موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: دَرَجاتُ التَّواضُعِ


ذكَر أبو إسماعيلَ الهَرَويُّ للتَّواضُعِ ثلاثَ دَرَجاتٍ، فقال:
(الدَّرَجةُ الأولى: التَّواضُعُ للدِّينِ، وهو ألَّا يُعارِضَ بمعقولٍ منقولًا، ولا يتَّهِمَ للدِّينِ دليلًا، ولا يرى إلى الخِلافِ سَبيلًا) [2236] ((مدارج السالكين)) (3/120). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (التَّواضُعُ للدِّينِ: هو الانقيادُ لِما جاء به الرَّسولُ، والاستسلامُ له والإذعانُ، وذلك بثلاثةِ أشياءَ:
الأوَّلُ: ألَّا يعارِضَ شيئًا ممَّا جاء به بشيءٍ من المعارضاتِ الأربعةِ السَّاريةِ في العالَمِ المسَمَّاةِ: بالمعقولِ والقياسِ والذَّوقِ والسِّياسةِ.
فالأولى: للمُنحَرِفين أهلِ الكِبرِ من المتكَلِّمين، الذين عارَضوا نصوصَ الوحيِ بمعقولاتِهم الفاسدةِ، وقالوا: إذا تعارَض العقلُ والنَّقلُ قدَّمنا العقلَ وعزَلْنا النَّقلَ؛ إمَّا عَزلَ تفويضٍ، وإمَّا عَزلَ تأويلٍ، والثَّاني: للمُتكَبِّرين من المنتَسِبين إلى الفِقهِ، قالوا: إذا تعارَض القياسُ والرَّأيُ والنُّصوصُ: قدَّمْنا القياسَ على النَّصِّ ولم نلتَفِتْ إليه، والثَّالثُ: للمتكَبِّرين المنحَرِفين من المنتَسِبين إلى التَّصوُّفِ والزُّهدِ، فإذا تعارضَ عندهم الذَّوقُ والأمرُ: قدَّموا الذَّوقَ والحالَ، ولم يعبؤوا بالأمرِ، والرَّابعُ: للمتكَبِّرين المنحَرِفين من الولاةِ والأمراءِ الجائِرين، إذا تعارَضت عندهم الشَّريعةُ والسِّياسةُ قدَّموا السِّياسةَ ولم يلتَفِتوا إلى حُكمِ الشَّريعةِ، فهؤلاء الأربعةُ هم أهلُ الكِبرِ. والتَّواضُعُ: التَّخلُّصُ من ذلك كُلِّه.
الثَّاني: ألَّا يتَّهمَ دليلًا من أدلَّةِ الدِّينِ، بحيثُ يظنُّه فاسِدَ الدَّلالةِ أو ناقصَ الدَّلالةِ أو قاصِرَها، أو أنَّ غيرَه كان أولى منه، ومتى عَرَض له شيءٌ من ذلك فليتَّهِمْ فَهمَه، وليَعلَمْ أنَّ الآفةَ منه والبليَّةَ فيه، كما قيل:
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا
وآفتُه من الفَهمِ السَّقيمِ
ولكِنْ تأخُذُ الأذهانُ منه
على قَدرِ القرائحِ والفُهومِ
وهكذا الواقعُ في الواقعِ حقيقةً: أنَّه ما اتَّهم أحدٌ دليلًا للدِّينِ إلَّا وكان المتَّهِمُ هو الفاسدَ الذِّهنِ، المأفونَ في عقلِه وذهنِه، فالآفةُ من الذِّهنِ العليلِ لا في نفسِ الدَّليلِ، وإذا رأيتَ من أدلَّةِ الدِّينِ ما يُشكِلُ عليك وينبو فَهمُك عنه، فاعلَمْ أنَّه لعظمَتِه وشَرَفِه استعصى عليك، وأنَّ تحته كنزًا من كنوزِ العِلمِ، ولم تؤتَ مفتاحَه بعدُ، هذا في حَقِّ نفسِك، وأمَّا بالنِّسبةِ إلى غيرِك فاتَّهِم آراءَ الرِّجالِ على نصوصِ الوَحيِ، وليكنْ ردُّها أيسَرَ شيءٍ عليك للنُّصوصِ، فما لم تفعَلْ ذلك فلستَ على شيءٍ ولو.. ولو..، وهذا لا خلافَ فيه بَيْنَ العُلَماءِ؛ قال الشَّافعيُّ -قدَّس اللَّهُ رُوحَه-: أجمع المسلمون على أنَّ من استبانت له سنَّةُ رَسولِ اللَّهِ لم يحِلَّ له أن يدَعَها لقَولِ أحَدٍ.
الثَّالثُ: ألَّا يجِدَ إلى خلافِ النَّصِّ سبيلًا البَّتَة لا بباطنِه ولا بلسانِه ولا بفِعلِه ولا بحالِه، بل إذا أحسَّ بشيءٍ من الخِلافِ فهو كخِلافِ المقدِمِ على الزِّنا وشُربِ الخَمرِ وقَتلِ النَّفسِ، بل هذا الخلافُ أعظَمُ عِندَ اللَّهِ من ذلك، وهو داعٍ إلى النِّفاقِ، وهو الذي خافه الكِبارُ والأئمَّةُ على نفوسِهم.
واعلَمْ أنَّ المخالِفَ للنَّصِّ لقَولِ متبوعِه وشيخِه ومقَلِّدِه، أو لرأيِه ومعقولِه وذَوقِه وسياستِه، إن كان عِندَ اللَّهِ معذورًا -ولا واللَّهِ ما هو بمعذورٍ- فالمخالِفُ لقَولِه -لنُصوصِ الوحيِ- أَولى بالعُذرِ عِندَ اللَّهِ ورسولِه وملائكتِه والمُؤمِنين من عبادِه.
فوا عَجَبًا إذا اتَّسع بُطلانُ المخالفين للنُّصوصِ لعُذرِ من خالفها تقليدًا أو تأويلًا أو لغيرِ ذلك، فكيف ضاق عن عذرِ من خالف أقوالَهم وأقوالَ شيوخِهم لأجلِ موافقةِ النُّصوصِ؟! وكيف نصَبوا له الحبائِلَ وبَغَوه الغوائِلَ ورَمَوه بالعظائِمِ، وجعلوه أسوأَ حالًا من أربابِ الجرائمِ؟! فرَمَوه بدائِهم وانسَلُّوا منه لِواذًا، وقَذَفوه بمصابِهم وجعَلوا تعظيمَ المتبوعين ملاذًا لهم ومعاذًا، واللَّهُ أعلَمُ) [2237] ((مدارج السالكين)) (3/120). .
قال صاحِبُ المنازِلِ: (ولا يصِحُّ ذلك إلَّا بأن يعلَمَ أنَّ النَّجاةَ في البصيرةِ والاستقامةِ بعدَ الثِّقةِ، وأنَّ البيِّنةَ وراءَ الحُجَّةِ) [2238] ((مدارج السالكين)) (3/124). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (يقولُ: إنَّ ما ذكَرْناه من التَّواضُعِ للدِّينِ بهذه الأمورِ الثَّلاثةِ:
الأولى: عِلمُه أنَّ النَّجاةَ من الشَّقاءِ والضَّلالِ: إنَّما هي في البصيرةِ؛ فمَن لا بصيرةَ له فهو من أهلِ الضَّلالِ في الدُّنيا والشَّقاءِ في الآخرةِ، والبصيرةُ نورٌ يجعَلُه اللَّهُ في عينِ القَلبِ، يَفرُقُ به العبدُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، ونسبتُه إلى القَلبِ كنسبةِ ضَوءِ العَينِ إلى العينِ، وهذه البصيرةُ وهبيَّةٌ وكَسبيَّةٌ، فمن أدار النَّظَرَ في أعلامِ الحَقِّ وأدلَّتِه، وتجرَّد للهِ مِن هواه، استنارت بصيرتُه، ورُزِق فُرقانًا يَفرُقُ به بَيْنَ الحقِّ والباطِلِ.
الثَّاني: أن يعلَمَ أنَّ الاستقامةَ إنَّما تكونُ بعدَ الثِّقةِ، أي: لا يتصَوَّرُ حُصولُ الاستقامةِ في القَولِ والعَمَلِ والحالِ إلَّا بعدَ الثِّقةِ بصحَّةِ ما معه من العِلمِ، وأنَّه مقتبَسٌ من مِشكاةِ النُّبوَّةِ، ومن لم يكُنْ كذلك فلا ثقةَ له ولا استقامةَ.
الثَّالثُ: أن يعلَمَ أنَّ البيِّنةَ وراءَ الحُجَّةِ، والبيِّنةُ مرادُه بها: استبانةُ الحَقِّ وظهورِه، وهذا إنما يكونُ بعدَ الحُجَّةِ إذا قامت، استبان الحَقُّ وظهر واتَّضح، وفيه معنًى آخرُ، وهو: أنَّ العبدَ إذا قَبِل حُجَّةَ اللَّهِ بمحضِ الإيمانِ والتَّسليمِ والانقيادِ، كان هذا القَبولُ هو سَبَبَ تبيُّنِها وظهورِها وانكِشافِها لقَلبِه، فلا يصبِرُ على بيِّنةِ ربِّه إلَّا بعدَ قَبولِ حُجَّتِه.
وفيه معنًى آخَرُ أيضًا: أنَّه لا يتبيَّنُ له عيبُ عَمَلِه من صِحَّتِه إلَّا بعدَ العِلمِ الذي هو حجَّةُ اللَّهِ على العبدِ، فإذا عَرَف الحُجَّةَ اتَّضح له بها ما كان مشكِلًا عليه من علومِه، وما كان معيبًا من أعمالِه.
 وفيه معنًى آخَرُ أيضًا: وهو أن يكونَ وراءَ بمعنى: أمامَ، والمعنى: أنَّ الحُجَّةَ إنما تحصُلُ للعبدِ بعد تبيُّنِها، فإذا لم تتبيَّنْ له لم تكُنْ له حُجَّةٌ، يعني: فلا يقنَعْ من الحُجَّةِ بمجرَّدِ حُصولِها بلا تبيُّنٍ؛ فإنَّ التَّبيُّنَ أمامَ الحجَّةِ، واللَّهُ أعلمُ) [2239] ((مدارج السالكين)) (3/124). .
قال صاحِبُ المنازِلِ: (الدَّرَجةُ الثَّانيةُ: أن ترضى بما رَضِيَ الحَقُّ به لنفسِه عبدًا من المسلِمين أخًا، وألَّا تَرُدَّ على عَدُوِّك حَقًّا، وأن تقبَلَ من المعتَذِرِ معاذيرَه) [2240] ((مدارج السالكين)) (3/126). .
قال ابنُ القيِّمِ: (يقولُ: -أي: الهَرَويُّ- إذا كان اللَّهُ قد رضي أخاك المسلِمَ لنفسِه عبدًا، أفلا ترضى أنت به أخًا؟! فعدَمُ رِضاك به أخًا -وقد رَضِيه سيِّدُك -الذي أنت عبدُه- عبدًا لنفسِه- عينُ الكِبرِ، وأيُّ قبيحٍ أقبحُ مِن تكبُّرِ العبدِ على عبدٍ مِثلِه، لا يرضى بأخوَّتِه، وسَيِّدُه راضٍ بعبوديَّتِه؟!
فيجيءُ من هذا: أنَّ المتكبِّرَ غيرُ راضٍ بعبوديَّةِ سَيِّده؛ إذ عبوديَّتُه توجِبُ رِضاه بأخوَّةِ عبدِه، وهذا شأنُ عبيدِ الملوكِ؛ فإنَّهم يرون بعضَهم خُشْداشيَّةَ [2241] الخُشْداشُ أو الخُجْداشُ: أصلُها فارسيُّ، وهو مملوكٌ مع آخَرَ من المماليكِ في خِدمةِ سَيِّدٍ كبيرٍ. والحالةُ تربطُ بَيْنَ هذين برباطِ الإخاءِ والصَّداقةِ والفِداءِ، ويجمَعُ خُجْداشٌ على خُجداشيَّةٍ، وخُشداشٌ على خُشداشيَّةٍ. يُنظَر: ((تكملة المعاجم العربية)) لدوزي (4/ 26). بعضٍ. ومن ترفَّع منهم عن ذلك لم يكُنْ من عبيدِ أستاذِهم.
 قوله: (وألَّا ترُدَّ على عدوِّك حقًّا) أي: لا تصِحُّ لك درجةُ التَّواضُعِ حتَّى تقبَلَ الحَقَّ ممن تحِبُّ وممن تبغِضُ، فتَقبَلُه من عدوِّك كما تقبَلُه من وليِّك، وإذا لم تَرُدَّ عليه حقَّه، فكيف تمنعُه حَقًّا له قِبَلَك، بل حقيقةُ التَّواضُعِ: أنَّه إذا جاءك قَبِلتَه منه، وإذا كان له عليك حَقٌّ أدَّيتَه إليه، فلا تمنَعْك عداوتُه مِن قَبولِ حقِّه، ولا من إيتائِه إيَّاه.
 وأمَّا (قَبولُك من المعتَذِرِ معاذيرَه) فمعناه: أنَّ من أساء إليك، ثمَّ جاء يعتذِرُ من إساءتِه، فإنَّ التَّواضُعَ يوجِبُ عليك قَبولَ مَعذرتِه حَقًّا كانت أو باطلًا، وتَكِلَ سريرتَه إلى اللَّهِ تعالى كما فعَل رسولُ اللَّهِ في المُنافِقين الذين تخلَّفوا عنه في الغَزوِ، فلمَّا قَدِم جاؤوا يعتذرون إليه، فقَبِل أعذارَهم ووكَلَ سرائرَهم إلى اللَّهِ تعالى، وعلامةُ الكَرَمِ والتَّواضُعِ أنَّك إذا رأيتَ الخلَلَ في عُذرِه لا توقِفُه عليه ولا تحاجُّه، وقُلْ: يمكِنُ أن يكونَ الأمرُ كما تقولُ، ولو قُضِيَ شيءٌ لكان، والمقدورُ لا مدفَعَ له. ونحوَ ذلك) [2242] ((مدارج السالكين)) (3/126). .
قال صاحِبُ المنازِلِ أبو إسماعيلَ الهَرَويُّ: (الدَّرَجةُ الثَّالثةُ: أن تتَّضِعَ للحَقِّ، فتنزِلَ عن رأيِك وعوائِدِك في الخِدمةِ، ورؤيةِ حَقِّك في الصُّحبةِ، وعن رَسمِك في المشاهَدةِ) [2243] ((مدارج السالكين)) (3/127). .
 قال ابنُ القَيِّمِ: (يقولُ: -أي: الهَرَويُّ- التَّواضُعُ بأن تخدُمَ الحَقَّ سُبحانَه وتعبُدَه بما أمرَك به على مقتضى أمرِه لا على ما تراه من رأيِك، ولا يكونَ الباعِثُ لك داعيَ العادةِ، كما هو باعثُ مَن لا بصيرةَ له، غيرَ أنَّه اعتاد أمرًا فجرى عليه، ولو اعتاد ضِدَّه لكان كذلك) [2244] ((مدارج السالكين)) (3/127). .

انظر أيضا: