موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسِعًا: المَدحُ والثَّناءُ المَحمودُ


- عن أنَسٍ أنَّ المُهاجِرينَ قالوا: يا رَسولَ اللهِ ذَهَبَت الأنصارُ بالأجرِ كُلِّه، قال: ((لا، ما دَعَوتُم اللهَ لهم وأثنَيتُم عليهم)) [473] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (4812) واللفظ له، والترمذي (2487) مطَوَّلًا صححه الترمذي، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (117)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/249). .
قال الطِّيبيُّ: (يعني:إذا حَمَلوا المَشَقَّةَ والتَّعَبَ على أنفُسِهم، وأشرَكونا في الرَّاحةِ والمَهنَأِ فقد أحرَزوا المُثوباتِ، فكيف نُجازيهم؟ فأجابَ: لا. أي ليس الأمرُ كما زَعَمتُم؛ فإنَّكم إذا أثنيتُم عليهم شُكرًا لصَنيعِهم ودُمتُم عليه، فقد جازيتُموهم) [474] ((شرح المشكاة)) لشرف الدين الطيبي (7/ 2232) .
(فعَلَّمُهم أن يُكافِئوا إحسانَ المُحسِنِ بالدُّعاءِ له، أو بالثَّناءِ عليه) [475] ((هذه أخلاقنا)) لمحمود محمد الخزندار (ص: 496). .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ قال: مُرَّ بجِنازةٍ فأُثنيَ عليها خَيرًا، فقال نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت))، ومُرَّ بجِنازةٍ فأُثنيَ عليها شَرًّا، فقال نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت))، قال عُمَرُ: فِدًى لك أبي وأُمِّي! مُرَّ بجِنازةٍ فأُثنيَ عليها خَيرٌ، فقُلتَ: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت))، ومُرَّ بجِنازةٍ، فأُثني عليها شَرٌّ، فقُلتَ: ((وجَبَت، وجَبَت، وجَبَت)) فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أثنيتُم عليه خَيرًا وجَبَت له الجَنَّةُ، ومَن أثنيتُم عليه شَرًّا وجَبَت له النَّارُ، أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ، أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ، أنتم شُهَداءُ اللهِ في الأرضِ)) [476] أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) واللفظ له. .
قال النَّوويُّ: (وأمَّا مَعناه ففيه قَولانِ للعُلَماءِ؛ أحَدُهما: أنَّ هذا الثَّناءَ بالخَيرِ لمَن أثنى عليه أهلُ الفضلِ، فكان ثَناؤُهم مُطابقًا لأفعالِه، فيكونُ مِن أهل الجَنَّةِ، فإن لم يكُنْ كذلك فليس هو مُرادًا بالحَديثِ. والثَّاني، وهو الصَّحيحُ المُختارُ: أنَّه على عُمومِه وإطلاقِه، وأنَّ كُلَّ مُسلمٍ ماتَ فألهَمَ اللهُ تعالى النَّاسَ أو مُعظَمَهم الثَّناءَ عليه، كان ذلك دَليلًا على أنَّه مِن أهلِ الجَنَّةِ، سَواءٌ كانت أفعالُه تَقتَضي ذلك أم لا، وإن لم تَكُن أفعالُه تَقتَضيه فلا تُحَتَّمْ عليه العُقوبةُ، بَل هو في خَطَرِ المَشيئةِ، فإذا ألهَمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ النَّاسَ الثَّناءَ عليه استَدلَلْنا بذلك على أنَّه سُبحانَه وتعالى قد شاءَ المَغفِرةَ له، وبهذا تَظهَرُ فائِدةُ الثَّناءِ) [477] ((شرح النووي على مسلم)) (7/19، 20). . ولهذا قال ابنُ مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه: (عُنوانُ صَحيفةِ المَيِّتِ ثَناءُ النَّاسِ عليه) [478] ((بهجة المجالس وأنس المجالس)) لابن عبد البر (2/793). ، وقال مُطَرِّفُ بنُ الشِّخِّيرِ: (عُنوانُ كرامةِ اللهِ لعَبدِه حُسنُ الثَّناءِ عليه، وعُنوانُ هَوانِه سوءُ الثَّناءِ عليه) [479] ((بهجة المجالس وأنس المجالس)) لابن عبد البر (2/793). .
- عن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أُعطيَ عَطاءً فوجَدَ فليَجزِ به، فإن لم يجِدْ فليُثنِ به، فمَن أثنى به فقد شَكرَه، ومَن كتَمَه فقد كفَرَه)) [480] أخرجه أبو داود (4813) واللفظ له، والترمذي (2034) صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (3415)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4813)، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4813). .
("فمَن أثنى به فقد شَكرَه"، أي: أدَّى شُكرَ عَطائِه) [481] ((بذل المجهود في حل سنن أبي داود)) للسهارنفوري (13/241). .
وقال ابنُ عُثَيمينَ: (المُكافأةُ تَكونُ بحَسَبِ الحالِ؛ مِن النَّاسِ مَن تَكونُ مُكافأتُه أن تُعطيَه مِثلَ ما أعطاك أو أكثَرَ، ومِن النَّاسِ مَن تَكونُ مُكافأتُه أن تَدعوَ له ولا يرضى أن تُكافِئَه بمالٍ، فإنَّ الإنسانَ الكبيرَ الذي عِندَه أموالٌ كثيرةٌ وله جاهٌ وشَرفٌ في قَومِه إذا أهدى إليك شَيئًا فأعطَيتَه مِثلَ ما أهدى إليك، رأى في ذلك قُصورًا في حَقِّه، لَكِنْ مِثلُ هذا ادعُ اللهَ له... ومِن ذلك أن تَقولَ له: جَزاك اللهُ خَيرًا إذا أعطاك شَيئًا أو نَفعَك بشَيءٍ) [482] ((شرح رياض الصالحين)) (6/49، 50). .
و(الثَّناءُ الصَّادِقُ المُعتَدِلُ مِمَّا يُشعِرُ الإنسانَ بقيمتِه، ويَهُزُّه إلى المَكارِمِ هَزًّا؛ فيقودُه إلى الصَّفحِ والعَفوِ، وإحسانِ الظَّنِّ، والبَذلِ، كما أنَّه دَليلٌ على كرَمِ سَجيَّةِ المُثني، وعلى بُعدِه عن الأثَرةِ والشُّحِّ؛ فهو مِن قَبيلِ الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ، والكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقةٌ، كما أنَّ له ارتِباطًا بخُلُقٍ كريمٍ، ألا وهو الاعتِرافُ للمُحسِنِ، وعَدَمُ غَمطِه حَقَّه. ولا رَيبَ أنَّ هذه المَعانيَ مِن أعظَمِ ما يرتَقي بالمَشاعِرِ، وينهَضُ بالهمَمِ، ويحفظُ للنَّاسِ أقدارَهم، وينأى بهم عن السَّفاسِفِ والمُحَقَّراتِ. بل إنَّ كِرامَ النَّاسِ إذا مُدِحوا أبَت لهم هِمَمُهم أن يكونوا دونَ ما مُدِحوا به. بل إنَّ الثَّناءَ الصَّادِقَ مِمَّا تَنشَرِحُ له صُدورُ العُظَماءِ، ويُشعِرُهم بصَوابِ ما هم عليه، ويقودُهم إلى مَزيدٍ مِن الخَيرِ والإحسانِ، ويسُدُّ عليهم بابَ الكسَلِ الذي يواجِهُهم به المُخَذِّلونَ، والمُبالغونَ في النَّقدِ. ولهذا سَلَكت هدايةُ القُرآنِ الكريمِ هذا المَهيَعَ؛ فكم هي الآياتُ التي ورَدَ فيها الثَّناءُ مِن الرَّبِّ الكريمِ جَلَّ وعَلا على بَعضِ عِبادِه الصَّالحينَ؟ إنَّها كثيرةٌ جِدًّا، مِنها قَولُه تعالى في الثَّناءِ على نوحٍ عليه السَّلامُ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3] ، وقَولُه تعالى في حَقِّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] ، وقَولُه في حَقِّ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] .
أمَّا السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ فحافِلةٌ بهذا المَقامِ، ولو ألقَيتَ نَظرةً في دَواوينِها، وفي كُتُبِ المَناقِب منها على وَجهِ الخُصوصِ لرَأيتَ عَجَبًا... فلماذا لا نَأخُذُ بهذه الطَّريقةِ الحَكيمةِ النَّبيلةِ؟ لماذا لا نَأخُذُ بها إذا وقَفْنا أمامَ النَّاسِ لنَعِظَهم؟ فنبَدَأُ بالثَّناءِ عليهم ثَناءً مُتَّزِنًا؛ كي نُهَيِّئَ نُفوسَهم لقَبولِ ما نَقولُ؛ إذ لا شَيءَ يهزُّ أعطافَهم كالثَّناءِ عليهم خُصوصًا إذا كان مِن غَريبٍ، وما الذي يَضيرُنا إذا رَأينا إنسانًا مُحافِظًا على الصَّلاةِ، أو بَرًّا بوالِدَيه، أو واصِلًا لأرحامِه، أو مُتَودِّدًا لجيرانِه أن نُذَكِّرَه بعِظَمِ هذا العَمَلِ، وأن نَشكُرَه عليه، ونوصيَه بالاستِمرارِ على ذلك؟ وما الذي يمنَعُنا إذا رَأينا مِن أحَدِ طُلَّابِنا جِدًّا ونَشاطًا وأدَبًا أن نُشعِرَه بالرِّضا والفرَحِ والدُّعاءِ؟ وما الذي يمنَعُنا إذا رَأينا مُعَلِّمًا مُخلصًا في عَمَلِه، حَريصًا على طُلَّابِه، أن نَشُدَّ على يدِه، وأن نَشكُرَه على إخلاصِه وحِرصِه؟ بَدَلًا مِن تخذيلِه، وإشعارِه بأنَّه إنسانٌ ساذَجٌ يقومُ بأكثَرَ مِمَّا طُلِبَ مِنه! وما الذي يَضيرُنا إذا رَأينا خَطيبًا مُصقِعًا يهزُّ أعوادَ المَنابرِ، ويَحتَرِمُ عُقولَ المُخاطَبينَ، ويحرِصُ على تَحريرِ خُطَبِه، وإلقائِها في أثوابٍ مُلائِمةٍ، أن نَشكُرَ له صَنيعَه، ونُشعِرَه باستِفادَتِنا مِنه، وتَقديرِنا له؟ وما الذي يَضيرُنا إذا رَأينا أو سَمِعْنا عن طَبيبٍ حاذِقٍ يتَمَتَّعُ بخُلقٍ فاضِلٍ، وصَبرٍ على مُراجِعيه، وحِرصٍ على سَلامَتِهم وعافيتِهم أن نُبديَ له إعجابَنا وشُكرَنا ودُعاءَنا؟ وما الذي يُلجِمُ أفواهَنا أو أقلامَنا أن تَشكُرَ صَحَفيًّا أو كاتِبًا على حُبِّه للفضيلةِ، ودِفاعِه عنها؟ ولماذا لا نُزجي الشُّكرَ والثَّناءَ لمَسؤولٍ أصدَرَ قَرارًا فيه نَفعٌ للمُسلمينَ، أو فيه فتحٌ لبابِ خَيرٍ، أو إغلاقٌ لبابِ شَرٍّ؟ ولماذا لا نَعتادُ تَقديمَ الثَّناءِ والشُّكرِ لمَن أسدى إلينا مَعروفًا ولو قَلَّ؟ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن صَنعَ إليكم مَعروفًا فكافِئوه، فإن لم تَجِدوا ما تَكافُئونَه فادعوا له حتَّى تَرَوا أنَّكم قد كافأتُموه)) [483] أخرجه أبو داود (1672) واللفظ له، والنَّسائي (2567)، وأحمد (5365) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه النووي في ((المجموع)) (6/245)، وابنُ حَجَرٍ -كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/250)-، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1672)، وصحَّح إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/300)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/195)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5365) .
يقولُ سُفيانُ الثَّوريُّ رَحِمَه اللَّهُ: «إنِّي لأُريدُ شُربَ الماءِ، فيسبِقُني الرَّجُلُ إلى الشَّربةِ فيسقينيها، فكأنَّما دَقَّ ضِلعًا مِن أضلاعي لا أقدِرُ على مُكافأةٍ لفِعلِه!» [484] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (6/ 393). .
وقال أبو هاشِمٍ الحَرَّانيُّ: «مِن طِباعِ الكريمِ وسَجاياه رِعايةُ اللَّقاءةِ الواحِدةِ، وشُكرُ الكَلِمةِ الحَسَنةِ الطَّيِّبةِ، والمُكافأةُ بجَزيلِ الفائِدةِ» [485] ((الصداقة والصديق)) لأبي حيان (ص: 148). .
وبالجُملةِ فبابُ الثَّناءِ والشُّكرِ بابٌ واسِعٌ لمَن أحسَنَ الدُّخولَ فيه، ومَسلَكٌ جَميلٌ للتَّعبيرِ عن المَشاعِرِ، والحِفاظِ على رُوحِ الوُدِّ، والنُّهوضِ بالهمَمِ. وإنَّ الذي يلحَظُ في أحوالِ بَعضِنا أنَّه لا يحفِلُ بهذا المَسلَكِ الرَّشيدِ، مَعَ أنَّه سَهلٌ مَيسورٌ، مَحمودُ العَواقِبِ، كثيرُ العَوائِدِ! بل إنَّنا مُستَعِدُّونَ للنَّقدِ والمُجادَلةِ والرَّدِّ أكثَرَ مِن استِعدادِنا للشُّكرِ والثَّناءِ الصَّادِقِ، مَعَ أنَّ الثَّناءَ الصَّادِقَ مُقتَضى العَدلِ، بل الإحسانِ! والعاقِلُ لا يعدَمُ خَصلةَ خَيرٍ يَنفُذُ مِن خِلالِها إلى قَلبِ مَن يُريدُ هدايتَه أو كسْبَه، أو تَقليلَ شَرِّه، أو زيادةَ خَيرِه. بل إنَّ المُبادَرةَ بالنَّقدِ والنَّظَرِ مِن زاويةِ الخَلَلِ ابتِداءً قد يكونُ سَبَبًا لرَدِّ الحَقِّ، وذَريعةً للتَّمادي في الباطِلِ؛ فلو أنَّك بادَرتَ شَخصًا بالنَّقدِ والثَّلبِ لرُبَّما أراك أو أسمَعك مِن سوئِه ما لم يكُنْ في حُسبانِك، ولسانُ حالهِ يُنشِدُ:
........ أنا الغَريقُ فما خَوفي مِن البَلَلِ) [486] يُنظر: ((ارتسامات في بناء الذات)) (ص: 204-210). !

انظر أيضا: