موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


الواجِبُ عِندَ التَّنازُعِ:
قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال الطَّبَريُّ في قَولِه تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: (فرَدُّ ما تَنازَعتُم فيه مِن شَيءٍ إلى اللهِ والرَّسولِ، خَيرٌ لكم عِندَ اللهِ في مَعادِكم، وأصلَحُ لكم في دُنياكم؛ لأنَّ ذلك يدعوكم إلى الأُلفةِ، وتركِ التَّنازُعِ والفُرقةِ. وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا يعني: وأحمَدُ مَوئِلًا ومَغَبَّةً، وأجمَلُ عاقِبةً) [162] ((جامع البيان)) (7/ 187). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (هذا أمرٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَل بأنَّ كُلَّ شَيءٍ تَنازَعَ النَّاسُ فيه مِن أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه أن يُرَدَّ التَّنازُعُ في ذلك إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] ، فما حَكمَ به كِتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسولِه وشَهِدا له بالصِّحَّةِ، فهو الحَقُّ، وماذا بَعدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ؛ ولهذا قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: رُدُّوا الخُصوماتِ والجَهالاتِ إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه، فتَحاكَموا إليهما فيما شَجَرَ بَينَكم إن كُنتُم تُؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ.
فدَلَّ على أنَّ مَن لم يتَحاكَمْ في مَجالِ النِّزاعِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ ولا يَرجِعُ إليهما في ذلك، فليسَ مُؤمِنًا باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ) [163] ((تفسير القرآن العظيم)) (2/345، 346). .
وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الحُجَّةُ عِندَ التَّنازُعِ الكِتابُ والسُّنَّةُ لا ما سِواهما) [164] ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) (11/ 49). .
وقال أيضًا: (أمَر اللهُ عِبادَه عِندَ التَّنازُعِ أن يرُدُّوا ما تَنازَعوا فيه إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّه، فمَن كان عِندَه مِن ذلك عِلمٌ وجَبَ الانقيادُ إليه) [165] ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) (8/ 368). .
فيجِبُ التِزامُ الحُكمِ الذي ثَبَتَت حُجَّتُه، والعَمَلُ به والتَّسليمُ له، وما فيه التَّنازُعُ والاختِلافُ وجَبَ العَمَلُ منه بما قامَ الدَّليلُ عليه لكُلِّ مُجتَهِدٍ، وقامَ العُذرُ فيه لمَن مال إلى وجهٍ مِنه؛ لأنَّه هو الأَولى عِندَه، ووجَبَ على العامَّةِ تَقليدُ عُلَمائِها فيما اجتَهَدوا فيه ووَسِعَهم العَمَلُ به [166] يُنظَر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/ 328). .
- قال الماوَرْديُّ: (قد يختَلفُ أهلُ الدِّينِ على مَذاهبَ شَتَّى وآراءٍ مُختَلفةٍ، فيَحدُثُ بَينَ المُختَلفينَ فيه مِنَ العَداوةِ والتَّبايُنِ مِثلُ ما يحدُثُ بَينَ المُختَلفينَ في الأديانِ. وعِلَّةُ ذلك أنَّ الدِّينَ والاجتِماعَ على العَقدِ الواحِدِ فيه لَمَّا كان أقوى أسبابَ الأُلفةِ كان الاختِلافُ فيه أقوى أسبابِ الفُرقةِ، وإذا تَكافأ أهلُ الأديانِ المُختَلفةِ والمَذاهِبِ المُتَبايِنةِ، ولم يكُنْ أحَدُ الفريقَينِ أعلى يدًا، وأكثَرَ عَدَدًا، كانتِ العَداوةُ بَينَهم أقوى والإحَنُ فيهم أعظَمَ؛ لأنَّه ينضَمُّ إلى عَداوةِ الاختِلافِ تَحاسُدُ الأكفاءِ، وتَنافُسُ النُّظَراءِ) [167] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 148). .
الدُّعاءُ بالهدايةِ عِندَ الاختِلافِ:
عن أبي سَلمةَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ قال: سَألتُ عائِشةَ أُمَّ المُؤمِنينَ: بأيِّ شَيءٍ كان نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفتَتِحُ صَلاتَه إذا قامَ مِنَ اللَّيلِ؟ قالت: ((كان إذا قامَ يُصَلِّي من اللَّيلِ يَقولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، أنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبادِك فيما كانوا فيه يَختَلِفونَ، اهدِني لِما اختُلِفَ فيه من الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّك تَهدِي من تَشاءُ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ)) [168] أخرجه مسلم (770). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (فمَن هَداه اللهُ سُبحانَه إلى الأخذِ بالحَقِّ حَيثُ كان ومَعَ مَن كان، ولو كان مَعَ مَن يُبغِضُه ويُعاديه، ورَدِّ الباطِلِ مَعَ مَن كان، ولو كان مَعَ مَن يُحِبُّه ويواليه- فهو مِمَّن هَدى لِما اختُلِف فيه مِنَ الحَقِّ. فهذا أعلَمُ النَّاسِ وأهداهم سَبيلًا وأقوَمُهم قِيلًا، وأهلُ هذا المَسلَكِ إذا اختَلفوا فاختِلافُهم اختِلافُ رَحمةٍ وهدًى، يُقِرُّ بَعضُهم بَعضًا عليه ويواليه ويُناصِرُه، وهو داخِلٌ في بابِ التَّعاوُنِ والتَّناظُرِ الذي لا يستَغني عنه النَّاسُ في أُمورِ دينِهم ودُنياهم، بالتَّناظُرِ والتَّشاوُرِ وإعمالِهم الرَّأيَ وإجالتِهم الفِكرَ في الأسبابِ الموصِلةِ إلى دَركِ الصَّوابِ) [169] ((الصواعق المُرسَلة)) (2/ 517). .

انظر أيضا: