موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القرآنِ الكريمِ


وردت آياتٌ كثيرةٌ في ذِكرِ العَفْوِ والصَّفحِ، والتَّرغيبِ فيهما، ومن هذه الآياتِ:
- قولُه تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذه الآيةُ نزَلَت في الصِّدِّيقِ حينَ حَلَف ألَّا ينفَعَ مِسطَحَ بنَ أُثاثةَ بنافعةٍ بعدما قال في عائشةَ ما قال،... فلمَّا أنزل اللَّهُ براءةَ أمِّ المُؤمِنينَ عائشةَ، وطابت النُّفوسُ المُؤمِنةُ واستقَرَّت، وتاب اللَّهُ على من كان تكَلَّمَ من المُؤمِنين في ذلك، وأقيم الحدُّ على من أقيمَ عليه؛ شَرَع تبارك وتعالى -وله الفضلُ والمنَّةُ- يُعَطِّفُ الصِّدِّيقَ على قريبِه ونَسيبِه، وهو مِسطَحُ بنُ أُثاثةَ؛ فإنَّه كان ابنَ خالةِ الصِّدِّيقِ، وكان مِسكينًا لا مالَ له إلَّا ما يُنفِقُ عليه أبو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وكان من المهاجِرين في سبيلِ اللَّهِ، وقد وَلَق [6912] أي: كَذَب. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/145)، ((تاج العروس)) للزبيدي (26/ 482). وَلْقةً تاب اللَّهُ عليه منها، وضُرِبَ الحَدَّ عليها. وكان الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه معروفًا بالمعروفِ، له الفَضلُ والأيادي على الأقارِبِ والأجانِبِ. فلمَّا نزلت هذه الآيةُ إلى قولِه: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ، فكما تَغفِرُ عن المذنِبِ إليك نغفِرُ لك، وكما تصفَحُ نصفَحُ عنك. فعند ذلك قال الصِّدِّيقُ: بلى، واللَّهِ إنَّا نُحِبُّ -يا رَبَّنا- أن تغفِرَ لنا! ثمَّ رجَع إلى مِسطَحٍ ما كان يَصِلُه من النَّفقةِ، وقال: واللَّهِ لا أنزِعُها منه أبدًا، في مقابلةِ ما كان قال: واللَّهِ لا أنفَعُه بنافعةٍ أبدًا؛ فلهذا كان الصِّدِّيقُ هو الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وعن بِنتِه) [6913] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/31). .
- وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133 - 134] .
بيَّن اللَّهُ سُبحانَه صفاتِ المتَّقين الذين أعَدَّ لهم جَنَّتَه، وذَكَر منها صِفةَ العَفْوِ، فقال: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.
و(يدخُلُ في العَفْوِ عن النَّاسِ العَفْوُ عن كُلِّ مَن أساء إليك بقَولٍ أو فِعلٍ، والعَفْوُ أبلَغُ من الكَظْمِ؛ لأنَّ العَفْوَ تَركُ المؤاخَذةِ مع السَّماحةِ عن المُسيءِ، وهذا إنَّما يكونُ ممَّن تحلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ، وتخلَّى عن الأخلاقِ الرَّذيلةِ، وممَّن تاجَر مع اللَّهِ، وعفا عن عبادِ اللَّهِ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهةً لحُصولِ الشَّرِّ عليهم، ولِيَعفوَ اللَّهُ عنه، ويكونَ أجرُه على رَبِّه الكريمِ، لا على العبدِ الفقيرِ، كما قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ) [6914] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 148). .
- وقال سُبحانَه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] .
(قولُه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ يقولُ جَلَّ ثناؤه: فمَن عفا عمَّن أساء إليه إساءتَه إليه، فغَفَرَها له ولم يعاقِبْه بها، وهو على عقوبتِه عليها قادِرٌ؛ ابتغاءَ وَجهِ اللَّه، فأجرُ عَفوِه ذلك على اللَّهِ، واللَّهُ مُثيبُه عليه ثوابَه) [6915] ((جامع البيان)) للطبري (21/ 548). .
قال السَّعديُّ: (وفي جَعلِ أجرِ العافي على اللَّهِ ما يُهَيِّجُ على العَفْوِ، وأن يعامِلَ العبدُ الخَلقَ بما يحِبُّ أن يعامِلَه اللَّهُ به، فكما يحِبُّ أن يعفوَ اللَّهُ عنه فلْيَعْفُ عنهم، وكما يحِبُّ أن يسامِحَه اللَّهُ فلْيُسامِحْهم؛ فإنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ) [6916] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 760). .
أمَّا قَولُه: وأَصْلَحَ فقيل: المرادُ: أصلَحَ بينَه وبينَ خَصمِه الذي ظلَمَه بالعَفْوِ، وقيل المرادُ: أصلَحَ في عَفوِه، أي: صار عَفوُه مُشتَمِلًا على الإصلاحِ [6917] يُنظَر: ((الوسيط)) للواحدي (4/58)، ((تفسير السمعاني)) (5/83)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الشورى)) (ص: 300). .
- وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14] .
(هذا تحذيرٌ من اللَّهِ للمُؤمِنين من الاغترارِ بالأزواجِ والأولادِ؛ فإنَّ بعضَهم عدوٌّ لكم، والعَدوُّ هو الذي يريدُ لك الشَّرَّ، ووظيفتُك الحَذَرُ ممَّن هذا وصفُه، والنَّفسُ مجبولةٌ على محبَّةِ الأزواجِ والأولادِ، فنَصَح تعالى عبادَه أن توجِبَ لهم هذه المحبَّةُ الانقيادَ لمطالِبِ الأزواجِ والأولادِ، ولو كان فيها ما فيها من المحذورِ الشَّرعيِّ، ورغَّبهم في امتثالِ أوامِرِه، وتقديمِ مَرضاتِه بما عندَه من الأجرِ العظيمِ المُشتَمِلِ على المطالِبِ العاليةِ والمحابِّ الغاليةِ، وأن يؤثِروا الآخِرةَ على الدُّنيا الفانيةِ المنقضيةِ، ولَمَّا كان النَّهيُ عن طاعةِ الأزواجِ والأولادِ فيما هو ضَرَرٌ على العبدِ، والتَّحذيرُ من ذلك، قد يُوهِمُ الغِلظةَ عليهم وعقابَهم؛ أمَر تعالى بالحَذَرِ منهم، والصَّفحِ عنهم والعَفْوِ؛ فإنَّ في ذلك من المصالِحِ ما لا يمكِنُ حَصْرُه، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14] ؛ لأنَّ الجزاءَ من جِنسِ العَمَلِ.
فمَن عفا عفا اللَّهُ عنه، ومَن صَفَح صَفَح اللَّهُ عنه، ومَن غَفَر غَفَر اللَّهُ له، ومَن عامَل اللَّهَ فيما يحِبُّ، وعامَل عِبادَه كما يُحِبُّون وينفَعُهم، نال محبَّةَ اللَّهِ ومحبَّةَ عبادِه، واستوثَقَ له أمرُه) [6918] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 868). .
- وقال تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] .
قال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه لهذه الآيةِ: (أي: سَجِيَّتُهم وخُلُقُهم وطَبْعُهم تقتضي الصَّفحَ والعَفْوَ عن النَّاسِ، ليس سجيَّتُهم الانتقامَ من النَّاسِ) [6919] ((تفسير القرآن العظيم)) (7/210). .
- وقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء: 149] .
في الآيةِ أنَّ الإحسانَ إلى النَّاسِ يكونُ إمَّا بإعطاءِ الخَيرِ ظاهِرًا أو خَفيًّا، وإمَّا بدَفعِ السُّوءِ، وذلك بالعَفْوِ عنهم؛ لقَولِه :أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ؛ فالعَفْوُ عن السُّوءِ خَيرٌ، فيُستفادُ من ذلك فضيلةُ العَفْوِ عن السُّوءِ [6920] يُنظَر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النساء)) (2/390). .
وقد بيَّنَت الآيةُ (أنَّ فاعِلي الخيراتِ جَهرًا أو سِرًّا، والعافينَ عن النَّاسِ الذين يُسيئون إليهم، يَجزيهم سُبحانَه وتعالى من جِنسِ عَمَلِهم، فيعفو عن سَيِّئاتهم، ويُجزِلُ مَثوبتَهم، وكان شأنُه العَفْوَ، وهو القديرُ الذي لا يُعجِزُه الثَّوابُ الكثيرُ على العَمَلِ القليلِ، وإذا عفا فإنَّما يعفو عن قُدرةٍ كاملةٍ على العقابِ؛ فصيغةُ المبالغةِ من القُدرةِ، وهي كَلِمةُ قَديرٍ، هي التي تدُلُّ على إجزالِ المثوبةِ وعلى التَّرغيبِ في العَفْوِ مع القدرةِ على المؤاخَذةِ، وإلَّا كان وَضعُها في هذا الموضِعِ غَيرَ متَّفِقٍ مع بلاغةِ القُرآنِ) [6921] ((تفسير المنار)) (6/ 6). .

انظر أيضا: