موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: صُوَرُ التَّواضُعِ


1- تواضُعُ الإنسانِ في نفْسِه:
ويكونُ ذلك بألَّا يظُنَّ أنَّه أعلَمُ من غيرِه، أو أتقى من غيرِه، أو أكثَرُ ورَعًا من غيرِه، أو أكثَرُ خَشيةً للهِ من غيرِه، أو يظُنُّ أنَّ هناك من هو شرٌّ منه، ولا يظُنَّ أنَّه قد أخَذ صَكًّا بالغفرانِ، وآخَرَ بدُخولِ الجنَّةِ! لأنَّ القلوبَ بَيْنَ إصبعَينِ من أصابعِ الرَّحمنِ يُقَلِّبُها كيف يشاءُ؛ يقولُ اللَّهُ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال: 24] .
عن صالحٍ المُرِّيِّ قال: (خرج الحَسَنُ ويونُسُ وأيوبُ يتذاكرون التَّواضُعَ، فقال لهما الحَسَنُ: وهل تدرون ما التَّواضُعُ؟ التَّواضُعُ: أن تخرُجَ من منزلِك فلا تَلْقَ مُسلمًا إلَّا رأيتَ له عليك فضلًا) [2245]رواه ابنُ أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (116). .
وفي روايةٍ عن هشامِ بنِ حَسانَ، قال: (ذكَروا التَّواضُعَ عِندَ الحسَنِ وهو ساكِتٌ، حتى إذا أكثروا عليه، قال لهم: أراكم قد أكثرتُم الكلامَ في التَّواضُعِ، قالوا: أيُّ شيءٍ التَّواضُعُ يا أبا سعيدٍ؟ قال: يخرجُ من بيتِه فلا يلقى مسلمًا إلَّا ظنَّ أنَّه خيرٌ منه) [2246] ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (1598). .
وقال أبو زيدٍ: (ما دام العبدُ يظُنُّ أنَّ في الخلقِ من هو شَرٌّ منه فهو متكبِّرٌ، فقيل له: فمتى يكونُ متواضعًا؟ قال: إذا لم يَرَ لنفسِه مقامًا ولا حالًا).
ومن التَّواضُعِ ألَّا يعظُمَ في عينِك عَمَلُك، إن عمِلتَ خيرًا، أو تقرَّبتَ إلى اللَّهِ تعالى بطاعةٍ؛ فإنَّ العمَلَ قد لا يُقبَلُ، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ؛ ولهذا قال بعضُ السَّلفِ: (لو أعلمُ أنَّ اللَّهَ قَبِل مني تسبيحةً لتمنَّيتُ أن أموتَ الآنَ!).
ومن ذلك: التَّواضُعُ عندما تسمَعُ نصيحةً؛ فإنَّ الشَّيطانَ يدعوك إلى ردِّها، وسوءِ الظَّنِّ بالنَّاصحِ؛ لأنَّ معنى النَّصيحةِ أنَّ أخاك يقولُ لك: إنَّ فيك من العيوبِ كيتَ وكيتَ.
وكم مرَّةٍ أتعبتُكم بنصيحتي
وقد يستفيدُ البِغضةَ المتنَصِّحُ
أمَّا مَن عصمَه اللَّهُ تعالى فإنَّه إذا وَجَد مَن ينصَحُه ويدُلُّه على عيوبِه، قهَرَ نفسَه وقَبِل منه، ودعا له وشكَرَه؛ ولهذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تعريفِ الكِبرِ: ((الكِبرُ: بطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ)) [2247] أخرجه مسلم (91) مطوَّلًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
يعني: ردَّ الحقِّ، وبَخسَ النَّاسِ أشياءَهم. فالمستكبرُ صاحِبُ نفسيَّةٍ متعاظمةٍ لا يكادُ يمدَحُ أحدًا أو يذكُرُه بخيرٍ، وإن احتاج إلى ذلك شفَعَه بذكرِ بعضِ عُيوبِه.
أمَّا إن سمع من يُذَكِّرُه ببعضِ عُيوبِه فهيهاتَ أن ينصاعَ أو يَلينَ، وما ذاك إلَّا لمركَّبِ النَّقصِ في نفسِه؛ ولهذا كان من كمالِ الإنسانِ أن يقبَلَ النَّقدَ والملاحظةَ بدونِ حساسيةٍ أو انزعاجٍ أو شعورٍ بالخَجَلِ والضَّعفِ، وها هو أميرُ المُؤمِنين عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه يحمِلُ الرَّايةَ، ويرفَعُ الشِّعارَ: (رَحِم اللَّهُ من أهدى إليَّ عُيوبي) [2248] رواه الدارمي (649). .
2- التَّواضُعُ في التَّعلُّمِ:
قال الشَّافعيُّ: (لا يَطلُبُ هذا العِلمَ أحدٌ بالمُلكِ وعِزَّةِ النَّفسِ فيُفلِحَ، لكِنْ من طلبَه بذِلَّةِ النَّفسِ، وضيقِ العيشِ، وخِدمةِ العِلمِ، وتواضُعِ النَّفسِ، أفلَح) [2249] ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 141). .
وعن الأصمعيِّ قال: (مَن لم يتحمَّلْ ذُلَّ التَّعلُّمِ ساعةً، بقيَ في ذُلِّ الجَهلِ أبدًا) [2250] ((المدخل إلى السنن الكبرى)) للبيهقي (ص: 278). .
قال عبدُ اللَّهِ بنُ المعتزِّ: (المتواضِعُ في طَلَبِ العِلمِ أكثَرُهم عِلمًا، كما أنَّ المكانَ المنخَفِضَ أكثَرُ البقاعِ ماءً) [2251] ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مُفلِح (2/ 25). .
وقد نَظَم أبو عامرٍ النَّسَويُّ، فقال:
العلمُ يأتي كُلَّ ذي
خفضٍ، ويأبى كُلَّ آبي
كالماءِ يَنزِلُ في الوِها
دِ [2252] الوِهادُ: جمعُ الوَهدةِ، وهي المطمَئِنُّ من الأرضِ، والمكانُ المنخفِضُ كأنَّه حُفرةٌ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (9/ 331). ، وليس يَصعَدُ في الرَّوابي [2253] ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مُفلِح (2/ 25). والرَّوابي: جمعُ الرَّابيةِ، وهي ما ارتفع من الأرضِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 117)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 326).
وكذلك ينبغي أن يتحمَّلَ الطَّالبُ ما يكونُ من الشَّيخِ أو من بقيَّةِ الطَّلبةِ؛ لئلَّا يفوتَه العلمُ، فتفوتَه الدُّنيا والآخِرةُ.
وقد قيل:
لمَحبرةٌ تجالِسُني نهاري
أحبُّ إليَّ من أُنسِ الصَّديقِ
ورُزمةِ كاغَدٍ [2254] الرُّزمةُ: ما جُمِع في شيءٍ واحدٍ. والكاغَدُ: القِرطاسُ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 315)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 342). في البيتِ عندي
أحبُّ إليَّ من عِدلِ الدَّقيقِ
ولطمةُ عالمٍ في الخَدِّ مني
ألذُّ إليَّ من شُربِ الرَّحيقِ [2255] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (55/ 244). والرَّحيقُ: من أسماءِ الخَمرِ معروفٌ، قال ابنُ سِيدَه: وهو من أعتَقِها وأفضَلِها. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/114). .
وقال الشَّافعيُّ: (غَضِبَ الأعمشُ يومًا على رجُلٍ من الطَّلبةِ، فقال آخَرُ: لو غَضِبَ عليَّ مِثلَك لم أعُدْ إليه. فقال له الأعمَشُ: إذًا هو أحمقُ مِثلُك، يترُكُ ما ينفُعُه لسُوءِ خُلُقي). ذكره البيهقيُّ [2256] ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (2/111-115). ويُنظَر: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (2/ 146). .
وقال النَّوويُّ: (ينبغي أن يتواضَعَ لمُعلِّمِه ويتأدَّبَ معه وإن كان أصغَرَ منه سِنًّا، وأقَلَّ شُهرةً ونَسَبًا وصلاحًا وغيرَ ذلك، ويتواضَعَ للعِلمِ؛ فبتواضُعِه للعِلمِ يدرِكُه، وقد قالوا:
العلمُ حَربٌ للفتى المتعالي
كالسَّيلِ حَربٌ للمكانِ العالي) [2257] ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 39، 40). .
أحيانًا تسمَعُ من بعضِ المبتَدِئين في العِلمِ -ممَّن لا يَقدُرُ للعُلَماءِ السَّابقين قَدْرَهم، ولا يَعرِفُ منزلتَهم وفَضلَهم- ربَّما تسمُع منه متطاوِلًا: هم رجالٌ، ونحن رجالٌ؛ فأَولى بهذا المسكينِ أن يعرِفَ قَدرَ نفسِه، وأن يقرأَ سِيرَ هؤلاء العُلَماءِ؛ ليَعرِفَ مَن هو ومَن هم؛ في الحِفظِ والقراءةِ والعلمِ والتَّعليمِ، والعملِ والعبادةِ، ففَرقٌ بَيْنَ الثَّرى والثُّريَّا.
فإذا كان هذا القولُ لا يُقبَلُ من العُلَماءِ أو من طَلَبةِ العِلمِ الكبارِ في هذا الزَّمانِ، فكيف بطلابِ العلمِ الصِّغارِ والمبتَدِئين؟!
يقولون: هذا عندنا غيرُ جائزٍ
ومن أنتم حتَّى يكونَ لكمُ (عندُ) [2258] ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) للمقريزي (2/ 293). .
جلس الشَّافعيُّ ذاتَ يومٍ مع تلميذِه أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، فنَظَر إليه وقال:
أحِبُّ الصَّالحين ولستُ منهم
لعلِّي أن أنالَ بهم شفاعهْ
وأكرَهُ من تجارتِهم معاصي
وإنْ كُنَّا سويًّا في البضاعهْ
فنظَر إليه تلميذُه أحمدُ، ثمَّ قال:
تحبُّ الصَّالحين وأنت منهم
ومنكم سوفَ يَلقَونَ الشَّفاعهْ
وتكرَهُ من تجارتِهم معاصي
وقاك اللَّهُ مِن شَرِّ البضاعهْ [2259] يُنظَر: ((ديوان الإمام الشافعي)) (ص: 74)، ((بلغة السالك لأقرب المسالك)) للصاوي (4/ 735).
وقال الخطيبُ البَغداديُّ: (الواجبُ أن يكونَ طَلَبةُ الحديثِ أكملَ النَّاسِ أدبًا، وأشَدَّ الخلقِ تواضُعًا، وأعظَمَهم نزاهةً وتديُّنًا، وأقلَّهم طَيشًا وغَضَبًا؛ لدوامِ قَرعِ أسماعِهم بالأخبارِ المشتَمِلةِ على محاسنِ أخلاقِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآدابِه، وسيرةِ السَّلَفِ الأخيارِ من أهلِ بَيتِه وأصحابِه، وطرائِقِ المحَدِّثين، ومآثِرِ الماضين، فيأخُذوا بأجمَلِها وأحسَنِها، ويَصدِفوا عن أرذَلِها وأدوَنِها) [2260] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 78). .
3- التَّواضُعُ مع النَّاسِ:
فالمسلمُ يخالطُ النَّاسَ ويدعوهم إلى الخيرِ، وإلى الأخلاقِ الإسلاميَّةِ، ومن طبيعةِ النَّاسِ أنَّهم لا يقبَلون قَولَ من يُعَظِّمُ نفسَه ويحقِرُهم، ويرفَعُ نفسَه ويَضعُهم، وإن كان ما يقولُه حَقًّا، بل عليه أن يعرِفَ أنَّ جميعَ ما عنده هو فضلٌ من اللَّهِ؛ فالمسلمُ المتواضعُ هو الذي لا يُعطي لنفسِه حَظًّا في كلامِه مع الآخرين، ومِن تواضُعِ المسلمِ مع النَّاسِ أن يجالِسَ كُلَّ طبقاتِ المجتَمَعِ، ويُكَلِّمَ كُلًّا بما يفهَمُه، ويجالسَ الفُقراءَ والأغنياءَ.
قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28] .
4- التَّواضُعُ مع الأقرانِ:
ومن التَّواضُعِ: تواضُعُ المسلمِ مع قرينِه؛ وذلك لأنَّه كثيرًا ما تشتَعِلُ المنافسةُ ويقَعُ التَّحاسدُ بَيْنَهما، وربَّما يؤدِّي ذلك إلى نوعٍ من استعلاءِ بعضِهم على بعضٍ، ثمَّ محاولةِ الحَطِّ مِن قَدرِ قرينِه، والتَّنقُّصِ منه بأيِّ صورةٍ من الصُّوَرِ، أو السَّعيِ في النَّيلِ منه، وقد يُلبِّسُ عليه الشَّيطانُ ذلك ويُلبِسُه لَبوسَ النُّصحِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ.
5- تواضُعُ الإنسانِ مع مَن هو دونَه:
من التَّواضُعِ: التَّواضُعُ مع مَن هو أقلُّ منك، بل لا يُتصوَّرُ التَّواضُعُ إلَّا مع من هو دونَك، سواءٌ في العلمِ أو الفهمِ أو المالِ أو الجاهِ، ومَن هو أصغَرُ منك سِنًّا وغيرُ ذلك، بل إذا رأيتَ مَن وَقع في معصيةٍ فلا تتعالى عليه وتُعجَبَ بنَفسِك وعمَلِك؛ فربَّما كانت معصيتُه سببًا في توبةٍ وإنابةٍ، وذُلٍّ وانكسارٍ، وربَّما كان إعجابُ الإنسانِ بعَمَلِه سببًا في حُبوطِ عَمَلِه.
عن جُندَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حدَّث: ((أنَّ رجُلًا قال: واللَّهِ لا يغفِرُ اللَّهُ لفلانٍ، وإنَّ اللَّهَ تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفِرَ لفُلانٍ؟! فإنِّي قد غَفرتُ لفلانٍ وأحبَطتُ عَمَلَك)) [2261] أخرجه مسلم (2621). .
6- تواضُعُ صاحِبِ المالِ:
فإنَّ مَن مَنَّ اللَّهُ عليهم بالمالِ والجاهِ، والقُوَّةِ والنُّفوذِ، أحوَجُ الخَلقِ إلى خُلُقِ التَّواضُعِ؛ لأنَّ هذه النِّعَمَ مَدعاةٌ إلى الكِبرِ والفَخرِ.
وما ابتُلِيَت الأمَّةُ بمصيبةِ الكِبرِ إلَّا مِن هؤلاء، ولو نظر صاحبُ المالِ -مثلًا- إلى سالِفِ أمرِه، لكان أجدَرَ به إذا ما رُزِق مالًا أن يَشكُرَ رَبَّه الذي أغناه بعدَ فقرٍ، وأعطاه بعدَ حِرمانٍ، وأشبَعَه بعدَ جُوعٍ، وأمَّنه بعدَ خَوفٍ، وأن يجعَلَ التَّواضُعَ فِراشَه ودِثارَه وزينتَه، هذا هو الشُّكرُ العَمَليُّ الحقيقيُّ.
أمَّا أن يتكَبَّرَ وهذا حالُه، فلا أدري بمَ يوصَفُ هذا الإنسانُ، وقد بُدِّلت لديه المفاهيمُ والموازينُ؟
وكذلك يُقالُ لصاحِبِ كُلِّ نِعمةٍ: عليك بالتَّواضُعِ، فلرُبَّما دارت عليك الأيَّامُ، وبُدِّل الحالُ.
7- تواضُعُ القائِدِ لمن تحتَ إمرتِه:
القائدُ النَّاجحُ هو الذي يخفِضُ جناحَه للأفرادِ الذين تحتَ إمرتِه؛ لأنَّه كلَّما تواضَع لهم وخَفَض لهم جناحَه كان أقرَبَ إلى نفوسِهم، وكان أمرُه لهم محبَّبًا إليهم، فهم يطيعونه عن حُبٍّ وإخلاصٍ؛ يقولُ تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] .
ومِن مظاهِرِ هذا التَّواضُعِ عدمُ الاستبدادِ بالرَّأيِ والانفرادِ باتخاذِ القرارِ؛ وذلك أنَّ استفراغَ ما عِندَ الأفرادِ من آراءٍ وأفكارٍ لا شَكَّ أنَّ ذلك يفتحُ أبوابًا كانت مغلقةً على القادةِ، والاستماعُ إليها والنُّزولُ عن الرَّأيِ إليها -إذا كانت صحيحةً- يُقَلِّلُ من نسبةِ الخطأِ في القرارِ، وببركةِ الشُّورى قد يجبرُ اللَّهُ ما بها من قصورٍ، وللهِ دَرُّ القائلِ:
رأيُ الجماعةِ لا تشقى البلادُ به
رغمَ الخلافِ ورأيُ الفَردِ يُشقيها [2262] ((ديوان حافظ إبراهيم)) (ص: 191).
وألَّا يجِدَ القادةُ في نفوسِهم شيئًا إذا تحوَّلوا إلى جنودٍ أو أفرادٍ في الصَّفِّ بعدَ أن كانوا قادةً؛ وذلك لأنَّ الأجرَ والثَّوابَ يكونُ بالإخلاصِ والتَّجرُّدِ، والصِّدقِ مع اللَّهِ.
وكما يقولُ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (من أحَبَّ الرِّياسةَ لم يُفلِحْ أبدًا) [2263] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/342). ، ولا شكَّ أنَّ المُؤمِنَ كلَّما ازداد تواضُعًا ازداد إيمانًا باللَّهِ وقُربًا منه، وكلَّما ازداد عُتُوًّا وترفُّعًا على النَّاسِ، ازداد مقتًا وبُعدًا منه سُبحانَه [2264] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع)) لجمال نصار (ص: 238)، ((دروس إيمانية في الأخلاق الإسلامية)) لخميس السعيد (ص: 39). .
8- قَبولُ الحَقِّ والانقيادُ له، (سُئِل الفُضَيلُ عن التَّواضُعِ، فقال: يخضَعُ للحَقِّ، وينقادُ له، ويقبَلُه ممَّن قاله) [2265]رواه ابنُ عساكر في ((تاريخ دمشق)) (48/419). .
وقال ذو النُّونِ المِصريُّ: (ثلاثةٌ من أعلامِ التَّواضُعِ: تصغيرُ النَّفسِ معرفةً بالعَيبِ، وتعظيمُ النَّاسِ حُرمةً للتَّوحيدِ، وقَبولُ الحَقِّ والنَّصيحةِ من كُلِّ أحدٍ) [2266] يُنظَر: ((شعب الإيمان)) للبيهقي (13/ 505)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (9/ 362)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (17/ 424). .

انظر أيضا: