موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّامنُ: مِن مَضارِّ الفُرقةِ وآثارِها على الفردِ: تسلُّطُ الشَّيطانِ عليه ومُلازمتُه له


قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ * ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 175-176] .
قال السَّعديُّ: (يقولُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا، أي: علَّمْناه كتابَ اللهِ، فصار العالِمَ الكبيرَ والحَبرَ النِّحريرَ، فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، أي: انسلَخ مِن الاتِّصافِ الحقيقيِّ بالعِلمِ بآياتِ اللهِ؛ فإنَّ العِلمَ بذلك يُصَيِّرُ صاحِبَه مُتَّصِفًا بمكارِمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الأعمالِ، ويرقى إلى أعلى الدَّرجاتِ وأرفَعِ المقاماتِ، فترَك هذا كتابَ اللهِ وراءَ ظَهرِه، ونبَذ الأخلاقَ التي يأمُرُ بها الكتابُ، وخلَعها كما يخلَعُ اللِّباسَ، فلمَّا انسلَخ منها أتبَعه الشَّيطانُ، أي: تسلَّط عليه حينَ خرَج مِن الحِصنِ الحَصينِ، وصار إلى أسفَلِ سافِلينَ، فأزَّه إلى المعاصي أزًّا، فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، بَعدَ أن كان مِن الرَّاشِدينَ المُرشِدينَ. وهذا لأنَّ اللهَ تعالى خذَله ووكَله إلى نَفسِه؛ فلهذا قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا؛ بأن نُوفِّقَه للعَملِ بها، فيرتفِعَ في الدُّنيا والآخِرةِ، فيتحصَّنَ مِن أعدائِه، وَلَكِنَّهُ فعَل ما يقتضي الخِذلانَ، فأخلَد إلى الأرضِ، أي: إلى الشَّهواتِ السُّفليَّةِ، والمقاصِدِ الدُّنيويَّةِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترَك طاعةَ مولاه، فَمَثَلُهُ في شِدَّةِ حِرصِه على الدُّنيا وانقِطاعِ قَلبِه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، أي: لا يزالُ لاهِثًا في كُلِّ حالٍ، وهذا لا يزالُ حريصًا حِرصًا قاطِعًا قَلبَه، لا يسُدُّ فاقتَه شيءٌ مِن الدُّنيا، ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بَعدَ أن ساقها اللهُ إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذَّبوا بها وردُّوها؛ لهوانِهم على اللهِ، واتِّباعِهم لأهوائِهم بغَيرِ هُدًى مِن اللهِ، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضَربِ الأمثالِ، وفي العِبَرِ والآياتِ، فإذا تفكَّروا عَلِموا، وإذا عَلِموا عَمِلوا)  [262] ((تفسير السعدي)) (ص: 308).  .
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((عليكم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفُرقةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحِدِ، وهو مِن الاثنينِ أبعَدُ، مَن أراد بُحبوحةَ الجنَّةِ فلْيَلزَمِ الجماعةَ )) [263] أخرجه مطوَّلًا الترمذي (2165) واللَّفظُ له، وأحمد (114) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7254)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/26)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2165)، والوادعي بمجموع طرقه في ((أحاديث معلة)) (323). .
قال القارِيُّ: («بُحبوحةَ الجنَّةِ» أي: وَسطَها وخِيارَها، «فلْيلزَمِ الجماعةَ»، أي: السَّوادَ الأعظَمَ وما عليه الجُمهورُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ والسَّلفِ الصَّالِحينَ، فيدخُلُ فيه حُبُّهم وإكرامُهم دُخولًا أوَّليًّا؛ «فإنَّ الشَّيطانَ معَ الفَذِّ»، أي: مُقارِنٌ للفردِ الذي تفرَّد برأيِه، «وهو»، أي: الشَّيطانُ «مِن الاثنينِ أبعَدُ» أي: بعيدٌ)  [264] ((مرقاة المفاتيح)) (9/ 3879).  .

انظر أيضا: