موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (148-152)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ

غريب الكلمات:

 بِالسُّوءِ: السُّوء اسمٌ جامعٌ للآفات، ثم استُعمل في كلِّ ما يُستقبحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسان يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((المفردات)) للراغب (1 /441)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 73). .
سَبِيلًا: فِعلًا وطريقًا، والسَّبِيلُ: الطَّريق الذي فيه سُهولة، وأصل (سبل): امْتِدَادِ شَيْءٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1 /123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /129)، ((المفردات)) للراغب (1 /395). .
مُهِينًا: مُذِلًّا، والهوان: الاستخفاف، أو أن يُذَلَّ الإنسانُ من جهة متسلِّط مستخِفٍّ به، وأصله يدلُّ على احتقارٍ وحقارة في الشيء يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/283)، ((المفردات)) للراغب (ص: 848)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .

مشكل الإعراب:

قوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ:
في هذا الاستثناءِ قولان: أحدهما: أنَّه استثناء منقطع، ويكون المستثنى مَنْ في موضِعِ نصْب، تَقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أنْ يَنتصِفَ مِن ظالِمِه بما يُوازي ظُلامتَه. والثاني: أنَّه متَّصل، ومَنْ مُستثنًى مِن (أحَد) المُقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمَصدرِ الجَهْرَ، والمعنى: لا يحبُّ أن يَجهرَ أحدٌ بالسُّوء إلَّا مَن يُظلَم فيَجهر؛ كأنْ يَدعوَ الله بكشفِ السُّوءِ الذي أصابه، أو يَشكوَ ذلك إلى إمام، أو حاكمٍ، فعلى هذا يجوزُ أن يكونَ المستثنَى مَنْ في موضِع رفْعٍ بدلًا مِن المستثنَى منه المحذوفِ؛ إذ التقديرُ: أنْ يَجهَرَ أحدٌ. وأنْ يكونَ في موضِع نصْب على أصلِ الاستِثْناء مِن (أحد) المقدَّر، والتقديرُ: لا يُحبُّ اللهُ أنْ يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوءِ إلَّا المظلومُ، أو المظلومَ- رفعًا ونصبًا. وقيل غيرُ ذلك [2494] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/211)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/402)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/134: 138) .

المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّه لا يُحبُّ أن يجهرَ أحدٌ مِن عبادِه بالسيِّئ من القول، إلَّا مَن ظُلِم؛ فلا حرَجَ عليه أن يخبر بما أسيء إليه كأن يشتكيَ ممَّن ظلَمه، أو يقولَ للنَّاس إنَّه ظالم، أو يَدْعوَ عليه، وكان الله سميعًا عليمًا.
ثم يُخاطب عبادَه قائلًا لهم: إنَّهم إنْ يُظهروا الخير أو يُخفوه، أو يَعفوا عمَّن أساء إليهم؛ فإنَّه جلَّ وعلا عَفوٌّ يصفَحُ عن ذنوب عباده مع قُدرته على معاقبتِهم عليها؛ فلْيَعفوا هم أيضًا عمَّن أساء إليهم.
ثم بيَّن تعالى أنَّ الذين يَكفُرون بالله ورُسله، ويُريدون أن يُفرِّقوا بين الله ورُسُله؛ بالإيمانِ به عزَّ وجلَّ والكُفرِ بالرُّسل، ويقولون: نؤمن ببعض الرُّسل ونَكفُر ببعضٍ منهم، ويريدون بهذا أن يَسلُكوا طريقًا يُوصلهم إلى اللهِ ، فأخبر تعالى أنَّ هؤلاء هم الكافرون حقًّا، ولا ينفعهم ما يَدَّعون من إيمانهم ببعض الرُّسل، وتوعَّدهم تعالى بكونِه أعدَّ للكافرين عذابًا مُخزيًا مُذلًّا.
وأمَّا الذين آمَنوا بالله ورُسُله ولم يُفرِّقوا بَينهم؛ إذْ آمنوا بهم جميعًا، ولم يَكفُروا ببعضهم ويَدَّعوا الإيمانَ بالبَعض الآخَر، فوعَدهم الله - ووعْدُه الحقُّ - بأنَّه سوف يُعطيهم جزاءَ إيمانهم، وسيُثيبهم عليه، وكان الله غفورًا رحيمًا.

تفسير الآيات:

لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا شوَّه الله حالَ المنافقين، وشَهَّر بفضائحِهم تشهيرًا طويلًا، كان الكلامُ السَّابق بحيث يُثير في نفوس السَّامعين نُفورًا من النِّفاق وأحواله، وبُغضًا للملموزين به، وخاصَّة بعد أنْ وصفَهم باتِّخاذ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، وأنَّهم يَستهزئون بالقرآن، ونَهَى المسلمين عن القعود معهم؛ فحَذَّر اللهُ المسلمين من أن يَغيظهم ذلك على مَن يَتوسَّمون فيه النِّفاق، فيُجاهروهم بقول السُّوء، ورخَّص لِمَن ظُلِم من المسلمين أن يَجهرَ لظالِمِه بالسُّوء؛ لأنَّ ذلك دفاعٌ عن نفسه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/5). ، فقال تعالى:
 لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
أي: إنَّ الله تعالى يُبغض- أيُّها الناسُ- جَهْرَ أحدٍ منكم بالقول السيِّئ، كالشَّتمِ والقَذْف والسَّبِّ، ونحوِ ذلك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/631-632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/380). .
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
أي: أمَّا مَن ظُلم؛ فلا حرَجَ عليه أن يُخبِرَ بما أُسيء به إليه، كأنْ يدعوَ على مَن ظلَمَه ويتشكَّى منه، أو أن يقول له: أنت ظلمتني، أو يقول للناس: إنه ظالم، من غير أن يَكذِبَ عليه، ولا يَزيد على مظلمتِه، ولا يَتعدَّى بشَتمِه غيرَ ظالِمِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/380). .
وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى سميعٌ لِمَا تَجهرون به من سوءِ القولِ وغير ذلك من أقوالِكم, عليمٌ بما تُخفون منها، وعليمٌ بنِيَّاتكم ومَصدرِ أقوالكم, ومُحْصٍ ذلك كلَّه عليكم، فيُجازي كلًّا منكم بحَسَبه؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ، فاحْذروا أن تقولوا ما لا يَرضاه، أو أن تُخفوا في قلوبِكم ما لا يحبُّه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/381-382). .
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لـمَّا نَهَى الله سبحانه عن الجَهرِ بالسُّوء، ورخَّص فيه لِمَن ظُلِم، ندَب المرخَّصَ لهم إلى العفوِ وقولِ الخيرِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/7). ؛ فقال:
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ
أي: إن تُظهروا - أيُّها الناسُ - جميلًا من القول أو الفِعل، أو تتركوا إظهارَه فتُخفوه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/632-633)، ((تفسير ابن كثير)) (2/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/389). .
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
أي: أو تَصْفَحوا عن إساءةِ مَن أساء إليكم بقولٍ أو فِعل يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/633)، ((تفسير ابن كثير)) (2/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/389). .
فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
أي: فإنَّ الله تعالى يَصفَح عن ذُنوب عبادِه مع قُدرتِه على عِقابهم عليها؛ فاعْفوا أنتم أيضًا- أيُّها الناسُ- عمَّن أتى إليكم ظُلمًا, ولا تَجهروا له بالسُّوء من القول، وإنْ قدَرتُم على الإساءةِ إليه, كما يَعفو عنكم ربُّكم مع قُدرتِه على عِقابِكم وأنتم تَعصونه، والجزاءُ من جِنس العملِ؛ فمَن عفَا للهِ سبحانه عفَا اللهُ تعالى عنه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/633)، ((تفسير ابن كثير)) (2/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/389). .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أي: إنَّ الكافرين بالله تعالى وبرُسله عليهم السَّلام مِن اليهودِ والنَّصارى وغيرِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/634)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/392-393). .
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ
أي: ويُريدون أن يُؤمنوا بالله تعالى، ويَكفُروا برُسُلِه الَّذين أرْسلَهم إلى خَلْقِه؛ فيُكذِّبوهُم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/634)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/393). .
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
أي: ويقولون: نؤمن ببعض الرُّسُل، ونكفُر ببعضهم، كما فعلتِ اليهود؛ فكَفروا بعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهما وسلَّم، وزَعَموا الإيمانَ بموسى عليه السَّلام. وكما فعَلتِ النَّصارى؛ فكفروا بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ وزَعَموا الإيمانَ بعيسى عليه السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/634)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/393). .
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
أي: ويُريدون بإيمانهم ببعض الرُّسل دون بعضٍ سُلوكَ طريقٍ يُوصلهم إلى الله تعالى ويُنجِّيهم من عذابِه يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/393). .
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
جاءَ ذِكر هذه الآية عقِبَ ما قَبلَها؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ مرتبة هؤلا الكفَّار الذين وصَفَهم اللهُ تعالى متوسِّطةٌ بين الإيمانِ والكُفر يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 212). ، فقال تعالى:
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
أي: إنَّ كُفرَ هؤلاء الكفار محقَّقٌ لا محالة, وهم مُستحقُّونَ عذابَ الله تعالى حقًّا؛ فاستيقِنوا ذلك أيُّها المؤمنون, ولا يُشكِّكنَّكم في أمْرِهم انتحالُهم الكذبَ بدَعْوى أنَّهم يُقرُّون ببعض الرسل؛ فلو كانوا مؤمنين حقًّا بِمَن زعَموا الإيمانَ بهم، لآمَنوا بغيرِهم من الرُّسل عليهم السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/635)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212-213). .
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
أي: إنَّ الله تعالى قد هيَّأ لهؤلاء الكفَّار وغيرهم من الكافِرين عذابًا مخزيًا ومُذلًّا لهم، كما تَكبَّروا عن الإيمانِ الحقِّ بالله تعالى، واستهانوا بـِمَن كفَروا به من الرُّسل عليهم السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/636)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 213-213). .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ (152)
مُناسبةُ الآية لِمَا قَبلَها
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ حالَ الذين يؤمنون ببعض ويَكفُرون ببعض، ذكَر حالَ الذين يَجمعون في الإيمانِ بين الجميع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/397). ، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أي: إنَّ المؤمنينَ بالله تعالى حقًّا، وبجميعِ رُسلِه الكرام عليهم السَّلام، دون أن يُفرِّقوا بينهم بالإيمانِ ببعضهم والكُفرِ ببعضهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/637-638)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 213). .
أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: إنَّ هؤلاءِ المؤمنين بالله تعالى ورُسُله عليهم السَّلام جميعًا، سوف يُعطيهم اللهُ عزَّ وجلَّ جزاءَهم وثوابَهم على إيمانهم به سبحانه وبجَميعِ رُسلِه عليهم السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/638)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 213). .
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى غفورٌ لِمَن آمَن به وبجميعِ رُسله، فيَغفِر لهم السيِّئات، رحيمٌ بهم بتفضُّله عليهم بالهدايةِ إلى طريق الحقِّ وتقبُّل الحسَنات يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/638)، ((تفسير ابن كثير)) (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 213). .

الفوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: حُسْن دِين الإسلام، وأنَّه يدعو إلى التراضي وعدَمِ الجهر بالسوء، وأنْ لا نفضحَ أحدًا بسوئه؛ ولهذا كانتِ الغِيبةُ من كبائر الذُّنوب، وهي ذِكرُك أخاك بما يكره يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/383). .
2- عدالةُ الإسلام، ووجْه ذلك: أنَّه رخَّص للمظلومِ أن يجهرَ بالقول، لكن بحسَب مظلمتِه ولا يَزيد؛ قال تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/383). .
3- في قوله سبحانه: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: أنَّ الدينَ الإسلاميَّ لا يَكبِت النفوسَ، بل يوسِّع لها ويَشرح الصُّدور، وجهُ ذلك: أنَّه رخَّص للمظلوم أن يجهر بالسُّوء بقدر مظلِمته؛ لأنَّ ذلك تنفيسٌ عن نفسِه بلا شكٍّ   يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/383). .
4- قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ: مَن كان كاملَ الإيمان، عاليَ الأخلاق، فلا فَرقَ عنده في إبداء الخير وإخفائِه من جِهة نفْسِه؛ فهو يُرجِّح أحدَ الأمرين على الآخر بنيَّة صالحة، أو منفعة بيِّنة، ومَن ليس كذلك ينبغي أن يُرجِّح الإخفاءَ؛ حتى لا يكون له هوًى فيه، ومن بواعث الإبداءِ قصدُ القدوة، ومن بواعث الإخفاءِ قصدُ السِّتر، وحِفظ كرامة مَن يُوجَّه إليه الخيرُ، كالصدقة على الفقراء المتعفِّفين يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/7). .
5- أنَّ الإحسانَ إلى النَّاس يكونُ إمَّا بإعطاء الخير ظاهرًا أو خفيًّا، وإمَّا بدفْع السوء، وذلك بالعفوِ عنه؛ لقوله: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ؛ فالعفو عن السوء خيرٌ، فيُستفاد من ذلك فضيلةُ العفوِ عن السُّوءِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/390). .
6- الإشارةُ إلى أنَّ مَن عفَا عن الخَلْق عفوًا في محلِّه فلْيُبشر بعفو الله تعالى؛ لقوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/391). .
7- في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ... فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا: إرشادٌ إلى التفقُّه في معاني أسماء الله وصِفاته، وأنَّ الخَلْق والأمر صادرٌ عنها، وهي مقتضيةٌ له، ولهذا تُعلَّل الأحكامُ بالأسماءِ الحُسنى؛ فإنَّه لَمَّا ذكَر عمَلَ الخيرِ والعفوَ عن المسيء رتَّب على ذلك بأنْ أحالنا على معرفةِ أسمائه وأنَّ ذلك يُغنينا عن ذِكر ثوابِها الخاصِّ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (1 /212). .
8- قوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا فيه استحبابِ العفوِ مع القُدرة، والإشارة إلى أنَّه إذا كان الله تعالى مبالغًا في العفو عمَّن أساء مع كمال قُدرته على المؤاخذة ، فأنتم مِن باب أوْلَى عليكم أن تعفوا؛ لأنَّكم ليس لديكم القدرة في الانتصار للنَّفس، والانتقام مِن المجرم كالذي عندَ الله عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/7)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/389). ، وإيرادُه في معرض جواب الشَّرط إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا... يدلُّ على أنَّ العمدةَ هو العفوُ مع القُدرة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/248). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيه إباحةُ الجهرِ بالسُّوء للمظلومِ أو مشروعيَّته له هو من بابِ الضَّرورات; لأنَّه ارتكابُ أخفِّ الضَّررينِ، والضروراتُ تُقدَّر بقَدرِها، كما قال أهلُ الأصول؛ فلا يجوزُ للمظلومِ أن يتَّبع هواه في الاسترسال والتَّمادي في الجهرِ بالسوء، بما لا دَخلَ له في منْع الظلمِ والتَّخلُّص منه، وأَطْر الظالم على الحقِّ يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/6). .
2- في ختم الآية بقوله تعالى: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا بعد ذكر ما يُمنع وما يُباح مِن الكلام: تحذيرٌ مِن التَّكلُّم بما يُغضِب الله فيُعاقبكم على ذلِك، وفيه أيضًا ترغيبٌ في القول الحسَن يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 212). .
3- أنَّ معاقِد الخيراتِ على كثرتِها محصورةٌ في أمرين: صِدقٍ مع الحقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْق، والذي يتعلَّقُ بالخَلق محصورٌ في قِسمين: إيصالُ نفْعٍ إليهم، ودَفْعُ ضرَرٍ عنهم؛ فقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ إشارةٌ إلى إيصال النَّفْع إليهم، وقوله: أَوْ تَعْفُوا إشارةٌ إلى دفْع الضَّرَر عنهم، فدخل في هاتينِ الكلمتينِ جميعُ أنواع الخيرِ وأعمال البِرِّ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/254). .
4- أنَّ عفو الله تعالى أكملُ أنواع العَفو؛ لأنَّه عفوٌ مع القُدرة؛ لقوله: فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/381). .
5- كلمة قَدِيرًا قد أفادتْ بوضعها هنا الدَّلالةَ على عِظمِ الجزاءِ على العمل الذي رغَّبَتْ فيه الآية يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/7). .
6- قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ يتضمن الإيمانَ بكلِّ ما أخبر الله به عن نفْسِه، وبكلِّ ما جاءتْ به الرُّسُلُ من الأخبار والأحكام يُنظر: ((تفسير السعدي-سورة النساء)) (ص: 213). .
7- أنَّ الكفر ببعض الرُّسُل كفرٌ بالجميع؛ لقوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، ويدلُّ على هذا أيضًا قولُه تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 95] مع أنَّ نوحًا كان أوَّلَ الرُّسُل، ومع ذلك جعل تكذيب قومِه له تَكذيبًا لجميعِ الرُّسل؛ لأنَّ التكذيبَ بالرسول كأنَّه تكذيبٌ بالجنس، أي: بجِنس الرِّسالة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/386). .
8- إنَّما قال: وَلَمْ يُفرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مع أنَّ التفريق يَقتضي شيئين فصاعدًا، إلَّا أنَّ لفظ (أحَد) يستوي فيه الواحدُ والجمْع، والمذكَّر والمؤنَّث، ويدلُّ عليه وجهان: الأوَّل: صحَّة الاستثناء. والثاني: قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/254). [الأحزاب: 32].
9- تمام مِنَّة الله سبحانه على العِباد؛ حيث سمَّى الثواب أجْرًا، ومن المعلوم أنَّ الأجر ثابتٌ لزومًا للمُستأجَر، والذي أوجب هذا الأجرَ هو اللهُ تعالى؛ أوجبَه على نفْسِه، وهذا يدلُّ على تمامِ فضْله عزَّ وجلَّ ومِنَّته؛ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/403). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ...: فيه إيجاز بالحَذْف، والتقدير: (لا يحبُّ الله الجهرَ بالسُّوءِ مِن القول ولا الإسرارَ به...) كما يُعلَم مِن نهيِه تعالى عن النَّجْوى بالإثم والعُدوان ومعصية الرَّسول، وأمْره بالتناجي بالبرِّ والتقوى فقط. وإنما خصَّ الجهر هنا بالذِّكر؛ لمناسبةِ بيان مفاسدِ الكفَّارِ والمنافقين في هذا السِّياق، ولأنَّ الجهرَ بالسُّوءِ أشدُّ ضررًا من الإسرارِ به; لأنَّ ضررَه وفسادَه يَفشُو في جمهورِ الناس حتى لا يكادَ يَسلَمُ منه أحدٌ يُنظر: ((تفسير المنار)) (6/5). .
2- قوله: وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا: خبَرٌ فيه تهديدٌ وتحذيرٌ مِن التعدِّي في الجهر المأذونِ فيه، يعني فليتَّقِ اللهَ ولا يقُلْ إلَّا الحق ولا يقذف مستورًا بسوء؛ فإنَّه يصير عاصيًا لله بذلك، وهو تعالى سميعٌ لِما يقوله، عليمٌ بما يضمره يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/254)، ((تفسير أبي حيان)) (4/118). ، ومن كان سميعًا عليمًا فيوشك أن يُوقِع العقوبةَ بمَن خالف أمْرَه وعصاه.
3- قولُه: يَكْفُرُونَ: جِيء بالمضارعِ هنا؛ للدَّلالة على أنَّ هذا أمرٌ متجدِّد فيهم مستمرٌّ؛ لأنَّهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لَمَا كانوا أحرياءَ بالذمِّ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/9). .
4- قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا: (حَقًّا) مصدر مؤكِّد لمضمون الجُملة الخبريَّة، أي: هم الذين كفروا كفرًا حقًّا، أي: يَقينًا محقَّقًا يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/106)، ((تفسير أبي حيان)) (4/120)، ((تفسير الزمخشري)) (1/583). .
- وأفاد تعريفُ جُزأي الجُملة، والإتيان بضمير الفَصْل (هم)؛ تأكيدَ قصْرِ صفة الكفر عليهم، بتنزيل كُفر غيرِهم في جانب كُفرهم منزلةَ العَدم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/11). . والإتيان بضمير الفَصْل فيه أيضًا؛ لئلَّا يُتوهَّم أنَّ ذلك الإيمانَ ينفعهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/119). .
5- قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا: فيه إظهارٌ في مقام الإضمارِ- حيث قال: لِلْكَافِرِينَ ولم يقُل: (لهم)-؛ ذمًّا لهم، وتَجسيدًا لكفرهم كأنَّه بمنزلةِ المرئيِّ بالبصر. والإظهارُ في موضِع الإضمارِ ليس تطويلًا وزيادة بلا فائدةٍ، بل له فَوائِدُ؛ منها: قصْدُ العموم، وتطبيقُ الوَصْف على أولئك الذين يَعودُ الضميرُ عليهم لو كانَ موجودًا، وكذلك بَيانُ عِليَّة الحُكم، فمثلًا: في قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، لو قال: (أَعتَدْنا لهم) لم يَتبيَّن لماذا أعدَّ لهم هذا العذابَ، لكن لَمَّا قال: لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، كأنَّ هذا الوصفَ يُفيد العِليَّة، أي: إنَّ العِلَّةَ في إعدادِ العَذابِ المهين لهم هو الكُفرُ يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/367)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/397). .
6- قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ... الآية إلى آخِرها: جِيءَ بها لمقابلةِ المسيئين بالمحسنين، ومقابلةِ النَّذارةِ بالبشارة على عادةِ القرآن يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/12). ، وهو من محاسنُ بلاغته، فالقرآن مثانٍ، إذا ذكر شيئا ذكر ضدَّه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/400). .
7- قوله: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ: فيه التعبيرُ باسم الإشارة أُولَئِكَ؛ تَعظيمًا لهم، وجاءت بصيغة البعيدِ؛ للدَّلالة على علوِّ منزلِتهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2 /399). .
- والتَّصدير بـ(سوف)؛ لتأكيدِ الوعد، والدَّلالة على أنَّه كائن لا محالة وإنْ تأخَّر يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/106)، ((تفسير أبي السعود)) (2/249). .