الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: أنواعُ الإرادةِ الإلهيَّةِ

الإرادةُ في كتابِ اللهِ نوعانِ:
النوع الأوَّلُ: إرادةٌ دينيةٌ شرعيةٌ.
النوع الثاني: إرادةٌ كونيةٌ قدَريةٌ.
النوع الأوَّلُ: الإرادةُ الدينيَّةُ الشرعيَّةُ
وهي المتضَمِّنةُ للمَحَبَّةِ والرِّضا، ولا تستلزِمُ وقوعَ المرادِ، إلَّا إذا تعلَّقت به إرادةٌ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وهي تتناوَلُ جميعَ الطَّاعاتِ حدثت أو لم تحدُثْ.
وهي كقَولِ اللهِ تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .
وقَولِ اللهِ سُبحانَه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] .
وقَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26-28] .
وقَولِه تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] .
وهذه الإرادةُ تدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ اللهَ تعالى لا يحِبُّ الذُّنوبَ والمعاصيَ والضَّلالَ والكُفرَ، ولا يأمُرُ بها ولا يرضاها، وأنَّه يحِبُّ ما يتعلَّقُ بالأمورِ الدينيَّةِ ويرضاها ويثيبُ عليها أصحابَها، ويُدخِلُهم الجنَّةَ، وينصُرُهم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ.
النوع الثاني: الإرادةُ الكونيَّةُ القَدَريَّةُ
فما شاء اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، وهذه الإرادةُ تتناوَلُ ما حدث من الطَّاعاتِ والمعاصي دون ما لم يحدُثْ منها.
وهي كقَولِه تعالى: فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125] .
وقَولِه سُبحانَه: وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ [هود:34] .
وقَولِه عزَّ وجَلَّ: وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] .
وقَولِه تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا [الكهف:39] .
وهذه الإرادةُ إرادةٌ شاملةٌ لجميعِ الكائناتِ، فكُلُّ الحوادثِ الكونيَّةِ داخِلةٌ في مشيئةِ اللهِ تعالى، وهذه يشترِكُ فيها المؤمِنُ والكافِرُ والبَرُّ والفاجِرُ، وأهلُ الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ، وأولياءُ اللهِ وأعداؤه( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/187، 197). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (ففَرقٌ بين إرادةِ أفعالِه وإرادةِ مَفعولاتِه، فإنَّ أفعالَه خيرٌ كُلُّها وعدلٌ ومصلحةٌ وحِكْمةٌ لا شَرَّ فيها بوجهٍ من الوجوهٍ، وأما مفعولاتُه فهي مَورِدُ الانقسامِ، وهذا إنما يتحقَّقُ على قولِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الفِعلَ غَيرُ المفعولِ، والخَلْقَ غيرُ المخلوقِ، كما هو الموافِقُ للعُقولِ والفِطَرِ واللُّغةِ ودَلالةِ القُرآنِ والحديثِ وإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ، كما حكاه البغويُّ في «شرح السُّنَّة» عنهم.
وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان؛ إرادةُ أن يفعَلَ، ومرادها فِعْلُه القائِمُ به، وإرادةُ أن يفعَلَ عبدُه، ومرادُها مفعولُه المنفَصِلُ عنه، وليسا بمتلازمينِ؛ فقد يريد من عَبدِه أن يفعَلَ، ولا يريدُ من نَفْسِه إعانتَه على الفعلِ وتوفيقَه له وصَرْفَ موانِعِه عنه، كما أراد من إبليسَ أن يسجُدَ لآدَمَ، ولم يُرِدْ مِن نَفْسِه أن يُعينَه على السجودِ، ويُوَفِّقَه له، ويثبِّتَ قَلْبَه عليه، ويَصرِفَه إليه، ولو أراد ذلك منه لسجد له لا محالةَ.
وقَولُه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ إخبارُه عن إرادتِه لفِعْلِه لا لأفعالِ عَبيدِه، وهذا الفِعلُ والإرادةُ لا ينقسِمُ إلى خيرٍ وشرٍّ، كما تقدَّم، وعلى هذا فإذا قيل: هو مريدٌ للشَّرِّ، أوهم أنَّه محبٌّ له راضٍ به، وإذا قيل: إنه لم يُرِدْه، أوهم أنَّه لم يخلُقْه ولا كوَّنه، وكلاهما باطِلٌ؛ ولذلك إذا قيل: إنَّ الشَّرَّ فِعْلُه أو أنَّه يَفعَلُ الشَّرَّ، أوهم أنَّ الشَّرَّ فِعْلُه القائِمُ به، وهذا محالٌ، وإذا قيل: لم يفعَلْه أو ليس بفِعلٍ له، أوهم أنَّه لم يخلُقْه ولم يكَوِّنْه، وهذا مُحالٌ)( يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 666). .
ومن أقوالِ أهلِ العِلْم في الإرادةِ الإلهيَّةِ:
1- قال أبو حنيفةَ: (الفريضةُ بأمرِ اللهِ ومشيئتِه ومحبَّتِه ورِضاه، وقضائِه وقَدَرِه، وتخليقِه وحُكْمِه، وعِلمِه وتوفيقِه، وكتابتِه في اللَّوحِ المَحفوظِ... والمعصيةُ ليست بأمرِ اللهِ، ولكِنْ بمشيئتِه لا بمحبَّتِه، وبقَضائِه لا برِضاه، وبتقديرِه لا بتوفيقِه، وبخِذلانِه وعِلْمِه وكتابتِه في اللَّوحِ المَحفوظِ)( يُنظر: ((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 79-82). .
ورُوِيَ أنَّ أبا حنيفةَ سُئِلَ عن قَولِ اللهِ تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ فكيف يرضى أن يَخلُقَ الكُفرَ؟ فقال: (يشاءُ لهم، ولا يرضى به)( يُنظر: ((الفقه الأبسط)) (ص: 149). .
2- أشار أبو الحسَنِ الأشعريُّ إلى الفَرقِ بين الإرادتينِ، وأنَّ مشيئةَ اللهِ الشَّاملةَ نافِذةٌ، وإن لم يكُنِ الشَّيءُ المرادُ محبوبًا له، وأن إرادتَه الشرعيَّةَ مع كونِ الشَّيءِ المرادِ محبوبًا له غيرُ نافذةٍ؛ حيث قال: (وأجمعوا على أنَّ الخَلْقَ لا يَقدِرون على الخروجِ مما سبق في علمِ اللهِ فيهم، وإرادتِه لهم، وعلى أنَّ طاعتَه تعالى واجبةٌ عليهم فيما أمرهم به، وإن كان السَّابِقُ من عِلْمِه فيهم وإرادتِه لهم أنهم لا يطيعونَه، وأنَّ تَرْكَ معصيتِه لازمٌ لجميعِهم، وإن كان السَّابِقُ في عِلمِه وإرادتِه أنهم يعصونه، وأنَّه تعالى يطالِبُهم بالأمرِ والنَّهيِ، ويحمَدُهم على الطاعةِ فيما أُمِروا به، ويَذُمُّهم على المعصيةِ فيما نُهُوا عنه، وأنَّ جميعَ ذلك عدلٌ منه تعالى عليهم، كما أنَّه تعالى عادِلٌ على من خلقه منهم مع عِلمِه أنَّه يَكفُرُ إذا أمره، وأعطاه القُدْرةَ التي يَعلَمُ أنها تصَيِّرُه إلى معصيتِه، وأنَّه عدلٌ في تَبقِيَتِه المؤمنين إلى الوقتِ الذي يَعلَمُ أنهم يَكفُرون فيه ويرتدُّون عما كانوا عليه من إيمانِهم، وتعذيبِهم لهم على الجُرم ِالمنقَطِعِ بالعذابِ الدَّائِمِ؛ لأنَّه عزَّ وجَلَّ مَلَك لجميعِ ذلك فيهم غيرُ محتاجٍ في فِعْلِه إلى تمليكِ غيرِه له ذلك، حتى يكونَ جائِرًا فيه قبل تملُّكِه، بل هو تعالى في فِعلِ جميعِ ذلك عادِلٌ له، وله مالِكٌ يفعَلُ ما يشاءُ، كما قال عزَّ وجَلَّ: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)( يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص 143). .
3- قال الآجُرِّي في حديث: ((كُلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له))( أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) مُطَوَّلًا من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. : (اعلَمْ -رحمك اللهُ- أنَّ الإيمانَ بهذا واجِبٌ، قد أمر العِبادَ أن يعملوا بما أُمِروا من طاعةِ اللهِ، وينتهوا عما نُهوا عنه من المعصيةِ، واللهُ بعد ذلك مُوَفِّقٌ من أحَبَّ لطاعتِه ومُقَدِّرٌ مَعصيتَه على من أراد غيرُ ظالمٍ لهم، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النحل: 93] ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ، أحبَّ من عباده الطاعةَ وأمر بها، فكانت بتوفيقِه، وزجر عن المعصيةِ وأراد كونَه غيرَ محبٍّ لها ولا آمِرٍ بها، تعالى عزَّ وجَلَّ عن أن يأمُرَ بالفحشاءِ، وجَلَّ أن يكونَ في مُلكِه ما لا يريدُ. هذا رحمك اللهُ، طريقُ أهلِ العِلْم من الصَّحابةِ والتابعينَ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ، وأئمَّةِ المسلمينَ)( يُنظر: ((الأربعون حديثًا)) (ص: 92). .
4- قال أبو عثمانَ الصَّابونيُّ: (من مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ مريدٌ لجميعِ أعمالِ العِبادِ خيرِها وشَرِّها، ولم يؤمِنْ أحدٌ إلَّا بمشيئتِه، ولو شاء لجعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولو شاء ألَّا يُعصى ما خلق إبليسَ، فكفرُ الكافرين وإيمانُ المؤمنين بقضائِه سُبحانَه وتعالى وقَدَرِه، وإرادتِه ومشيئتِه، أراد كُلَّ ذلك وشاءه وقضاه، ويرضى الإيمانَ والطاعةَ، ويَسخَطُ الكُفرَ والمعصيةَ)( يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 286). .
5- قال أبو الفَرَجِ الشيرازيُّ الحنبليُّ: (يسألُ عن اللهِ تعالى: هل أراد المعصيةَ مِنَ الخَلْقِ أم لا؟ فإن قال: الخيرُ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه ورِضائِه ومحبَّتِه، وسعادةٌ للعَبدِ، والشَّرُّ بقَضائِه وقَدَرِه لا بأمْرِه ورِضائِه ومحبَّتِه، وشقاوةٌ للعَبدِ، فهو سُنِّيٌّ. وإن قال غيرَه فهو مُعتَزِليٌّ قَدَريٌّ
دليلُنا: قَولُه تعالى لآدَمَ وحوَّاءَ عليهما السَّلامُ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة: 35] ، وأراد أن يأكُلَا منها فأكَلَا. وأمَرَ اللَّعينَ إبليسَ، فقال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ [ص: 75] ، ولم يُرِدْ منه السُّجودَ فلم يسجُدْ.
وقال لفِرعَونَ إخبارًا عن موسى عليه السَّلامُ، ولنمرودَ عن إبراهيمَ: فما آمَنوا، وهذا دليلٌ على أنَّ له إرادةً بغيرِ أمرٍ، وأمرًا بغيرِ إرادةٍ)( يُنظر: ((جزء فيه امتحان السني من البدعي)) (ص: 288). .
6- قال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (فَصلٌ في إثباتِ صِفةِ المحبَّةِ، والفَرقِ بينها وبين الإرادةِ، والإرادةُ غيرُ المحبَّةِ والرِّضا؛ فقد يريدُ ما لا يحبُّه ولا يرضاه، بل يكرَهُه ويَسخَطُه ويُبغِضُه. قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ اللهَ يُقَدِّرُ ما لا يرضاه، بدليلِ قَولِه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ، وقال قومٌ من المتكلِّمين: من أراد شيئًا فقد أحبَّه ورَضِيَه، وإنَّ اللهَ تعالى رَضِيَ المعصيةَ والكُفرَ! ودليلُنا: أنَّه قد ثبت إرادتُه للكُفرِ ونَفيُ رضاه به، فقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] ، وقال: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ، فأثبت الإرادةَ ونفى الرِّضا)( يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 458-460). .
7- قال يحيى بنُ أبي الخيرِ العمرانيُّ في رَدِّه على من زعم أنَّ الإرادةَ والمحبَّةَ مترادفان: (إنَّا لا نُسلِّم له أنَّ المحبَّةَ هي الإرادةُ، بدليلِ قَولِه تعالى: فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32] ، ومعلومٌ أنَّه أراد وجودَهم وخَلْقَهم، وإنما معنى أنَّه لا يحِبُّهم، أي: لا يرضى عمَلَهم، أو لا يغفرُ لهم، فيكونُ معنى قَولِه: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205] ؛ أي: لا يرضاه رَبُّنا، كقَولِه: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] ؛ أي: لا يرضاه لهم دينًا، وإن أراد وقوعَه منهم)( يُنظر: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (1/ 315). .
8- قال ابنُ تيميَّةَ: (الإرادةُ المُتعَلِّقةُ بفِعْلِه يكونُ مرادُها كذلك؛ فإنه ما شاء كان وما لم يشَأْ لم يكُنْ، وأما الإرادةُ الموجودةُ في أمْرِه وشَرْعِه، فهو كقَولِه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6] الآية. وقَولِه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ، ونحو ذلك. فهذه إرادتُه لِما أمر به، بمعنى أنَّه يحبُّه ويرضاه ويثيبُ فاعِلَه، لا بمعنى أنَّه أراد أن يَخلُقَه، فيكونُ كما قال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] الآية. وكما قال نوحٌ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 34] فهذه إرادةٌ لِما يَخلُقُه ويُكَوِّنُه، كما يقول المسلمون: ما شاء اللهُ كان وما لم يشَأْ لم يكُنْ، وهذه الإرادة مُتعَلِّقةٌ بكُلِّ حادثٍ، والإرادةُ الشرعيَّةُ الأمريَّةُ لا تتعَلَّقُ إلَّا بالطَّاعاتِ، كما يقول النَّاسُ لِمن يفعلُ القبيحَ: يفعَلُ شيئًا ما يريدُه اللهُ، مع قَولهم: ما شاء اللهُ كان وما لم يشأ لم يكُنْ، فإن هذه الإرادةَ نوعان)( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 581). .
وقال أيضًا: (إنَّ المحقِّقين من أهلِ السُّنَّةِ يقولون: إنَّ الإرادةَ نوعان: إرادةُ الخَلْقِ، وإرادةُ الأمرِ؛ فإرادةُ الأمرِ أن يريدَ مِن المأمورِ فِعلَ ما أَمَر به، وإرادةُ الخَلْقِ أن يرُيدَ هو خَلْقَ ما يحدِثُه من أفعالِ العِبادِ وغيرِها. والأمرُ مُستلزِمٌ للإرادةِ الأُولى دون الثانيةِ.
واللهُ تعالى أمَرَ الكافِرَ بما أراده منه بهذا الاعتبارِ، وهو ما يحِبُّه ويرضاه، ونهاه عن المعصيةِ التي لم يُرِدْها منه، أي: لم يحِبَّها ولم يَرْضَها بهذا الاعتبارِ؛ فإنَّه لا يرضى لعبادِه الكُفرَ ولا يحِبُّ الفَسادَ. وقد قال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [سورة النساء: 108]، وإرادةُ الخَلْقِ هي المشيئةُ المُستَلزِمةُ لوُقوعِ المرادِ، فهذه الإرادةُ لا تتعلَّقُ إلَّا بالموجودِ، فما شاء الله كان وما لم يشَأْ لم يكُنْ. وفَرقٌ بين أن يريدَ هو أن يفعَلَ، فإنَّ هذا يكونُ لا محالةَ؛ لأنَّه قادِرٌ على ما يريدُه، فإذا اجتمعت الإرادةُ والقُدْرةُ وجب وجودُ المرادِ، وبَيْن أن يريدَ مِن غَيرِه أن يفعَلَ ذلك الغيرُ فِعلًا لنَفْسِه؛ فإن هذا لا يلزَمُ أن يُعِينَه عليه)( يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 180). .
9- قال ابنُ القَيِّمِ: (هاهنا أمرٌ يجِبُ التنبيهُ عليه والتنبُّهُ له، وبمعرفتِه تزولُ إشكالاتٌ كثيرةٌ، تَعرِضُ لِمن لم يُحِطْ به عِلمًا، وهو أنَّ اللهَ سُبحانَه له الخَلْقُ والأمرُ، وأمرُه سُبحانَه نوعان: أمرٌ كونيٌّ قَدَريٌّ، وأمرٌ دينيٌّ شرعيٌّ؛ فمشيئته سُبحانَه مُتعَلِّقةٌ بخَلقِه وأمرِه الكونيِّ، وكذلك تتعلَّقُ بما يحِبُّ وبما يكرَهُه، كلُّه داخِلٌ تحت مشيئتِه، كما خلق إبليسَ وهو يُبغِضُه، وخلق الشَّياطينَ والكُفَّارَ والأعيانَ والأفعالَ المسخوطةَ له، وهو يُبغِضُها، فمشيئتُه سُبحانَه شامِلةٌ لذلك كُلِّه. وأمَّا محبَّتُه ورضاه فمُتعَلِّقةٌ بأمْرِه الدِّينيِّ وشَرْعِه الذي شرعَه على ألسِنَةِ رُسُلِه، فما وُجِدَ منه تعلَّقت به المحبَّةُ والمشيئةُ جميعًا، فهو محبوبٌ للرَّبِّ، واقِعٌ بمشيئتِه، كطاعاتِ الملائكةِ والأنبياءِ والمؤمنين، وما لم يوجَدْ منه تعلَّقَت به محبَّتُه وأمرُه الدينيُّ، ولم تتعلَّقْ به مشيئتُه. 
وما وُجِدَ من الكُفرِ والفُسوقِ والمعاصي تَعلَّقَت به مشيئتُه، ولم تتعلَّقْ به محبَّتُه ولا رِضاه ولا أمرُه الدِّينيُّ، وما لم يوجَدْ منها لم تتعلَّقْ به مشيئتُه ولا محبَّتُه؛ فلفظُ المشيئةِ كَونيٌّ، ولفظُ المحبَّةِ دينيٌّ شرعيٌّ، ولفظُ الإرادةِ ينقَسِمُ إلى إرادةٍ كونيَّةٍ، فتكونُ هي المشيئةَ، وإرادةٍ دينيَّةٍ، فتكونُ هي المحبَّةَ)( يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 133). .
10- قال ابنُ كثير في تفسيرِ قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] : (مضمونُ كلامِهم: أنَّه لو كان تعالى كارِهًا لِما فعَلْنا، لأنكَرَه علينا بالعقوبةِ ولَمَا مَكَّنَنا منه. قال اللهُ رادًّا عليهم شُبْهَتَهم: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أي: ليس الأمرُ كما تزعمون أنَّه لم يُعَيِّرْه عليكم ولم يُنكِرْه، بل قد أنكره عليكم أشدَّ الإنكارِ، ونهاكم عنه آكَدَ النَّهيِ، وبعث في كُلِّ أمَّةٍ رسولًا، أي: في كُلِّ قَرنٍ مِن النَّاسِ وطائفةٍ رسولًا، وكُلُّهم يدعو إلى عبادةِ اللهِ، وينهى عن عبادةِ ما سواه... فكيف يسوغُ لأحدٍ من المُشرِكين بعد هذا أن يقولَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فمشيئتُه تعالى الشرعيَّةُ مُنتَفِيةٌ؛ لأنَّه نهاهم عن ذلك على ألسِنَةِ رُسُلِه، وأمَّا مشيئتُه الكونيَّةُ -وهي تمكينُهم من ذلك قَدَرًا- فلا حُجَّةَ لهم فيها؛ لأنَّه تعالى خلق النَّارَ وأهلَها من الشياطينِ والكَفَرةِ، وهو لا يرضى لعبادِه الكُفرَ، وله في ذلك حُجَّةٌ بالغةٌ وحِكْمةٌ قاطِعٌة)( يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 570). .
11- قال ابنُ أبي العز: (المحَقِّقون من أهلِ السُّنَّةِ يقولونَ: الإرادةُ في كتابِ اللهِ نوعان: إرادةٌ قَدَريَّةٌ كونيَّةٌ خَلْقِيَّةٌ، وإرادةٌ دينيَّةٌ أمْرِيَّةٌ شرعيَّةٌ؛ فالإرادةُ الشَّرعيَّةُ هي المتضَمِّنةُ للمَحبَّةِ والرِّضا، والكونيَّةُ هي المشيئةُ الشَّامِلةُ لجميعِ الحوادِثِ)( يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 79). .
12- وقال جمال الدِّينِ القاسميُّ في تفسيرِ قَولِه تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] : (إنَّ مشيئةَ اللهِ تعالى وقضاءَه وقَدَرَه لا تستلزِمُ محبَّتَه ورضاه لكُلِّ ما شاءه وقدَّره، وهؤلاء المُشرِكون لَمَّا استدلُّوا بمشيئته على محبَّتِه ورضاه كذَّبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنَّه لا عِلْمَ لهم بذلك، وأنهم خارِصون مُفترون؛ فإنَّ محبَّةَ اللهِ للشَّيءِ ورضاه به إنما يُعلَمُ بأمرِه به على لسانِ رَسولِه، لا بمجَرَّدِ خَلْقِه؛ فإنَّه خلق إبليسَ وجنودَه، وهم أعداؤه، وهو سُبحانَه يُبغِضُهم ويلعَنُهم، وهم خَلْقُه، فهكذا في الأفعالِ؛ خَلَق خَيْرَها وشَرَّها، وهو يحِبُّ خَيْرَها ويأمُرُ به ويثيبُ عليه، ويُبغِضُ شَرَّها وينهى عنه ويعاقِبُ عليه، وكلاهما خَلْقُه. وللهِ الحِكْمةُ البالغةُ التامَّةُ في خَلْقِه ما يُبغِضُه ويَكرَهُه من الذَّواتِ والصِّفاتِ والأفعالِ، كُلٌّ صادِرٌ عن حِكْمَتِه وعِلْمِه، كما هو صادِرٌ عن قُدرتِه ومشيئتِه)( يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (4/ 527). .
13- قال محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشيخِ: (الإرادةُ إرادتان: كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وشرعيَّةٌ دينيَّةٌ. وأمَّا المشيئةُ فلم تَرِدْ في النصوصِ إلَّا كونيَّةً قَدَريَّةً، فلا تنقَسِمُ. والشرعيَّةُ الدينيَّةُ تستلزِمُ محبَّتَه ورضاه سُبحانَه وتعالى بخِلافِ الكونيَّةِ القَدَريةِ؛ فالإرادةُ في النُّصوصِ على قِسمَينِ: كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، وهذه موافِقةٌ للمَشيئةِ، وإرادةٌ شرعيَّةٌ دينيَّةٌ، فأراد اللهُ من العِبادِ شرعًا عبادَتَه، والعِبادُ انقسموا على قسمين: قسمٌ أطاعوا، فاجتمع فيهم الإرادتانِ، فالكونيَّةُ شَرطُ وُجودِ الفِعلِ. وقِسمٌ عَصَوا، فانفردت الكونيَّةُ فيهم، ولا حَظَّ لهم في الشرعيَّةِ. وليست الكونيَّةُ حُجَّةً لأحدٍ. إذا عرفنا ذلك فالإرادتانِ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ، يجتمعان في المُطيعِ، ويفترقان في العاصي، فالمطيعُ أطاع اللهَ فيما أراده اللهُ منه شرعًا ودينًا، وتَبِعَ الإرادةَ الكونيَّةَ القَدَريَّةَ، وانفردت الكونيَّةُ القَدَريةُ في حقِّ العاصي)( يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 49). .
14- قال الشنقيطيُّ: (الإرادةُ قد تكونُ دينيَّةً شرعيَّةً، وهي ملازِمةٌ للأمرِ والرِّضا، وقد تكونُ كونيَّةً قَدَريَّةً، وليست ملازمةً لهما؛ لأنَّ اللهَ يأمر الجميعَ بالأفعالِ المرادةِ منهم دينًا، ويريدُ ذلك كونًا وقدرًا من بعضِهم دون بعضٍ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ، فقَولُه: إِلَّا لِيُطَاعَ: أي: فيما جاء به من عندِنا؛ لأنَّه مطلوبٌ مرادٌ من المكَلَّفينَ شَرعًا ودينًا، وقَولُه: بِإِذْنِ اللَّهِ يدُلُّ على أنَّه لا يقَعُ إلَّا ما أراده اللهُ كونًا وقَدَرًا)( يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/448). .
15- قال ابنُ باز: (من مراتِبِ الإيمانِ بالقَدَرِ: أنَّه سُبحانَه وتعالى لا يوجَدُ في مُلكِه ما لا يريدُ، ولا يقَعُ شيءٌ في السَّماءِ والأرضِ إلَّا بمشيئتِه... قال عزَّ وجَلَّ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125] ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا، معلومةٌ من كتابِ اللهِ، والإرادةُ في هذه الآيةِ بمعنى المشيئةِ، وهي إرادةٌ كونيَّةٌ قَدَريَّةٌ، بخلاف الإرادةِ في قَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 26 - 28] فالإرادةُ في هذه الآياتِ الثَّلاثِ إرادةٌ شرعيَّةٌ أو دينيَّةٌ، بمعنى المحبَّةِ.
والفَرقُ بين الإرادتينِ: الأولى: لا يتخَلَّفُ مرادُها أبدًا، بل ما أراده اللهُ كونًا، فلا بدَّ من وقوعِه كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أما الإرادةُ الشرعيَّةُ فقد يوجَدُ مرادُها من بعضِ النَّاسِ وقد يتخلَّفُ. وإيضاحُ ذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه أخبر أنَّه يريدُ البيانَ للناسِ والهدايةَ والتوبةَ، ومع ذلك أكثَرُ الخَلْقِ لم يهتَدِ ولم يُوفَّقْ للتوبةِ ولم يتبصَّرْ في الحقِّ؛ لأنَّه سُبحانَه وتعالى قد أوضح الحُجَّةَ والدليلَ، وبَيَّن السبيلَ وشرع أسبابَ التوبةِ وبَيَّنها، ولكِنَّه لم يشَأْ لبعضِ النَّاسِ أن يهتديَ أو يتوبَ أو يتبصَّرَ؛ فذلك لم يقَعْ منه ما أراده اللهُ شرعًا؛ لِما قد سبق في عِلمِ اللهِ وإرادتِه الكونيَّةِ من أنَّ هذا الشخصَ المعَيَّنَ لا يكونُ من المهتدين ولا ممَّن يوفَّقُ للتوبةِ.
وهذا بحثٌ عظيمٌ ينبغي تفهُّمُه وتعَقُّلُه والتبصُّرُ في أدِلَّتِه؛ لِيَسلَمَ المؤمِنُ من إشكالاتٍ كثيرةٍ وشُبُهاتٍ مُضِلَّةٍ حار فيها الكثيرُ من النَّاسِ لعَدَمِ تحقيقِهم للفَرقِ بين الإرادتينِ، وممَّا يزيدُ المقامَ بيانًا أنَّ الإرادتينِ تجتَمِعان في حقِّ المؤمنِ، فهو إنما آمنَ بمشيئةِ اللهِ وإرادتِه الكونيَّةِ، وهو في نفسِ الوقتِ قد وافق بإيمانِه وعَمَلِه الإرادةَ الشرعيَّةَ، وفعَلَ ما أراده اللهُ منه شرعًا وأحَبَّه منه، وتنفَرِدُ الإرادةُ الكونيَّةُ في حَقِّ الكافِرِ والعاصي، فهو إنما كفر وعصى بمشيئةِ اللهِ وإرادتِه الكونيَّةِ، وقد تخلَّفَت عنه الإرادةُ الشرعيَّةُ؛ لكَونِه لم يأتِ بمرادِها، وهو الإسلامُ والطَّاعةُ، فتنَبَّهْ وتأمَّلْ، واللهُ الموَفِّقُ)( يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 59). .
16- قال ابنُ عثيمين: (الإرادةُ تنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: إرادةٌ كونيَّةٌ: وهذه الإرادةُ مُرادِفةٌ تمامًا للمشيئةِ، فـ «أراد» فيها بمعنى «شاء»، وهذه الإرادةُ:
أوَّلًا: تتعلَّقُ فيما يحبُّه اللهُ وفيما لا يحبُّه.
وعلى هذا فإذا قال قائلٌ: هل أراد اللهُ الكُفْرَ؟ فقل: بالإرادةِ الكونيَّةِ نعم أراده، ولو لم يُرِدْه اللهُ عزَّ وجَلَّ، ما وقع.
ثانيًا: يلزمُ فيها وقوعُ المرادِ، يعني: أن ما أراده اللهُ فلا بدَّ أن يقعَ، ولا يمكِنُ أن يتخلَّفَ.
القِسم الثاني: إرادة شرعيَّةٌ: وهي مرادفةٌ للمحبَّةِ، فـ «أراد» فيها بمعنى «أحبَّ»، فهي:
أوَّلًا: تختصُّ بما يحبُّه اللهُ، فلا يريدُ اللهُ الكُفرَ بالإرادةِ الشرعيَّةِ ولا الفِسْقَ.
ثانيًا: أنَّه لا يلزَمُ فيها وقوعُ المرادِ، بمعنى: أنَّ اللهَ يريدُ شيئًا ولا يقَعُ، فهو سُبحانَه يريدُ من الخَلْقِ أن يَعبُدوه، ولا يلزَمُ وقوعُ هذا المرادِ، قد يَعبُدونه وقد لا يَعبُدونه، بخلافِ الإرادةِ الكونيَّةِ.
فصار الفرقُ بين الإرادتينِ مِن وَجهَينِ:
1- الإرادةُ الكونيَّةُ: يلزَمُ فيها وقوعُ المرادِ، والشرعيَّةُ لا يلزَمُ.
2- الإرادةُ الشرعيَّةُ: تختصُّ فيما يحبُّه اللهُ، والكونيَّة عامَّةٌ فيما يحبُّه وما لا يحبُّه)( يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/ 222). .
والمخلوقاتُ مع كلٍّ من الإرادتينِ أربعةُ أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: ما تعلَّقَت به الإرادتانِ.
وهو ما وقع في الوجودِ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ، فإنَّ اللهَ أراده إرادةَ دينٍ وشَرعٍ، فأمره وأحبَّه ورَضِيه، وأراده إرادةَ كَونٍ فوقع، ولولا ذلك ما كان.
القِسمُ الثاني: ما تعلَّقَت به الإرادةُ الشرعيَّةُ فقط.
وهو ما أمَرَ اللهُ به من الأعمالِ الصَّالحة، فعصى ذلك الكُفَّارُ والفُجَّارُ، فتلك كلُّها إرادةُ دينٍ، وهو يحبُّها ويرضاها وقعت أم لم تقَعْ.
القسم الثَّالِثُ: ما تعلَّقَت به الإرادةُ الكونيَّة فقط.
وهو ما قدَّره اللهُ وشاءه من الحوادثِ التي لم يأمُرُ بها، كالمباحات والمعاصي، فإنَّه لم يأمُرْ بها، ولم يَرْضَها، ولم يحِبَّها؛ إذ هو لا يأمُرُ بالفحشاءِ، ولا يرضى لعبادِه الكُفرَ، ولولا مشيئتُه وقُدرتُه وخَلْقُه لها لَمَا كانت ولَمَا وُجِدَت، فإنَّه ما شاء اللهُ كان وما لم يشَأْ لم يكُنْ.
القسم الرَّابعُ: ما لم تتعَلَّقْ به الإرادتانِ.
فهذا يتعلَّقُ بما لم يقَعْ ولم يوجَدْ من أنواعِ المباحاتِ والمعاصي( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/188). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (السعيدُ من أراد منه تقديرًا ما أراد به تشريعًا، والعبدُ الشَّقيُّ من أراد به تقديرًا ما لم يُرِدْ به تشريعًا، والحُكمُ يجري على وَفقِ هاتين الإرادتينِ؛ فمن نظر إلى الأعمالِ بهاتين العينينِ كان بصيرًا، ومن نظر إلى القَدَرِ دون الشَّرعِ أو الشَّرعِ دونَ القَدَرِ، كان أعوَرَ مِثلَ قُرَيشٍ الذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] ، قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] )( يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 198). .

انظر أيضا: