موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (20-23)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فيه أوجُهٌ:
 أحدُها: أنَّ مِثْلَ نَعتٌ لـ (حَقٌّ) مبنيٌّ على الفَتحِ في محَلِّ رَفعٍ، وإنَّما بُنِيَ لإضافتِه إلى مَبنيٍّ وهو أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، وعليه فـ مَا زائِدةٌ للتَّأكيدِ.
الثَّاني: أنَّ مِثْلَ نَعتٌ مَنصوبٌ لِمَصدرٍ محذوفٍ، أي: لَحَقٌّ حَقًّا مِثلَ نُطقِكم.
الثَّالِثُ: أنَّه حالٌ مَنصوبٌ مِنَ الضَّميرِ المرفوعِ في لَحَقٌّ أو مِن نفْسِ (حَقٌّ) وإن كان نَكِرةً، على مَذهَبِ سِيبَويهِ. ومَا على هذه الوُجوهِ المتقَدِّمةِ زائِدةٌ أيضًا، والمصدَرُ المُؤَوَّلُ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ في محَلِّ جَرٍّ بإضافةِ مِثْلَ إليه، والتَّقديرُ: إنَّه لحَقٌّ مِثلَ نُطقِكم. وقيل في توجيهِ مِثْلَ غَيرُ ذلك [153] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/54)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/161)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/687)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/47). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى داعيًا عبادَه إلى التَّفكُّرِ والاعتبارِ: وفي الأرضِ دَلائِلُ وعَلاماتٌ على تَوحيدِ اللهِ وقُدرتِه على بَعثِ عِبادِه، للمُوقِنينَ به، وفي أنفُسِكم دَلائِلُ وعَلاماتٌ على توحيدِ اللهِ وقُدرتِه، أفلا تُبصِرونَ تلك الدَّلائِلَ الَّتي في نُفوسِكم؟!
وفي السَّماءِ رِزقُكم مِن الأمطارِ، وصنوفِ الأقدارِ المكتوبةِ، وفيها ما وُعِدْتُم به.
ثمَّ يقولُ تعالى مُقسِمًا: فوَرَبِّ السَّماءِ والأرضِ إنَّه لحَقٌّ ثابِتٌ لا شَكَّ فيه، كما أنَّكم تَنطِقونَ.

تفسير الآيات:

وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20).
بعدَ أن ذكَر أوصافَ المتَّقينَ، بيَّن أنَّه قد لاحَتْ لهم الأدِلَّةُ الأرضيَّةُ والسَّماويَّةُ الَّتي بها أخْبَتوا إلى ربِّهم، وأنابوا إليه، فقال [154] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/179). :
وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20).
أي: وفي الأرضِ دَلائِلُ وعَلاماتٌ على تَوحيدِ اللهِ وحِكمتِه، ورَحمتِه وقُدرتِه على بَعثِ عِبادِه، وغَيرِها مِن صِفاتِ كَمالِه، وذلك للمُوقِنينَ باللهِ ولِقائِه وصِدقِ رُسُلِه [155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/518)، ((تفسير القرطبي)) (17/39، 40)، ((تفسير البيضاوي)) (5/147)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 295- 302)، ((تفسير ابن كثير)) (7/419)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/352)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 126، 127). قال الشوكاني: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ أي: دلائِلُ واضِحةٌ وعلاماتٌ ظاهِرةٌ مِنَ الجِبالِ، والبَرِّ والبَحرِ، والأشجارِ والأنهارِ والثِّمارِ، وفيها آثارُ الهَلاكِ للأُمَمِ الكافِرةِ المكَذِّبةِ لِما جاءت به رُسُلُ اللهِ، ودَعَتْهم إليه). ((تفسير الشوكاني)) (5/101). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/441). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 3، 4].
وقال تبارك وتعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 33 - 36].
وقال تقدَّسَت أسماؤه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .
وقال جَلَّ شَأنُه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أشار إلى آياتِ الآفاقِ؛ أتْبَعَها آياتِ الأنفُسِ، فقال [156] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/457). :
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21).
أي: وفي أنفُسِكم دَلائِلُ وعَلاماتٌ على توحيدِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه ورَحمتِه وحِكمتِه، وغَيرِ ذلك مِن صِفاتِ كَمالِه، أفلا تُبصِرونَ تلك الدَّلائِلَ الَّتي في نُفوسِكم [157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/519، 520)، ((تفسير القرطبي)) (17/40)، ((تفسير البيضاوي)) (5/147)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 303- 421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/353)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 128، 129). قيل: المعنى: وفي خَلْقِ أنفُسِكم حينَ كانت نُطْفةً ثمَّ عَلَقةً ثمَّ مُضْغةً ثمَّ عَظْمًا ثمَّ لَحْمًا إلى أن نُفِخَ فيها الرُّوحُ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/129)، ((الوسيط)) للواحدي (4/176)، ((تفسير البغوي)) (4/284)، ((تفسير الخازن)) (4/194). قال السَّمْعاني: (الأَولى أن يُقالَ: هو سائِرُ الآياتِ الَّتي في النَّفْسِ مِمَّا يدُلُّ على أنَّ لها خالِقًا وصانِعًا). ((تفسير السمعاني)) (5/255). وقال القاسمي: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أي: في حالِ ابتِدائِها وتنَقُّلِها مِن حالٍ إلى حالٍ، واختِلافِ ألسِنَتِها وألوانِها، وما جُبِلَت عليه مِنَ القُوى والإراداتِ، وما بيْنَها مِن التَّفاوُتِ في العُقولِ والأفهامِ، وما في تراكيبِ أعضائِها مِنَ الحِكَمِ في وَضعِ كُلِّ عُضوٍ منها في المحَلِّ المُفتَقِرِ إليه، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يُحصيه قَلَمُ كاتبٍ، ولا لِسانُ بَليغٍ). ((تفسير القاسمي)) (9/40). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/399)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/169). والخِطابُ قيل: إنَّه مُوَجَّهٌ إلى المُشرِكين. وممَّن اختاره: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/353). ؟!
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22).
أي: وفي السَّماءِ رِزقُكم مِن الأمطارِ، وصُنوفِ الأقدارِ المكتوبةِ [158] ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ أي: المطَرُ -ومِنهم مَن ذكَر معه الثَّلجَ-: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعلبيُّ، والواحدي، والسمعاني، والنسفي، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/129)، ((تفسير ابن جرير)) (21/520)، ((تفسير السمرقندي)) (3/343)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/285)، ((تفسير الثعلبي)) (9/113)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1028)، ((تفسير السمعاني)) (5/255)، ((تفسير النسفي)) (3/374)، ((تفسير ابن جزي)) (2/308). ونَسَب ابنُ الجوزيِّ هذا القَولَ إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/169). قال الثعلبي: (يعني: المطَرَ والثَّلجَ اللَّذينِ بهما تُخرِجُ الأرضُ النَّباتَ الَّذي هو سَبَبُ الأقواتِ. وقال بعضُ أهل المعاني: معناه: وفي المطَرِ والنَّباتِ سَبَبُ رِزقِكم، فسُمِّيَ المطَرُ سَماءً؛ لأنَّه عن السَّماءِ يَنزِلُ). ((تفسير الثعلبي)) (9/113). وقال البِقاعي: (قال: وَفِي السَّمَاءِ أي: جِهةِ العُلُوِّ رِزْقُكُمْ بما يأتي مِن المطَرِ والرِّياحِ والحَرِّ والبَردِ وغيرِ ذلك مِمَّا رَتَّبَه سبحانه لِمَنافِعِ العِبادِ). ((نظم الدرر)) (18/458). وقال السعدي: (وقولُه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ أي: مادَّةُ رِزقِكم، مِنَ الأمطارِ، وصُنوفِ الأقدارِ؛ الرِّزقُ الدِّينيُّ والدُّنْيويُّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 809). وقال ابنُ عثيمين: (إنَّ في السَّماءِ رِزقًا مِنَ المطَرِ، وما كتَبَه اللهُ لنا في اللَّوحِ المحفوظِ مِنَ المصالِحِ والمنافِعِ الجَسَديَّةِ مِن أموالٍ وبَنينَ وغَيرِ ذلك، فيكونُ هذا القَولُ أشمَلَ وأعَمَّ، فنأخُذُ بالأعَمِّ؛ لأنَّ الأعَمَّ يَدخُلُ فيه الأخَصُّ، ولا عَكْسَ، فالمرادُ بالرِّزقِ ما هو أعَمُّ مِن المطَرِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 131) بتصرف. ، وفي السَّماءِ ما وُعِدْتُم به كذلك [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/520، 523)، ((تفسير القرطبي)) (17/41)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 421، 422)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/116، 117)، ((تفسير ابن كثير)) (7/419)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 130-132). في معنى قَولِه تعالى: وَمَا تُوعَدُونَ أقوالٌ؛ منها: أنَّه أمْرُ السَّاعةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/129). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الرَّبيعُ، وابنُ سِيرِينَ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/368)، ((البسيط)) للواحدي (20/443). ومنها: أنَّ المرادَ: العذابُ السَّماويُّ؛ لأنَّ مؤاخَذاتِ المكذِّبينَ الأوَّلينَ كانت مِن جِهَتِها، والخِطابُ لِمُشركي مكَّةَ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/40). ومنها: أنَّه كُلُّ ما وُعِدَ به العِبادُ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وثَوابٍ أو عِقابٍ، في الدُّنيا والآخرةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والخازن، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/523)، ((تفسير السمرقندي)) (3/343)، ((تفسير الخازن)) (4/194)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809). قال السعدي: (وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الجَزاءِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّه يَنزِلُ مِن عندِ اللهِ، كسائِرِ الأقدارِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 809). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ في الجملةِ: مُجاهِدٌ، وعطاءٌ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/522)، ((تفسير الماوردي)) (5/368)، ((البسيط)) للواحدي (20/443). وقيل: المرادُ: الجنَّةُ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ الجوزي، وابنُ القيِّم، والنَّيسابوريُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/116)، ((تفسير النيسابوري)) (6/187)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 132). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/419). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلَفِ: سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/523)، ((تفسير القرطبي)) (17/41). وقال الرَّازي: (وَمَا تُوعَدُونَ إمَّا مِن الجنَّةِ والنَّارِ في قولِه تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ [الذاريات: 13] وقولِه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الذاريات: 15]؛ فيَكونُ إيعادًا عامًّا، وإمَّا مِن العذابِ؛ وحينَئذٍ يكونُ الخِطابُ مع الكفَّارِ، فيَكونُ كأنَّه تعالى قال: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ كافيةٌ، وأمَّا أنتم أيُّها الكافِرون ففي أنفُسِكم آياتٌ هي أظهَرُ الآياتِ، وتَكفُرون بها لِحُطامِ الدُّنيا، وحُبِّ الرِّياسةِ، وفي السَّماءِ الأرزاقُ، فلو نظَرْتُم وتأمَّلْتُم حقَّ التَّأمُّلِ لَمَا ترَكْتُم الحقَّ لأجْلِ الرِّزقِ؛ فإنَّه واصلٌ بكلِّ طريقٍ، ولَاجْتَنَبْتُم الباطِلَ؛ اتِّقاءً لِما تُوعَدونَ مِن العذابِ النَّازِلِ). ((تفسير الرازي)) (28/172). قال الشَّوكاني: (والأَولى الحَملُ على ما هو أعَمُّ مِن هذه الأقوالِ؛ فإنَّ جزاءَ الأعمالِ مَكتوبٌ في السَّماءِ، والقَضاءُ والقَدَرُ يَنزِلُ منها، والجنَّةُ... فيها). ((تفسير الشوكاني)) (5/102). .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((كتَبَ اللهُ مَقاديرَ الخلائِقِ قبْلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ )) [160] أخرجه مسلم (2653). .
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن سُبحانَه الآياتِ، ونَبَّه عليها تنبيهًا يَنتَبِهُ به الذَّكيُّ اللَّبيبُ؛ أقسَمَ تعالى على أنَّ وَعْدَه وجَزاءَه حَقٌّ، وشَبَّه ذلك بأظهَرِ الأشياءِ لنا، وهو النُّطقُ، فقال: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، فكما لا تَشُكُّونَ في نُطقِكم فكذلك لا يَنبغي الشَّكُّ في البَعثِ بعدَ المَوتِ [161] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 809). .
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23).
أي: أُقسِمُ برَبِّ السَّماءِ والأرضِ إنَّه لحَقٌّ ثابِتٌ لا شَكَّ فيه، كما أنَّكم تَنطِقونَ حَقيقةً بلا خيالٍ ولا سِحرٍ، ودونَ أدنى شَكٍّ منكم في ذلك [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/523)، ((تفسير القرطبي)) (17/41، 43)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 175، 176، 422، 423)، ((تفسير ابن كثير)) (7/420)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/459، 460)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 132، 133). قال الشوكاني: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ أي: ما أُخبِرُكم به في هذه الآياتِ. قال الزَّجَّاجُ: هو ما ذُكِرَ مِن أمرِ الرِّزقِ والآياتِ. قال الكلبيُّ: يعني: ما قَصَّ في الكتابِ. وقال مقاتلٌ: يعني: مِن أمرِ السَّاعةِ. وقيل: إنَّ «ما» في قولِه: وَمَا تُوعَدُونَ مُبتدَأٌ، وخَبَرُه فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ؛ فيكونُ الضَّميرُ لـ «ما»). ((تفسير الشوكاني)) (5/102). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/129)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/54). واختار ابنُ جريرٍ أنَّ مَرجِعَ الضَّميرِ في قوله: إِنَّهُ إلى قَولِه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/523). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (5/255)، ((تفسير ابن عطية)) (5/176). واختار الرَّازي أن الضَّميرَ راجِعٌ إلى القرآنِ، أي: إنَّ القرآنَ حَقٌّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/172). قال ابنُ عثيمين: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ الفاءُ عاطِفةٌ، والواوُ للقَسَمِ، ورَبُّ السَّماءِ والأرضِ: هو اللهُ عزَّ وجَلَّ، أقسَمَ بنَفْسِه تبارك وتعالى بمُقتَضى ربوبيَّتِه للسَّماءِ والأرضِ أنَّ ما يُوعَدونَ حَقٌّ؛ لأنَّه قال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ، أي: ما تُوعَدونَ. ويَحتَمِلُ أن يكونَ الضَّميرُ عائدًا للقُرآنِ، ويحتمِلُ أيضًا أنَّه عائدٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمعاني الثَّلاثةُ كُلُّها مُتلازِمةٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 132). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ دَعوةٌ منه سُبحانَه لعبادِه إلى التَّفَكُّرِ والاعتِبارِ، فقولُه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ شامِلٌ لِنَفْسِ الأرضِ وما فيها مِن جِبالٍ وبحارٍ، وأنهارٍ وأشجارٍ، ونباتٍ: تدُلُّ المتفَكِّرَ فيها المُتأمِّلَ لِمَعانيها على عَظَمةِ خالِقِها، وسَعةِ سُلطانِه، وعَميمِ إحسانِه، وإحاطةِ عِلْمِه بالظَّواهِرِ والبواطِنِ، وكذلك في نفْسِ العَبدِ مِنَ العِبَرِ والحِكمةِ والرَّحمةِ ما يدُلُّ على أنَّ اللهَ وَحْدَه الأحَدُ الفَردُ الصَّمَدُ، وأنَّه لم يَخلُقِ الخَلْقَ سُدًى [163] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 809). ! فهي دَعوةٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ لعِبادِه أنْ يَتبَصَّروا في الآياتِ، فمَن لم يَتبَصَّرْ في الآياتِ فلْيَعلَمْ أنَّه مَحرومٌ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 129). .
2- في قَولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أنَّ الإنسانَ كُلَّما نَظَرَ في الآياتِ الكونيَّةِ الَّتي هي المخلوقاتُ، ازداد عِلمًا بخالِقِه ومَعبودِه [165] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 19). .
3- في قَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ تَنبيهٌ منه سُبحانَه لنا على فِعْلِه فينا [166] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/44). .
4- في قَولِه تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ أنَّه مِن مِعناه: أنَّك لا تَشتَغِلْ برِزقٍ؛ فإنَّه في السَّماءِ، ولا سَبيلَ لك إلى العُروجِ إليها، واشتَغِلْ بما كُلِّفْتَه مِن الخِدمةِ لِمَن عِندَه الرِّزقُ؛ ففي السَّماءِ الرِّزقُ، وإليها يُرفَعُ العَمَلُ، فإنْ أردْتَ أن يَنزِلَ إليك رِزقُك فأَصعِدْ إليها الصَّالِحَ مِن عَمَلِك؛ ولهذا قالوا: «الصَّلاةُ قَرعُ بابِ الرِّزقِ»، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [167] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/459). [طه: 132] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ لم يُبَيِّنِ اللهُ هذه الآياتِ، بل جاءتْ مُنَكَّرَةً؛ لِيَشملَ كلَّ آيةٍ في الأرضِ؛ سواءٌ كانتِ الآياتُ فيما يَحدثُ فيها مِن الحوادثِ، أو كانت في نَفْسِ طبيعةِ الأرضِ وتركيبِ الأرضِ؛ فإنَّ فيها آياتٍ عظيمةً مِن حيثُ التَّركيبُ، كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ [الرعد: 4] ، فتَجِدُ الحَجَرَ الواحدَ يَشتمِلُ على عدَّةِ مَعادِنَ، وهو حَجَرٌ واحدٌ! وترى أحيانًا كقَولِه تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] ! وتَجِدُ فيها الأرضَ اللَّيِّنةَ الرِّخْوةَ، والأرضَ الصُّلبةَ إلى غيرِ ذلك ممَّا يَعرِفُه عُلَماءُ (الجيولوجيا) مِن الآياتِ العظيمةِ، وفيها آياتٌ مِن جهةِ الحوادثِ الَّتي تَحدُثُ فيها مِن الزَّلازلِ والبراكينِ وغيرِها، وفيها آياتٌ أيضًا مِن جهةِ طبيعةِ الجوِّ مِن حَرٍّ وبرْدٍ، ورياحٍ عاصفةٍ، ورياحٍ باردةٍ، ورياحٍ دافئةٍ، وغيرِ ذلك ممَّا إذا تأمَّلَه الإنسانُ عَرَف به قدرةَ اللهِ عزَّ وجلَّ مِن جهةٍ، وعَرَف حِكمتَه ورحمتَه أيضًا مِن جِهةٍ أخرى؛ لأنَّ آياتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى يَتبَصَّرُ بها الإنسانُ مِن حيثُ القدرةُ والعَظَمةُ، ومِن حيثُ الحِكمةُ والرَّحمةُ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ تَجِدُه مُناسِبًا لِمَكانِه وزَمانِه، وكلَّ شيءٍ تَجِدُه مِن آثارِ رحمةِ اللهِ تبارك وتعالى، فكلمةُ آَيَاتٌ نَكِرةٌ عامَّةٌ لكلِّ ما يَحدُثُ في الأرضِ مِن آياتٍ، ولكلِّ ما فيها مِن طبيعتِها، وتركيبِها، وغيرِ ذلك [168] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 126). .
2- في قَولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ أنَّ الآياتِ المرموقةَ مِن أحوالِ الأرضِ صالِحةٌ للدَّلالةِ أيضًا على تفَرُّدِه تعالى بالإلهيَّةِ في كيفيَّةِ خَلْقِها ودَحْوِها للحَيوانِ والإنسانِ، وكيف قُسِّمَت إلى سَهلٍ وجَبَلٍ وبَحرٍ، ونظامِ إنباتِها الزَّرعَ والشَّجَرَ، وما يَخرُجُ مِن ذلك مِن منافِعَ للنَّاسِ؛ ولهذا حُذِفَ تَقييدُ آَيَاتٌ بمتعَلَّقٍ؛ لِيَعُمَّ كُلَّ ما تَصلُحُ الآياتُ الَّتي في الأرضِ أن تدُلَّ عليه [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/352). .
3- في الآياتِ الثَّلاثِ: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ترتيبٌ حَسَنٌ؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ له أمورٌ يَحتاجُ إليها لا بُدَّ مِن سَبْقِها حتَّى يُوجَدَ هو في نَفْسِه، وأمورٌ تُقارِنُه في الوُجودِ، وأمورٌ تَلحَقُه وتُوجَدُ بَعْدَه؛ لِيبقَى بها؛ فالأرضُ هي المكانُ، وإليه يحتاجُ الإنسانُ، ولا بُدَّ مِن سَبْقِها؛ فقال: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ، ثمَّ في نَفْسِ الإنسانِ أمورٌ مِن الأجسامِ والأعراضِ؛ فقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ، ثمَّ بقاؤُه بالرِّزقِ؛ فقال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ، ولولا السَّماءُ لَمَا كان للنَّاسِ البَقاءُ [170] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/172). .
4- في قَولِه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ أنَّها لا لكُلِّ إنسانٍ، بل للمُوقِنِ، أمَّا الشَّاكُّ والمترَدِّدُ والكافرُ فإنَّه لن يَنتفِعَ بهذه الآياتِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 127). .
5- في قَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أنَّ هذا التَّكوينَ العَجيبَ كما يدُلُّ على إمكانِ الإيجادِ بعدَ المَوتِ يدُلُّ على تفَرُّدِ مُكَوِّنِه تعالى بالإلهيَّةِ؛ إذ لا يَقدِرُ على إيجادِ مِثلِ الإنسانِ غَيرُ اللهِ تعالى؛ فإنَّ بواطِنَ أحوالِ الإنسانِ وظواهِرَها عجائِبُ مِن الانتِظامِ والتَّناسُبِ، وأعجَبُها خَلقُ العَقلِ وحَرَكاتِه، واستِخراجُ المعاني، وخَلقُ النُّطقِ، والإلهامُ إلى اللُّغةِ، وخَلقُ الحواسِّ، وحَرَكةُ الدَّورةِ الدَّمَويَّةِ، واتِّساقُ الأعضاءِ الرَّئيسةِ وتفاعُلُها، وتسويةُ المفاصِلِ والعَضَلاتِ والأعصابِ والشَّرايينِ، وحالُها بيْنَ الارتخاءِ واليُبسِ؛ فإنَّه إذا غَلَب عليها التَّيبُّسُ جاء العَجزُ، وإذا غَلَب الارتِخاءُ جاء الموتُ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/353). .
6- في قَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ إشارةٌ إلى عَلامةِ الصَّنعةِ الموجودةِ في الإنسانِ؛ مِن يَدَينِ يَبطِشُ بهما، ورِجلَينِ يَمشي بهما، وعَينٍ مُبْصِرةٍ، وأُذُنٍ يَسمَعُ بها، ولِسانٍ يتكلَّمُ به، وأضراسٍ تَحدُثُ له عندَ غِناه عنِ الرَّضاعِ، وحاجتِه إلى الغِذاءِ، ومَعِدةٍ أُعِدَّتْ لطَبخِ الغِذاءِ، وكبدٍ يَسلُكُ إليها صَفْوُه، وعُروقٍ ومَعابِرَ يَنفُذُ منها إلى الأطرافِ، وأمعاءٍ يَرسُبُ إليها بَقيَّةُ الغِذاءِ، ويَبرُزُ عن أسفَلِ البَدَنِ [173] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (1/506، 507). !
7- قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ في إيثارِ صِيغةِ تُوعَدُونَ خُصوصيَّةٌ مِن خصائصِ إعجازِ القرآنِ؛ فإنَّ هذه الصِّيغةَ صالِحةٌ لأنْ تَكونَ مَصوغةً مِن الوعدِ؛ فيَكونَ وزْنُ (تُوعَدون): (تُفعَلون)، وهو مُضارِعُ (وعَدَ) مَبنيًّا للنَّائبِ، وصالِحةٌ لأنْ تكونَ مِن الإيعادِ، ووزنُه حينَئذٍ: (تُؤَفْعَلون)، مِثلُ تَصريفِ أُكرِمَ يُكرَمُ، وبذلك صار (تُوعَدون) مِثلَ تُكرَمونَ؛ فاحتمَلَت البِشارةَ والإنذارَ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/354). .
8- قولُه تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ ما أُوعِدوه يأْتيهم مِن قِبَلِ السَّماءِ -على قولٍ في التَّفسيرِ في معنى تُوعَدُونَ-؛ كما قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان: 10، 11]؛ فإنَّ ذلك الدُّخَانَ كان في طَبقاتِ الجوِّ [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الدُّخانِ.
9- في قَولِه تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أنَّه سُبحانَه أقسَمَ مِن قَبْلُ بالأُمورِ الأرضيَّةِ -وهي الرِّياحُ-، وبالسَّماءِ في قَولِه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذَّارِيات: 7]، ولم يُقسِمْ برَبِّها، وهاهنا أقسَمَ برَبِّها. ووَجهُ ذلك: أنَّه كذلك التَّرتيبُ؛ يُقسِمُ المتكَلِّمُ أوَّلًا بالأدنى، فإنْ لم يُصَدَّقْ به يرتقي إلى الأعلى [176] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/173). .
10- في قَولِه تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ أنَّ اللهَ تعالى ضَمِنَ أرزاقَ عبادِه، وتَكفَّلَ بها، كما قال عزَّ وجلَّ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [177] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/180). [هود: 6] .
11- في قَولِه تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ أنَّ الجنَّةَ في السَّماءِ، وليست في الأرضِ؛ لقولِه: وَمَا تُوعَدُونَ، يعني: وفيه الَّذي تُوعدونَ، والَّذي نُوعدُ: الجنَّةُ، ولهذا قال اللهُ تعالى في قِصَّةِ آدمَ: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا [البقرة: 38] ، والهبوطُ يكونُ مِن أعلى إلى أسفَلَ؛ فالجنَّةُ في السَّماءِ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 132). ويُنظر للخِلافِ في الجنَّةِ الَّتي أُسكِنَها آدَمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُهبِط منها: ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 22). . وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ بـ وَمَا تُوعَدُونَ: الجنَّةُ.
12- يجوزُ للمُفتي والمناظِرِ أنْ يَحلِفَ على ثُبوتِ الحُكمِ عندَه، وإنْ لم يكُنْ حَلِفُه مُوجِبًا لثُبوتِه عندَ السَّائلِ والمُنازِعِ؛ لِيَشعُرَ السَّائلُ والمُنازِعُ له أنَّه على ثِقةٍ ويَقينٍ ممَّا قال له، وأنَّه غيرُ شاكٍّ فيه؛ قال تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، وقد أمر اللهُ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَحلِفَ على ثُبوتِ الحَقِّ الَّذي جاء به، في ثلاثةِ مَواضِعَ مِن كِتابِه؛ في سورةِ يُونُسَ الآية (53): وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، وسورةِ سَبَأٍ الآية (3): وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وسُورةِ التَّغابُنِ الآية (7): زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [179] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/126). .
13- قال اللهُ تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ هاهنا أمرٌ يَنبغي التَّفَطُّنُ له، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى شَهِد بصِحَّةِ ما أخبَرَ به، وهو أصدَقُ الصَّادِقينَ، وأقسَمَ عليه، وهو أبَرُّ المُقسِمينَ، وأكَّدَه بتَشبيهِه بالواقِعِ الَّذي لا يَقبَلُ الشَّكَّ بوَجهٍ، وأقام عليه مِنَ الأدِلَّةِ العِيانيَّةِ والبُرهانيَّةِ ما جعله مُعايَنًا مُشاهَدًا بالبصائِرِ، وإنْ لم يُعايَنْ بالأبصارِ، ومع ذلك فأكثَرُ النُّفوسِ في غَفلةٍ عنه، لا تَستَعِدُّ له، ولا تأخُذُ له أُهبَةً، والمُستَعِدُّ له الآخِذُ له أُهبةً لا يُعطيه حَقَّه منهم إلَّا الفَردُ بعدَ الفَردِ [180] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 423). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ مُتَّصِلٌ بالقَسَمِ وجوابِه مِن قولِه: وَالذَّارِيَاتِ وقولِه: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ، إلى قولِه: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذَّارِيات: 1 - 7]؛ فبعْدَ أنْ حُقِّقَ وُقوعُ البَعثِ بتأكيدِه بالقسَمِ، انتُقِلَ إلى تَقريبِه بالدَّليلِ لإبطالِ إحالتِهم إياه، فيكونُ هذا الاستِدلالُ كقولِه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [فصلت: 39] ، وما بيْنَ هاتَينِ الجُملتَينِ اعتِراضٌ؛ فجُملةُ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ يَجوزُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على جُملةِ جَوابِ القسَمِ، وهي إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذَّارِيات: 5]، والمعنى: وفيما يُشاهَدُ مِن أحوالِ الأرضِ آياتٌ للمُوقنينَ، وهي الأحوالُ الدَّالَّةُ على إيجادِ مَوجوداتٍ بعدَ إعدامِ أمْثالِها وأُصولِها، مِثلُ إنباتِ الزَّرعِ الجديدِ بعْدَ أنْ باد الَّذي قبْلَه وصار هَشيمًا. وهذه دَلائلُ واضحةٌ مُتكرِّرةٌ لا تَحتاجُ إلى غَوصِ الفِكرِ؛ فلذلك لم تُقرَنْ هذه الآياتُ بما يَدْعو إلى التَّفكُّرِ كما قُرِنَ قولُه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/352). [الذَّارِيات: 21].
- وتَقديمُ الخبَرِ وَفِي الْأَرْضِ على المبتدأِ آَيَاتٌ؛ للاهتِمامِ بالأرضِ باعتِبارِها آياتٍ كثيرةً، والتَّشويقِ إلى ذِكرِ المبتَدأِ آَيَاتٌ [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/352، 353). .
- واللَّامُ في لِلْمُوقِنِينَ مُعلَّقٌ بقولِه: آَيَاتٌ. وخُصَّتِ الآياتُ بـ لِلْمُوقِنِينَ؛ لأنَّهم الَّذين انتَفَعوا بدَلالتِها، فأكسَبَتْهم الإيقانَ بوُقوعِ البعثِ. وأُوثرَ وصْفُ الموقِنينَ هنا دونَ (الَّذين أَيْقَنوا)؛ لإفادةِ أنَّهم عُرِفوا بالإيقانِ. وهذا الوصفُ يَقْتَضي مَدْحَهم بثُقوبِ الفَهمِ؛ لأنَّ الإيقانَ لا يكونُ إلَّا عن دليلٍ، ودلائلُ هذا الأمرِ نَظريَّةٌ، ومَدْحَهم أيضًا بالإنصافِ وترْكِ المكابَرةِ؛ لأنَّ أكثرَ المنكِرينَ لِلحقِّ تَحمِلُهم المُكابرةُ أو الحسَدُ على إنكارِ حقِّ مَن يَتوجَّسونَ منه أنْ يَقضيَ على مَنافِعِهم [183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/352، 353). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ، وقال في سُورةِ (يس): وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ [يس: 33] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا جعَلَ الآيةَ للمُوقِنينَ جمَعها؛ لأنَّ الموقِنَ لا يَغفُلُ عن اللهِ تعالى في حالٍ، ويَرى في كلِّ شيءٍ آياتٍ دالَّةً، وأمَّا الغافلُ فلا يَتنبَّهُ إلَّا بأُمورٍ كثيرةٍ؛ فيكونُ الكلُّ له كالآيةِ الواحدةِ [184] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/171). .
2- قولُه تعالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ عطْفٌ على وَفِي الْأَرْضِ [الذَّارِيات: 20]، فالتَّقديرُ: وفي أنفُسِكم آياتٌ، أفلا تُبْصِرون، تَفريعًا على هذه الجُملةِ المَعطوفةِ، فيُقدَّرُ الوقفُ على أَنْفُسِكُمْ، وتَقديمُ وَفِي أَنْفُسِكُمْ على مُتعلِّقِه المَحذوفِ؛ للاهتِمامِ بالنَّظَرِ في خلْقِ أنفُسِهم [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/353). .
- والخِطابُ قيل: إنه مُوجَّهٌ إلى المُشرِكين. والاستِفهامُ أَفَلَا تُبْصِرُونَ إنكاريٌّ، أنكَرَ عليهِم عدَمَ الإبصارِ للآياتِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/353). ، وإنَّما أتَى بصيغةِ الخِطابِ؛ لأنَّها أظهَرُ؛ لِكَونِ عِلمِ الإنسانِ بما في نَفْسِه أتَمَّ [187] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/172). .
3- قولُه تعالَى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ بعْدَ أنْ ذكَرَ دلائلَ الأرضِ ودلائلَ الأنفُسِ الَّتي هي مِن عَلائقِ الأرضِ، عطَفَ ذِكرَ السَّماءِ للمُناسَبةِ، وتمْهيدًا للقَسَمِ الَّذي بعْدَه بقولِه: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذَّارِيات: 23]، ولِمَا في السَّماءِ مِن آيةِ المطَرِ الَّذي به تُنبِتُ الأرضُ بعدَ الجَفافِ، فالمعْنى: وفي السَّماءِ آيةُ المطَرِ؛ فعُدِلَ عن ذِكرِ المطَرِ إلى الرِّزقِ إدماجًا [188] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحَمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للامتِنانِ في الاستِدلالِ؛ فإنَّ الدَّليلَ في كَونِه مَطرًا يُحيي الأرضَ بعدَ مَوتِها، وهذا قِياسُ تمْثيلٍ [189] قياس التَّمثيلِ: هو: حمْلُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتراكِهما في عِلَّة الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المشتركَ الكُلِّيَّ، أو: إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما، مِثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ هو القياسُ الأصوليُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (9/120)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 716)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). للنَّبتِ، أي: في السَّماءِ المطَرُ الَّذي تُرزَقون بسَبَبِه [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/354). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وتقديمُ المجرورِ وَفِي السَّمَاءِ على مُتعلَّقِه رِزْقُكُمْ؛ للتَّشويقِ، وللاهتمامِ بالمكانِ، وللرَّدِّ على الفاصلةِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/354). .
- وجاءتِ السَّماءُ مُفرَدةً في قولِه: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ؛ فالرِّزقُ المطَرُ -على قولٍ-، وما وُعِدْنا به الجنَّةُ -على قولٍ-، وكِلاهما في هذه الجِهةِ، لا أنَّهما في كلِّ واحدةٍ واحدةٍ مِن السَّمواتِ؛ فكان لَفظُ الإفرادِ ألْيقَ بها [192] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/116، 117). .
- وعطْفُ وَمَا تُوعَدُونَ إدماجٌ بيْنَ أدلَّةِ إثباتِ البَعثِ؛ لقصْدِ المَوعظةِ الشاملةِ للوعيدِ على الإشراكِ، والوعْدِ على الإيمانِ إنْ آمنوا -على قولٍ-، تَعجيلًا بالموعظةِ عندَ سُنوحِ فُرصتِها [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/354). .
4- قولُه تعالَى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ بعدَ أنْ أكَّدَ الكلامَ بالقَسَمِ بالذَّارِياتِ وما عُطِفَ عليها؛ فرَّعَ على ذلك زِيادةَ تأْكيدٍ بالقَسَمِ بخالقِ السَّماءِ والأرضِ على أنَّ ما يُوعَدون حقٌّ؛ فهو عطفٌ على الكلامِ السَّابقِ، ومُناسبَتُه قولُه: وَمَا تُوعَدُونَ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). [الذَّارِيات: 22].
- وفيه مِن البَلاغةِ ما يُعرَفُ بالقسَمِ، وهو أنْ يُريدَ المُتكلِّمُ الحلِفَ على شَيءٍ، فيَحلِفَ بما يكونُ فيه فخْرٌ له، أو تَعظيمٌ لشأْنِه، أو تَنويهٌ بقدْرِه، أو ما يكونُ ذمًّا لغَيرِه، أو جاريًا مَجرى الغزَلِ والتَّرقُّقِ، أو خارجًا مَخرَجَ الموعظةِ والزُّهدِ؛ فقد أقسَمَ سبحانَه بقسَمٍ يُوجِبُ الفَخرَ لتضمُّنِه التَّمدُّحَ بأعظَمِ قُدرةٍ، وأجلِّ عَظَمةٍ، فقال: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... [195] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/309). .
- وإظهارُ اسمِ (السَّماءِ والأرضِ) دونَ ذِكرِ ضَميرِهما؛ لإدخالِ المَهابةِ في نُفوسِ السَّامِعينَ بعَظَمةِ الربِّ سُبحانه [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). .
- وضَميرُ إِنَّهُ لَحَقٌّ عائدٌ إلى (مَا تُوعَدُونَ)، وهذا مِن ردِّ العَجُزِ على الصَّدرِ [197] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). ؛ لأنَّه ردٌّ على قولِه أوَّلَ السُّورةِ: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذَّارِيات: 5]، وانتَهى الغرَضُ [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). .
- وقولُه: مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ زِيادةُ تقريرٍ لوُقوعِ ما أُوعِدوه، بأنْ شُبِّهَ بشَيءٍ مَعلومٍ كالضَّرورةِ لا امتِراءَ في وُقوعِه، وهو كَونُ المخاطَبينَ يَنطِقونَ، وهو مِن التَّمثيلِ بالأُمورِ المحسوسةِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). .
- قولُه: مِثْلَ بالنَّصبِ على أنَّه صِفةُ حالٍ مَحذوفٍ قُصِدَ منه التَّأكيدُ، والتَّقديرُ: إنَّه لَحَقٌّ حقًّا مِثلَ ما أنَّكم تَنطِقون [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/355). . على أحدِ الأقوالِ.
- و(ما) الواقعةُ بعْدَ (مِثلَ) صِلةٌ للتَّوكيدِ، وأُردِفَت بحرْفِ (أنَّ) المُفيدِ للتَّأكيدِ؛ تقويةً لتَحقيقِ حَقِّيَّةِ ما يُوعَدون [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/356). .
- واجتِلابُ المضارِعِ في تَنْطِقُونَ دونَ أنْ يقالَ: (نُطقِكم): يُفيدَ التَّشبيهَ بنُطقِهم المُتجدِّدِ، وهو أقوى في الوُقوعِ؛ لأنَّه مَحسوسٌ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/356). .
- وخَصَّ النُّطقَ دونَ سائرِ الأعمالِ الضَّروريَّةِ؛ لِكَونِه أبْيَنَ وأظهَرَ، ومِنَ الاحتِمالِ أبْعَدَ، وفيه إيماءٌ إلى استِجلابِ رأسِ الشُّكرِ؛ فذِكْرُ النِّعمةِ باللِّسانِ، والثَّناءُ على مُولِيها أشْيَعُ لها مِن الاعتقادِ وآدابِ الجوارحِ؛ لأنَّ النُّطقَ يُفصِحُ عن كلِّ خفِيٍّ، ويُجلي كلَّ مُشتَبِهٍ [203] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/22). .