبياءِ في أممِهم ودَعوتَهم لهم وما جرى لهم معهم؛ جَزَم بخطَأِ أهلِ الكلامِ فيما قالوه، وعَلِم أنَّ عامَّةَ كُفرِ الأُمَمِ عن تيقُّنٍ وعِلمٍ ومَعرفةٍ بصِدقِ أنبيائِهم) [115] ((مفتاح دار السعادة) (1/ 94). .

انظر أيضا: