موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


1- التَّحذيرُ من دَعوةِ المَظلومِ:
قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واتَّقِ دَعوةَ المَظلومِ؛ فإنَّه ليس بَينَها وبَينَ اللهِ حِجابٌ)) [4638] رواه مسلم (19) من حديثِ معاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ورواه البخاري (1496)، ومسلم (19) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
(أي: مانِعٌ، بل هي مَعروضةٌ عليه تعالى. قال السُّيوطيُّ: أي: ليس لها ما يصرِفُها، ولو كان المَظلومُ فيه ما يقتَضي أنَّه لا يُستَجابُ لمِثلِه من كونِ مَطعَمِه حَرامًا أو نَحوِ ذلك، حتَّى ورَدَ في بَعضِ طُرُقِه «وإن كان كافِرًا» رواه أحمَدُ من حَديثِ أنَسٍ. قال ابنُ العَرَبيُّ: ليس بَينَ اللهِ وبَينَ شَيءٍ حِجابٌ عن قُدرتِه وعِلمِه، وإرادتِه، وسَمعِه وبَصَرِه، ولا يخفى عليه شَيءٌ، وإذا أخبَرَ عن شَيءٍ أنَّ بَينَه وبَينَه حِجابًا، فإنَّما يُريدُ مَنْعَه) [4639] ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (3/260). .
ولرُبَّما تَأخَّرَت إجابةُ الدَّعوةِ، ولكِنَّ اللهَ ليس بغافِلٍ عَمَّا يعمَلُ الظَّالمونَ؛ قال سبحانَه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42-43] .
وقال ميمونُ بنُ مِهرانَ: في قَولِه تبارك وتعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. قال: (تَعزيةٌ للمَظلومِ، ووعيدٌ للظَّالمِ) [4640] رواه ابنُ أبي حاتم في ((التفسير)) (7/2251)، والخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (595). .
وقال بَعضُ ولَدِ خالدِ بنِ يحيى البَرمَكيِّ له وهم في السِّجنِ والقُيودِ: يا أبَتِ، بَعدَ الأمرِ والنَّهيِ والنِّعمةِ صِرنا إلى هذا الحالِ! فقال: يا بُنَيَّ، دَعوةُ مَظلومٍ سَرَت بليلٍ، ونحن عنها غافِلونَ، ولم يَغفُلِ اللهُ عنها! ثُمَّ أنشَأ يقولُ:
 رُبَّ قَومٍ قد غَدَوا في نِعمةٍ زَمَنًا  والدَّهرُ رَيَّانُ غَدَقْ
 سَكتَ الدَّهرُ زَمانًا عنهم  ثُمَّ أبكاهم دَمًا حينَ نَطَقْ [4641] يُنظَر: ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (9/ 191، 192)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 679).
وقال سُحنونُ بنُ سَعيدٍ: كان يزيدُ بنُ حاتِمٍ يقولُ: (واللهِ ما هِبتُ شَيئًا قَطُّ هَيبَتي رَجُلًا ظَلمتُه، وأنا أعلَمُ أنَّه لا ناصِرَ له إلَّا اللهُ، يقولُ لي: حَسيبُك اللهُ! بَيني وبَينَك اللهُ!) [4642] ((سنن الصالحين)) لأبي الوليد الباجي (ص: 577). .
وقيل لإبراهيمَ بنِ نَصرٍ الكَرمانيِّ: (إنَّ القَرمَطيَّ دَخَل مَكَّةَ وقَتَل فيها وفَعَل وصَنَعَ، فقُلتُ: قد كان ذاك، وقد كثُرَ الدُّعاءُ عليه، فلمَ مُنعَ الإجابة! فقال: لأنَّ فيهم عَشرَ خِصالٍ، فكيف يُستَجابُ لهم؟! فقُلتُ وما هنَّ؟! قال: أوَّلُه: أقَرُّوا باللهِ وتَرَكوا أمرَه. والثَّاني: قالوا: نُحِبُّ الرَّسولَ، ولم يتَّبعوا سُنَّتَه. والثَّالثُ: قَرَؤوا القُرآنَ ولم يعمَلوا به. والرَّابعُ: قالوا: نُحِبُّ الجَنَّةَ، وتَرَكوا طَريقَها. والخامِسُ: قالوا: نَكرَهُ النَّارَ، وزاحَموا طَريقَها. والسَّادِسُ: قالوا: إنَّ إبليسَ عَدُوُّنا فوافَقوه. والسَّابعُ: دَفَنوا أمواتَهم فلم يعتَبروا. والثَّامنُ: اشتَغَلوا بعُيوبِ إخوانِهم ونَسُوا عُيوبَهم. والتَّاسِعُ: جَمَعوا المالَ ونَسُوا الحِسابَ. والعاشِرُ: نَقَضوا القُبورَ وبَنَوا القُصورَ) [4643] رواه ابنُ عساكر في ((تاريخ دمشق)) (7/241). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (سُبحانَ اللهِ! كم بَكت في تَنعُّمِ الظَّالمِ عَينُ أرمَلةٍ! واحتَرَقَت كَبِدُ يتيمٍ، وجَرَت دَمعةُ مِسكينٍ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات: 46] ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] ، ما ابيضَّ لونُ رَغيفِهم حتَّى اسودَّ لونُ ضَعيفِهم، وما سَمِنَت أجسامُهم حتَّى انتَحَلت أجسامُ ما استَأثَروا عليه، لا تَحتَقِرْ دُعاءَ المَظلومِ، فشَرَرُ قَلبِه مَحمولٌ بعَجيجِ صَوتِه إلى سَقفِ بَيتِك! ويحَك! نِبالُ أدعيتِه مُصيبةٌ وإن تَأخَّرَ الوقتُ! قَوسُه قَلبُه المَقروحُ، ووَتَرُه سَوادُ اللَّيلِ، وأُستاذُه صاحِبُ "لأنصُرَنَّكِ ولو بَعدَ حينٍ"! وقد رَأيتَ ولكِنْ لستَ تعتَبِرُ، احذَرْ عَداوةَ من ينامُ وطَرْفُه باكٍ، يُقَلِّبُ وجهَه في السَّماءِ، يرمي سِهامًا ما لها غَرَضٌ سِوى الأحشاءِ منك! فرُبَّما ولعَلَّها إذا كانت راحةُ اللَّذَّةِ تُثمِرُ ثَمَرةَ العُقوبةِ لم يحسُنْ تَناوُلُها، ما تُساوي لذَّةُ سَنةٍ غَمَّ ساعةٍ! فكيف والأمرُ بالعَكسِ؟! كم في يَمِّ الغُرورِ من تِمساحٍ؛ فاحذَرْ يا غائِصُ! سَتَعلمُ أيُّها الغَريمُ قِصَّتَك عِندَ تعلُّقِ الغُرَماءِ بك!
إذا التَقى كُلُّ ذي دَينٍ وماطَلَه  سَتَعلمُ ليلى أيَّ دينٍ تَداينَتْ.
من لم يتَتَبَّعْ بمِنقاشِ العَدلِ شَوكَ الظُّلمِ من أيدي التَّصَرُّفِ أثَّرَ ما لا يُؤمَنُ تَعَدِّيه إلى القَلبِ!) [4644] ((بدائع الفوائد)) (3/762). .
2- إعانةُ الظَّالمِ على ظُلمِه:
من يُعينُ الظَّالمَ فهو ظالمٌ مِثلُه، ومُشارِكٌ له في الإثمِ.
والظُّلمُ من الإثمِ والعُدوانِ، واللهُ سُبحانَه وتعالى أمرَ بالتَّعاوُنِ على البرِّ والتَّقوى، ونَهى عن التَّعاوُنِ على الإثمِ والعُدوانِ، فقال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2] . وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لعنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آكِلَ الرِّبا وموكِلَه وكاتِبَه وشاهِدَيه، وقال: هم سَواءٌ)) [4645] رواه مسلم (1598). .
قال النَّوويُّ: (هذا تَصريحٌ بتَحريمِ كِتابةِ المُبايعةِ بَينَ المُتَرابينَ والشَّهادةِ عليهما، وفيه: تَحريمُ الإعانةِ على الباطِلِ) [4646] ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (11/36). .
وقال مَيمونُ بنُ مِهرانَ: (الظَّالمُ، والمُعينُ على الظُّلمِ، والمُحِبُّ له: سَواءٌ) [4647] رواه الخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (ص: 279). .
3- هل للظَّالمِ توبةٌ؟
بابُ التَّوبةِ مَفتوحٌ لكُلِّ من عَصى الله إذا تَوفَّرَت شُروطُها، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] ، وقال تعالى: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 39] .
 شُروطُ التَّوبةِ كما ذَكرَها العُلماءُ:
- أن يُقلعَ عن الذَّنبِ.
 - وأن يندَمَ على ما قد مَضى.
 - وأن يعزِمَ في المُستَقبَلِ على ألَّا يعودَ إليه.
 - وإذا كان الأمرُ يتَعلَّقُ بحُقوقِ الآدَميِّينَ -سَواءٌ بأموالِهم أو أعراضِهم أو أبدانِهم- فعليه أن يطلُبَ المُسامَحةَ مِمَّن له عليه حَقٌّ، أو يُؤَدِّيَ الحُقوقَ إلى أهلِها.
 قال ابنُ القَيِّمِ: (والظُّلمُ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ يومَ القيامةِ له دَواوينُ ثَلاثةٌ: ديوانٌ لا يغفِرُ اللهُ منه شَيئًا، وهو الشِّركُ به؛ فإنَّ اللهَ لا يغفِرُ أن يُشرَكَ به. وديوانٌ لا يترُكُ اللهُ تعالى منه شَيئًا، وهو ظُلمُ العِبادِ بَعضِهم بَعضًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى يستَوفيه كُلَّه. وديوانٌ لا يعبَأُ اللهُ به شَيئًا، وهو ظُلمُ العَبدِ نَفسَه بَينَه وبَينَ رَبِّه عَزَّ وجَلَّ؛ فإنَّ هذا الدِّيوانَ أخَفُّ الدَّواوينِ وأسرَعُها مَحوًا؛ فإنَّه يُمحى بالتَّوبةِ والاستِغفارِ، والحَسَناتِ الماحيةِ، والمَصائِبِ المُكفِّرةِ، ونَحوِ ذلك. بخِلافِ ديوانِ الشِّركِ؛ فإنَّه لا يُمحى إلَّا بالتَّوحيدِ، وديوانُ المَظالمِ لا يُمحى إلَّا بالخُروجِ منها إلى أربابِها واستِحلالِهم منها) [4648] ((الوابل الصيب)) (1/24). .
وقال السَّمَرقَنديُّ: (ليس شَيءٌ من الذُّنوبِ أعظَمَ من الظُّلمِ؛ لأنَّ الذَّنبَ إذا كان بَينَك وبَينَ اللهِ تعالى فإنَّ اللهَ تعالى كريمٌ يتَجاوزُ عنك، فإذا كان الذَّنبُ بَينَك وبَينَ العِبادِ فلا حيلةَ لك سِوى رِضا الخَصمِ، فينبَغي للظَّالمِ أن يتوبَ عن الظُّلمِ، ويتَحَلَّلَ من المَظلومِ في الدُّنيا، فإذا لم يقدِرْ عليه فينبَغي أن يستَغفِرَ، ويدعوَ له، فإنَّه يُرجى أنَّه يُحَلِّلُه بذلك) [4649] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 377). .
فمَن ابتُليَ بشَيءٍ من الظُّلمِ فليتَحَلَّلْ منه، فليس في الآخِرةِ دينارٌ ولا دِرهَمٌ، وإنَّما هي الحَسَناتُ والسَّيِّئاتُ، يُؤخَذُ من حَسَناتِه بقدرِ مَظلمَتِه ويُعطى للمَظلومِ، فإن نَفِدَت حَسَناتُه أُخِذَ من سَيِّئاتِ المَظلومِ وحمَلَه الظَّالمُ؛ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كانت له مَظلَمةٌ لأحَدٍ من عِرضِه أو شَيءٍ فليتَحَلَّلْه منه اليومَ قَبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا دِرهَمٌ، إن كان له عَمَلُ صالحٌ أُخِذَ منه بقدرِ مَظلمَتِه، وإن لم تَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ من سَيِّئاتِ صاحِبِه فحُمِل عليه)) [4650] رواه البخاري (2449) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لتُؤَدُّنَّ الحُقوقَ إلى أهلِها يومَ القيامةِ، حتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجَلحاءِ من الشَّاةِ القَرناءِ [4651] الجَلْحاءُ هي التي لا قَرْنَ لها. والقَرناءُ: هي التي لها قَرنٌ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/137)، ((شرح المصابيح)) لابن الملك (5/361). ) [4652] رواه مسلم (2582). .
وعن عَبدِ الله بنِ أُنَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العِبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهْمًا [4653] البُهمُ: جمعُ بهيمٍ، وهو في الأصلِ الذي لا يخالِطُ لونَه لونٌ سواه، يعني: ليس فيهم شيءٌ من العاهاتِ والأعراضِ التي تكونُ في الدُّنيا، كالعمى والعَوَرِ والعَرَجِ وغيرِ ذلك. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/167). ، قال: قُلنا: وما بُهْمًا؟ قال: "ليس مَعَهم شَيءٌ، ثُمَّ يُناديهم بصَوتٍ يسمَعُه مَن بَعُدَ كما يسمَعُه مَن  قَرُبَ: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ، ولا ينبَغي لأحَدٍ من أهلِ النَّارِ أن يدخُلَ النَّارَ وله عِندَ أحَدٍ من أهلِ الجَنَّةِ حَقٌّ، حتَّى أُقِصَّه منه، ولا ينبَغي لأحَدٍ من أهلِ الجَنَّةِ أن يدخُلَ الجَنَّةَ، ولأحَدٍ من أهلِ النَّارِ عِندَه حَقٌّ، حتَّى أُقِصَّه منه، حتَّى اللَّطمةَ. قال: قُلْنا: كيف وإنَّا إنَّما نَأتي اللهَ عَزَّ وجَل عُراةً غُرْلًا [4654] الغُرْلُ: جمعُ الأغرَلِ، وهو الأقلَفُ. ينظر ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/362). بُهمًا؟ قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ)) [4655] رواه البخاريُّ معَلَّقًا بصيغة التضعيف قبل حديث (7481) مختصَرًا، ورواه موصولًا أحمد (16042) واللفظ له. صحَّحه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (514)، وحسَّنه ابنُ القيم في ((مختصر الصواعق المُرسَلة)) (489)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (3638)، وحسَّن إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/218)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/283)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/354)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16042). .
وقال أبو الزِّنادِ: (كان عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ يرُدُّ المَظالمَ إلى أهلِها بغَيرِ البَيِّنةِ القاطِعةِ، كان يكتَفي باليسيرِ، إذا عَرَف وَجهَ مَظلَمةِ الرَّجُلِ رَدَّها عليه، ولم يُكلِّفْه تَحقيقَ البَيِّنةِ؛ لِما يَعرِفُ من غَشمِ الوُلاةِ قَبلَه على النَّاسِ، ولقد أنفدَ بَيتَ مالِ العِراقِ في رَدِّ المَظالمِ، حتَّى حَمَل إليها من الشَّامِ) [4656] ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (ص: 241). .
وذَكرَ صاحِبُ (العقدِ الفريد) قِصَّةً للمَأمونِ: (وأنَّه جَلسَ يومًا لرَدِّ المَظالمِ، فكان آخِرَ من تَقدَّم إليه - وقد همَّ بالقيامِ- امرأةٌ عليها هَيئةُ السَّفرِ، وعليها ثيابٌ رَثَّةٌ، فوقَفَت بَينَ يدَيه فقالت: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمنينَ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه. فنَظَرُ المَأمونُ إلى يحيى بنِ أكثَمَ. فقال لها يحيى: وعليكِ السَّلامُ يا أَمَةَ اللهِ، تَكلَّمي بحاجَتِك. فقالت:
يا خيرَ مُنتَصِفٍ يُهدى له الرَّشَدُ
ويا إمامًا به قد أشرَقَ البَلَدُ
تشكو إليك -عميدَ القومِ- أرملةٌ
عُدي عليها فلم يُترَكْ لها سَبَدُ [4657] السَّبَدُ من الشَّعرِ، يقال: ما له سَبَدٌ ولا لَبَدٌ، أي: قليلٌ ولا كثيرٌ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (2/483).
وابتُزَّ مني ضياعي بعد مَنعَتِها
ظُلمًا وفُرِّقَ مني الأهلُ والوَلَدُ
فأطرَق المأمونُ حينًا، ثمَّ رفع رأسَه إليها، وهو يقولُ:
في دونِ ما قُلتِ زال الصَّبرُ والجَلَدُ
عني وأُقرِحَ مني القَلبُ والكَبِدُ
هذا أذانُ صلاةِ العَصرِ فانصَرِفي
وأحضري الخَصمَ في اليومِ الذي أعِدُ
فالمجلِسُ السَّبتُ إن يُقضَ الجُلوسُ لنا
نُنصِفْك منه وإلَّا المجلِسُ الأحَدُ
قال: فلمَّا كان يومُ الأحَدِ جَلسَ، فكان أوَّلَ من تَقدَّمَ إليه تلك المَرأةُ، فقالت: السَّلامُ عليك يا أميرَ المُؤمنينَ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه. فقال: وعليكِ السَّلامُ، ثُمَّ قال: أينَ الخَصمُ؟ فقالت: الواقِفُ على رَأسِكِ يا أميرَ المُؤمنينَ -وأومَأتْ إلى العَبَّاسِ ابنِه!- فقال: يا أحمَدُ بنَ أبي خالدٍ، خُذْ بيدِه فأجلِسْه مَعَها مَجلِسَ الخُصومِ. فجَعل كلامُها يعلو كلامَ العَبَّاسِ. فقال لها أحمَدُ بنُ أبي خالدٍ: يا أمةَ اللهِ، إنَّكِ بَينَ يدَي أميرِ المُؤمنينَ، وإنَّكِ تُكَلِّمينَ الأميرَ، فاخفِضي من صَوتِك. فقال المَأمونُ: دَعْها يا أحمَدُ؛ فإنَّ الحَقَّ أنطَقَها والباطِلَ أخرَسَه. ثُمَّ قَضى لها برَدِّ ضَيعَتِها إليها، وظلَّمَ العَبَّاسَ بظُلمِه لها، وأمَرَ بالكِتابِ لها إلى العامِلِ الذي ببَلدِها أن يوغِرَ لها ضَيعَتَها، ويُحسِنَ مُعاونَتَها، وأمَرَ لها بنَفقةٍ) [4658] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/28). .
4- الرُّكونُ إلى الظَّالِمينَ:
قال اللهُ تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 113] ، قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قيل: أهلُ الشِّركِ. وقيل: عامَّةٌ فيهم وفي العُصاةِ، على نَحوِ قَولِه تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا... الآية، وهذا هو الصَّحيحُ في مَعنى الآيةِ) [4659] ((تفسير القرطبي)) (9/108). .
 ومِن صُوَرِ الرُّكونِ إلى الظَّالمينَ: مَحَبَّتُهم، والرِّضا بأعمالِهم، ومُتابَعَتُهم ومُداهَنَتُهم، وإعانَتُهم على الظُّلمِ، والاعتِمادُ عليهم، والاستِعانةُ بهم في ظُلمِ الآخَرينَ [4660] ((العدل في القرآن الكريم)) لعبد الله آل حسين (ص: 133). .

انظر أيضا: