موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامِنًا: الأسبابُ المُعينةُ على تَركِ الغَضَبِ وما يتَرَتَّبُ عليه


1- تَغييرُ الحالِ:
 قال ابنُ مُفلحٍ: (ويُستَحَبُّ لمَن غَضَبَ أن يُغَيِّرَ حالَه؛ فإن كان جالسًا قامَ واضطجَع، وإن كان قائِمًا مَشى) [5323] ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (2/261). .
وقد قيل في الحِكمةِ مِن ذلك: إنَّ القائِمَ مُتَهَيِّئٌ للانتِقامِ، والجالسُ دونَه في ذلك، والمُضطجِعُ أبعَدُ عنه؛ لذا كان تَغييرُ الحالِ للتَّباعُدِ عن حالةِ الانتِقامِ؛ ولهذا المعنى قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الفِتَنِ: إنَّ القاعِدَ فيها خَيرٌ مِن القائِمِ، والقائِمُ خَيرٌ مِن الماشي، والماشي خَيرٌ مِن السَّاعي [5324] ((جامع العلوم والحكم)) (1/365). والحديثُ المشارُ إليه أخرجه البخاري (3601)، ومسلم (2886) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- الالتِزامُ بوصيَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَدَمِ الغَضَبِ.
 فعن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوصِني، قال: ((لا تَغضَبْ، فرَدَّدَ مِرارًا، قال: لا تَغضَبْ)) [5325] رواه البخاري (6116). .
3- ضَبطُ النَّفسِ عن الاندِفاعِ بعَوامِلِ الغَضَبِ.
 (فإنَّ الغَضَبَ إذا مَلَك ابنَ آدَمَ كان الآمِرَ والنَّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] ، فإذا لم يَمتَثِلِ الإنسانُ ما يأمُرُه به غَضَبُه، وجاهَدَ نَفسَه على ذلك، اندَفعَ عنه شَرُّ الغَضَبِ، ورُبَّما سَكنَ غَضَبُه، وذَهَبَ عاجِلًا، فكأنَّه حينَئِذٍ لم يغضَبْ، وإلى هذا المَعنى وقَعَت الإشارةُ في القُرآنِ بقَولِه عَزَّ وجَلَّ: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] ، وبقَولِه عَزَّ وجَلَّ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] ) [5326] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/364). .
4- الاستِعاذةُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ:
وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُ من غَضِبَ بتَعاطي أسبابٍ تَدفعُ عنه الغَضَبَ، وتُسكِّنُه [5327] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/364). ، ومنها الاستِعاذةُ؛ فعن سُليمانَ بنِ صُردٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: ((كُنتُ جالسًا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجُلانِ يَستَبَّانِ، فأحَدُهما احمَرَّ وجهُه وانتَفخَت أوداجُه [5328] الأوداجُ: جَمعُ وَدجٍ: وهو ما أحاط بالعُنُقِ من العُروقِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/204). ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي لأعلمُ كلمةٌ لو قالها ذَهَب عنه ما يجِدُ، لو قال: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ ذَهَبَ عنه ما يجِدُ)) [5329] رواه البخاري (3282) واللفظ له، ومسلم (2610). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (ولمَّا كان الغَضَبُ والشَّهوةُ جَمرَتَين مِن نارٍ في قَلبِ ابنِ آدَمَ، أمَرَ أن يُطفِئَهما بالصَّلاةِ، والاستِعاذةِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، كما قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَا [البقرة: 44 - 45] الآية.
 وهذا إنَّما يَحمِلُ عليه شِدَّةَ الشَّهوةِ، فأمَرهم بما يُطفِئونَ بها جَمرَتَها، وهو الاستِعانةُ بالصَّبرِ والصَّلاةِ، وأمَرَ تعالى بالاستِعاذةِ مِن الشَّيطانِ عِندَ نَزَغاتِه... والمَقصودُ: أنَّه سُبحانَه أرشَدَ عِبادَه إلى ما يدفعونَ به شَرَّ قوَّتَي الغَضَبِ والشَّهوةِ؛ مِن الصَّلاةِ والاستِعاذةِ) [5330] ((زاد المعاد)) (2/463) بتصرف يسير. .
5- السُّكوتُ:
قال ابنُ رَجَبٍ عن السُّكوتِ: (وهذا أيضًا دَواءٌ عَظيمٌ للغَضَبِ؛ لأنَّ الغَضبانَ يصدُرُ مِنه في حالِ غَضَبِه مِن القَولِ ما يندَمُ عليه في حالِ زَوالِ غَضَبِه كثيرًا؛ مِن السِّبابِ وغَيرِه مِمَّا يَعظُمُ ضَرَرُه، فإذا سَكتَ زال هذا الشَّرُّ كُلُّه عنه، وما أحسَنَ قَولَ مُوَرِّقٍ العِجليِّ رَحِمَه اللهُ: ما امتَلأتُ غَيظًا قَطُّ، ولا تَكلَّمتُ في غَضَبٍ قَطُّ بما أندَمُ عليه إذا رَضيتُ!) [5331] ((جامع العلوم والحكم)) (1/366). ويُنظَر: ((الزهد والرقائق)) لابن المبارك (2/11/زوائد نعيم)، ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان (2/252)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/235). .
6- (أن يذكُرَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، فيدعوَه ذلك إلى الخَوفِ مِنه، ويبعَثَه الخَوفُ مِنه على الطَّاعةِ له، فيرجِعَ إلى أدَبِه ويأخُذَ بنَدبِه:
 قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24] ، قال عِكرِمةُ: يعني: إذا غَضِبتَ.
 وقال سُبحانَه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] ، ومَعنى قَولِه: ينزَغَنَّكَ، أي: يُغضِبَنَّك، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 200] ، يعني أنَّه سَميعٌ بجَهلِ مَن جَهِلَ، عليمٌ بما يُذهِبُ عنك الغَضَبَ) [5332] يُنظَر: ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (258 - 260). .
قال مُحَمَّدُ بنُ عَطيَّةَ السَّعديُّ لابنِه عُروةَ لمَّا وليَ اليمَنَ: (إذا غَضِبتَ فانظُرْ إلى السَّماءِ فوقَك، وإلى الأرضِ تَحتَك، ثُمَّ عَظِّمْ خالِقَهما) [5333] يُنظَر: ((الإشراف في منازل الأشراف)) لابن أبي الدنيا (249)، ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 211، 212)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (54/221). .
7- أن يتَذَكَّرَ ما يؤولُ إليه الغَضَبُ مِن النَّدَمِ ومَذَمَّةِ الانتِقامِ.
8 - أن يذكُرَ انعِطافَ القُلوبِ عليه، ومَيلَ النُّفوسِ إليه، فلا يرى إضاعةَ ذلك بتَغَيُّرِ النَّاسِ عنه، فيرغَبُ في التَّألُّفِ وجَميلِ الثَّناءِ [5334] يُنظَر: ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (258 - 260). .
9- أن يُحَذِّرَ نَفسَه عاقِبةَ العَداوةِ والانتِقامِ، وتشميرِ العَدوِّ في هَدمِ أعراضِه، والشَّماتةِ بمَصائِبه؛ فإنَّ الإنسانَ لا يخلو عن المَصائِبِ، فيخوِّفُ نَفسَه ذلك في الدُّنيا إن لم يَخَفْ في الآخِرةِ.
10- أن يتَفكَّرَ في قُبحِ صورَتِه عِندَ الغَضَبِ.
11- أن يتَفكَّرَ في السَّبَبِ الذي يدعوه إلى الانتِقامِ، مِثلُ أن يكونَ سَبَبُ غَضَبِه أن يقولَ له الشَّيطانُ: إنَّ هذا يُحمَلُ مِنك على العَجزِ والذِّلَّةِ والمَهانةِ، وصِغَرِ النَّفسِ، وتَصيرُ حَقيرًا في أعيُنِ النَّاسِ! فليقُلْ لنَفسِه: تَأنَفينَ مِن الاحتِمالِ الآنَ، ولا تَأنَفينَ مِن خِزيِ يومِ القيامةِ والافتِضاحِ إذا أخَذَ هذا بيدِك وانتَقَمَ مِنك! وتحذَرينَ مِن أن تَصغُري في أعيُنِ النَّاسِ، ولا تحذَرينَ مِن أن تَصغُري عِندَ اللهِ تعالى وعِندَ المَلائِكةِ والنَّبيِّينَ!
12- أن يعلمَ أنَّ غَضَبَه إنَّما كان مِن شَيءٍ جَرى على وَفقِ مُرادِ اللهِ تعالى، لا على وَفقِ مُرادِه، فكيف يُقدِّمُ مُرادَه على مُرادِ اللهِ تعالى؟!) [5335] ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص: 234) بتصرف. .
13- أن يذكُرَ ثَوابَ مَن كظَم غَيظَه:
 قال سُبحانَه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] .
(قَولُه: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: إذا حَصَل لهم مِن غَيرِهم أذيَّةٌ توجِبُ غَيظَهم -وهو امتِلاءُ قُلوبِهم مِن الحَنَقِ الموجِبِ للانتِقامِ بالقَولِ والفِعلِ-، هؤلاء لا يعمَلونَ بمُقتَضى الطِّباعِ البَشَريَّةِ، بَل يكظِمونَ ما في القُلوبِ مِن الغَيظِ، ويصبِرونَ عن مُقابَلةِ المُسيءِ إليهم) [5336] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/148). .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] .
 (أي: قد تَخَلَّقوا بمَكارِمِ الأخلاقِ ومَحاسِنِ الشِّيمِ، فصارَ الحِلمُ لهم سَجيَّةً، وحُسنُ الخُلُقِ لهم طَبيعةً، حتَّى إذا أغضَبَهم أحَدٌ بمَقالِه أو فِعالِه كظموا ذلك الغَضَبَ فلم يُنفِذوه، بَل غَفروه، ولم يُقابِلوا المُسيءَ إلَّا بالإحسانِ والعَفوِ والصَّفحِ، فتَرَتَّبَ على هذا العَفوِ والصَّفحِ مِن المَصالحِ ودَفعِ المَفاسِدِ في أنفُسِهم وغَيرِهم شَيءٌ كثيرٌ) [5337] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/759). .
وقال ابنُ كثيرٍ في تَفسيرِه للآيةِ: (أي: سَجيَّتُهم وخُلُقُهم وطَبعُهم تَقتَضي الصَّفحَ والعَفوَ عن النَّاسِ، ليس سَجيَّتُهم الانتِقامَ مِن النَّاسِ) [5338] ((تفسير القرآن العظيم)) (7/210). .
وقال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] .
 قال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ: (هو الرَّجُلُ يغضَبُ الغَضبةَ، فيذكُرُ اللهَ تعالى، فيكظِمُ الغَيظَ) [5339] ((معالم التنزيل)) للبغوي (3/318). .
14- التَّواضُعُ: فالذي يتَواضَعُ حتَّى يَذهَبَ عنه عِزَّةُ النَّفسِ، يَسلَمُ مِن شَرِّ الغَضَبِ؛ وذلك لأنَّ أعظَمَ ما ينشَأُ عنه الغَضَبُ الكِبرُ؛ لكونِه يقَعُ عِندَ مُخالفةِ أمرٍ يُريدُه، فيحمِلُه الكِبرُ على الغَضَبِ [5340] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/520). .
15- التَّخَلُّقُ بخُلُقِ الصَّبرِ، فلا بُدَّ مِن الصَّبرِ عِندَ الغَضَبِ [5341] ((الاستقامة)) لابن تَيميَّةَ (2/271). .

انظر أيضا: