موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (109 - 110)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

بِرُوحِ الْقُدُسِ: أي: جبريلَ عليه السَّلام، سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يأتي بما فيه حياةُ القلوبِ، وأصل القُدس الطَّهارةُ [2011] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
الْمَهْدِ: أي: مَضْجَعِ الصَّبيِّ فِي رَضاعِه، وما يُهيَّأ له، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيءِ، وتَسهيلُه [2012] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/412)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780). .
وَكَهْلًا: أي: ابن ثلاثين سَنةً، والكَهْل: الذي انتهَى شبابُه، ومَن وَخَطَه الشيبُ، والكهولةُ فوقَ الغلومة، ودونَ الشَّيخوخةِ، وأصل (كهل): القوَّة في الشَّيءِ، أو اجتماع الجِبلَّة [2013] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((تفسير ابن جرير)) (5/412)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/530)، ((المفردات)) للراغب (ص: 727)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/144)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/45). .
وَالْحِكْمَةَ: أي: الفِقه، وتُطلَق الحِكمةُ على إصابةِ الحقِّ بالعِلم والعَمَل، وأصل (حكم): المنْع، والإحكامُ هو الفصلُ والتمييزُ، والفَرْقُ والتَّحديد الذي به يتحقَّقُ الشيءُ ويحصُل إتقانُه؛ ولهذا دخَل فيه معنى المنْع كما دخَل في الحدِّ، فالمنعُ جزءُ معناه لا جميعُ معناه، والحِكمة اسمٌ للعَقل، وإنَّما سُمِّي حِكمة؛ لأنَّه يمنع صاحبَه من الجَهل [2014] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/91)، ((المفردات)) للراغب (ص: 249)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 36،347)، ((الإكليل في المتشابه والتأويل)) لابن تيمية (ص: 11)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 94). .
وَتُبْرِئُ: وتَشْفِي، أصلُه من البُرء والبَراء والتبرِّي: وهو التفصِّي ممَّا يُكرَه مجاورتُه، والتباعُدُ من الشَّيءِ ومُزايلتُه، والمقصودُ هنا: السَّلامة من السُّقم [2015] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/115)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/236)، ((المفردات)) للراغب (ص: 121). .
الْأَكْمَهَ: الذي يُولَد أعْمَى، أو هو الذي يُولَد مَطموسَ العين، وقيل: هو الأعْمَى مطلقًا [2016] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 105)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/52)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 726)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
الْأَبْرَصَ: الذي به مرضُ البَرَصِ، وهو مرضٌ معروفٌ يُصيب الجِلدَ، وهو لمعةٌ تُخالِفُ سائرَ لونِ الجلد [2017] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/219)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
بِالْبَيِّنَاتِ: جمْع بيِّنة، وهي: الدَّلالة الواضحة؛ يُقال: بانَ الشَّيء وأبان، إذا اتَّضح وانْكشَف [2018] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((المفردات)) للراغب (ص: 157). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن بعضِ ما سيَجري يومَ القيامةِ؛ إذ يجمع سبحانه الرُّسلَ، فيسألُهم عن الذي أجابتْهم به أُممُهم حينَ بلَّغوهم دعوةَ الحقِّ، فيجيبُ الرُّسلُ بأنَّهم لا عِلْمَ لهم، وأنَّ اللهَ سبحانَه هو علَّامُ الغُيوبِ.
ويخبِرُ اللهُ تعالى أيضًا عن قولِه لعيسَى عليه السلامُ: يا عيسى ابنَ مريمَ، اذكُرْ نِعَمِي عليك وعلى والدتِك؛ إذ أعنْتُك وقوَّيتُك بجبريلَ عليه السَّلام، تُكلِّمُ الناسَ في صِغَرك وفي كِبَرك، وإذ علَّمتُك الكِتابةَ، والفَهمَ ومعرفةَ أسرارِ الشَّرعِ، وعلَّمتُك التوراةَ والإنجيلَ، وإذ تَصنَعُ من الطِّين كهيئةِ طائرٍ بإذني، فتنفخُ فيما صنعتَه من الطِّين، فيكونُ طيرًا ذا رُوحٍ بإذني، وتَشفِي مَن يُولَد أعْمَى، وتَشفِي مَن به داءُ البَرَصِ بإذني، وتُخرِجُ الموتى من قُبورِهم أحياءً بإذني، وإذ صددْتُ بني إسرائيلَ عنك وقد أرادوا قتْلَك لَمَّا جِئتَهم بالبيِّناتِ؛ فقال الكافرونَ منهم: ما هذا الذي أتيتَ به إلَّا سحرٌ واضحٌ ظاهرٌ.

تفسير الآيتين:

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أخْبَر تعالى بالحُكم في شاهِدَيِ الوصيَّة، وأمَر بتَقْوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعة، ذكَّر بهذا اليومِ المَهُولِ المخوفِ، وهو يومُ القيامةِ فجَمَع بذلك بين فَضيحةِ الدُّنيا، وعقوبةِ الآخِرة لِمَن حرَّف الشهادةَ، ولِمَن لم يتَّقِ اللهَ ولم يَسمعْ [2019] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/402). .
وأيضًا لَمَّا كان من عادةِ القُرآنِ الكريمِ أنَّه إذا ذَكَر أنواعًا كثيرةً من الشَّرائع والتَّكاليف والأحكامِ، أتْبَعَها إمَّا بالإلهيَّات، وإمَّا بشَرْحِ أحوالِ الأنبياء، أو بشَرْحِ أحوال القيامة؛ ليصير ذلك مؤكِّدًا لِمَا تَقدَّم ذِكرُه من التكاليف والشَّرائع، فلا جرمَ لَمَّا ذكَر فيما تَقدَّم أنواعًا كثيرة من الشَّرائعِ أتْبَعَها بوصْفِ أحوالِ القيامةِ أولًا، ثمَّ ذِكْرِ أحوالِ عيسى عليه السَّلامُ [2020] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/456). ، فقال تعالى:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ.
أي: اذكرْ يومَ يَجمَعُ الله تعالى جميعَ رُسُلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يومَ القيامة، فيسألُهم: ما الذي أجابتْكم به أُممُكم حين دَعوتُموهم إلى الحقِّ [2021] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/109-110)، ((تفسير ابن عطية)) (2/256)، ((تفسير ابن كثير)) (3/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/492-494). ؟
كما قالَ تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] .
قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
أي: قال الرُّسُلُ الكِرامُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام: لا عِلْمَ لنا، ولا يَخفَى عليك يا ربَّنا ما عِندنا من عِلمِ ذلك وغيرِه؛ فأنت العَليمُ ببواطن الخَلْق، والمطَّلِعُ على كلِّ شيءٍ [2022] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/112)، ((تفسير ابن عطية)) (2/257)، ((تفسير ابن كثير)) (3/222)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248). .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان الغَرَضُ من قولِه تعالى للرُّسلِ: مَاذَا أُجِبْتُمْ توبيخَ مَن تمرَّدَ مِن أُمَمِهم، وكان أشدَّ الأممِ افتقارًا إلى التوبيخِ والملامةِ النَّصارى الذين يَزعُمون أنَّهم أتْباعُ عيسى عليه السَّلام؛ لأنَّ طَعْنَ سائرِ الأُمَم كان مقصورًا على الأنبياءِ، وطَعْنَ هؤلاء المَلاعِين تعدَّى إلى جلالِ الله وكِبريائِه؛ حيث وصَفُوه بما لا يَليقُ بعاقلٍ أن يصفَ الإلهَ به، وهو اتِّخاذُ الزوجةِ والولدِ؛ فلا جرَمَ ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه يُعدِّد أنواعَ نِعَمه على عيسى بحضرةِ الرُّسُلِ واحدةً فواحدةً، والمقصودُ منه توبيخُ النصارى وتقريعُهم على سوءِ مَقالتِهم؛ فإنَّ كلَّ واحدةٍ مِن تلك النِّعَم المعدودة على عيسى تدلُّ على أنَّه عبدٌ وليس بإلهٍ [2023] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/458). ، فقال تعالى:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ.
أي: اذْكُرْ حين نادَى الله تعالى عيسى عليه السَّلام [2024] ذهَب إلى وقوعِ ذلك يومَ القيامة: ابنُ عطية في ((تفسيره)) (2/257)، والقرطبيُّ في ((تفسيره)) (6/362)، وابنُ عاشور في ((تفسيره)) (7/100). وجعَلَه ابنُ كثير احتمالًا. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/224). قائلًا له: اذكُرْ ما أَجريتُه عليكَ وعلى والدتِك مِنَ النِّعَم [2025] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/499). .
ثمَّ شرَع اللهُ تعالى يُفصِّل تِلك النِّعمَ، فقال [2026] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/499-500). :
إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: حيثُ قوَّيتُك بجبريلَ عليه السَّلامُ، وأعنْتُك به [2027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/113-114)، ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/502). .
تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا.
أي: تدْعُو النَّاسَ إلى اللهِ تعالى في حالِ صِغَرِك وكِبَرِك [2028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/114)، ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248). .
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ.
أي: واذكُرْ- يا عيسى- أيضًا نِعمَتي عليك إذْ علَّمتُك الخطَّ والكتابةَ [2029] وقيل المرادُ بالكتاب هنا: جِنسُ الكتُب السَّابقة. وهو اختيارُ السعدي في ((تفسيره)) (ص: 248). ، والفَهمَ ومعرفةَ أسرارِ الشَّرع، وعلَّمتُك التوراةَ والإنجيل [2030] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/115)، ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/502-503). .
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ثلاث قراءات:
1- ... كَهَيْئَةِ الطَّائرِ... فَتَكُونُ طَائرًا، أي: إنَّه كان يَخُلق واحدًا ثمَّ واحدًا [2031] قرأ بها أبو جعفر. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164). .
2- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَتَكُونُ طَائرًا أي: تُقدِّر هيئةً كهيئةِ الطَّير، فتكونُ الهيئةُ طائرًا، أي: كلُّ هَيئةٍ تُقدِّرها تكونُ واحدًا مِن الطَّير [2032] قرأ بها نافع ويعقوب. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((تفسير ابن عطية)) (2/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/102). .
3- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَتَكُونُ طَيْرًا، أي: إنَّ الله تعالى أذِنَ له أن يَخلُقَ طيرًا كثيرةً، ولم يكن يَخلُقُ واحدًا فقط [2033] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164). .
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي.
أي: تُصوِّر الطِّينَ، وتَصنَعُ منه هيئةَ طائرٍ بإذني، فتنفخُ في تِلك الصُّورةِ التي شكَّلتَها، فتكونُ طائرًا ذا رُوحٍ بإذني [2034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/115)، ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/503). .
وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي.
أي: وتَشْفِي مَن يُولَد أعْمى، ومَن به داءُ البَرَص الذي يُصيب الجِلدَ بإذنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتُخرجُ الموتَى من قُبورِهم أحياءً بإذنِ الله تبارَك وتعالى [2035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/115)، ((تفسير ابن كثير)) (3/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/503-504). .
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
بعدَ أن ذكَر اللهُ سبحانَه بعضَ ما أعطاه لعيسَى عليه السَّلام مِن معجزاتٍ فيها مِن المنافعِ، أتْبَعها بذكرِ ما دفَع عنه مِن مضارَّ [2036] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (4/292). ، فقال:
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: واذكُرْ- يا عيسى- أيضًا نِعمتي عليك، في صدِّي بني إسرائيلَ عنك، وقدْ همُّوا بقتْلِك حين جِئتَهم بالحُججِ والبَراهينِ على رِسالتِك، فحَفِظتُك منهم وعصَمتُك [2037] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/115-116)، ((تفسير ابن كثير)) (3/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 248)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/505). .
فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: سِحْرٌ قِراءتان [2038] قال ابنُ جرير: (والصوابُ من القول في ذلك: أنَّهما قِراءتانِ معروفتانِ صحيحتَا المعنى، متَّفقتانِ غير مُختلفتَينِ؛ وذلك أنَّ كلَّ مَن كان موصوفًا بفِعل السحر فهو موصوفٌ بأنَّه ساحر، ومَن كان موصوفًا بأنَّه ساحر فإنَّه موصوفٌ بفِعل السحر، فالفعل دالٌّ على فاعله، والصِّفة تدلُّ على موصوفها، والموصوف يدلُّ على صِفته، والفاعل يدلُّ على فعله، فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيب) ((تفسير ابن جرير)) (9/116). :
1- قِراءة سَاحِرٌ- بالألِف على أنَّه اسمُ فاعلٍ- إشارةً إلى عِيسى عليه السَّلام [2039] قرأ بها حمزة والكسائي وخلف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 227-228). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/498). .
2- قِراءة سِحْرٌ- مِن غيرِ ألِفٍ على أنَّه مصدرٌ- إشارةً إلى ما جاءَ به عيسى عليه السَّلام من البيِّنات، أي: ما هذا الَّذي جاءَ به من الآياتِ الخَوارقِ إلَّا سِحرٌ [2040] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 227-228). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 240)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/497). .
فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
أي: فقال كفَّارُ بني إسرائيلَ: ما هذا إلَّا ساحرٌ ظاهرٌ ذُو سِحرٍ جليٍّ [2041] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/224)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/505). .

الفوائد التربوية:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أنَّه يجبُ على الإنسانِ أنْ يَتذكَّرَ هذا اليومَ العظيمَ؛ لينظرَ ماذا أجابتْ به الرُّسُلُ، وهو يومُ القِيامة حين يُجمَعُ الرُّسُل ويُسأَلون [2042] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/497). .
2- التَّنصيصُ على النِّعمة بالعِلم والشَّرعِ والحِكمة، وأنَّها أخصُّ من مطلَق النِّعمة؛ لأنَّ مُطلَق النِّعمة سبَقَ في قَوْلِه تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ أما العِلمُ فخصَّه بقوله: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، وعلى هذا فيجبُ على طالبِ العِلم أنْ يَشكُرَ اللهَ تعالى على نِعمتِه عليه؛ حيث خصَّه بالعِلم الذي حَرَمَهُ كثيرًا من النَّاسِ، وإذا منَّ اللهُ عليه بالعِبادةِ والدَّعوة إلى الله صارَ نِعمةً فوقَ نِعمةٍ؛ مِمَّا يدعوه إلى المُثابرةِ والصبرِ على ما هو عليه مِن طلبِ العِلم، وازديادِ العبادةِ، وقوَّة الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ [2043] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/510). .
3- في قَوْلِه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ تذكيرُ الله سبحانه وتعالى عِبادَه بنِعَمِه عليهم، وهذا جاءَ في القرآنِ في غيرِ ما موضعٍ، مِثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر: 3] ، أحيانًا يكون عامًّا كهذه الآية، وأحيانًا يكون خاصًّا؛ مثل قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [الأعراف: 86] ، وما أشبه ذلك؛ وإنَّما يُذكِّر اللهُ العبادَ بالنِّعمة من أجْلِ وجوبِ شُكرها؛ لأنَّ وجوبَ شُكر المنعِم ثابتٌ سَمْعًا وعقلًا، أمَّا السَّمع فمملوءٌ به القرآنُ؛ كقولِه تعالى: وَاشْكُرُوا لِي [البقرة: 152] ، وقوله: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة: 172] ، وأمَّا عَقْلًا: فلأنَّه ليس من المروءةِ أن تُقابَل النِّعمةُ بالإساءةِ والكُفر؛ فشُكْرُ المنعِم إذنْ واجبٌ سمعًا وعقلًا [2044] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/507). .
4- أنَّ اللهَ يُدافِعُ عن المؤمنينَ، وأنَّ كَفَّ الأذَى عن الإنسانِ مِن نِعمةِ اللهِ عليه؛ لقولِه تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ؛ ولهذا امتنَّ اللهُ به على المؤمنينَ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] ، فكلَّما كان الإنسانُ أشدَّ إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ دفَعَ اللهُ عنه، وتسليطُ بعضِ الناس عليه بالإيذاءِ ما هو إلَّا كتسليطِ المَرَضِ على الرُّسُلِ والأنبياءِ من باب رِفعةِ الدَّرجاتِ، وإلَّا فلا شكَّ أنَّ هناك أئمَّةً مِن هذه الأمَّة أُوذُوا أشدَّ الإيذاء، بل الرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يُؤذَوْنَ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام: 34] ، لكنْ هذا من باب رِفعةِ الدَّرجاتِ [2045] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/515). .
5- تشجيعُ الدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجل الذي يأتي بالآياتِ البيِّناتِ؛ فإنَّه عُرضةٌ للإيذاءِ لِقَوْلِه: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فكلُّ إنسانٍ يَدْعو إلى اللهِ، ويأتي بالبراهينِ والأدلَّة، لا بدَّ أنْ يُسلَّطَ عليه مَن يُسلَّطُ، ولكنَّ اللهَ تعالى بقُوَّتِه وقُدرتِه يَصرِفُ عنه [2046] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/516). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ معرفةُ تمامِ قُدرة اللهِ تبارَك وتعالى؛ وذلك بجَمْعِه الرُّسُلَ في ذلك الموقِف العظيمِ، الذي يَختلطُ فيه الآدميُّون والوُحوشُ والسِّباعُ والإبلُ وغيرها، فيَجمَعُ اللهُ سبحانه وتعالى الرُّسلَ بقُدرتِه وإذْنِه [2047] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/497). .
2- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فضيلةُ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام؛ حيث إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَعتني بهم هذا الاعتناءَ، حتى إنَّه يسألُهم يومَ القيامَةِ في هذا المشهَدِ العظيمِ: ماذا أُجِيبوا؟ تكريمًا لهم، وإظهارًا لإبلاغِهم الرِّسالةَ [2048] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/497). .
3- لَمَّا كان ممَّا لا يَخفى أصلًا أنَّهم أُجيبوا، ولا يقعُ فيه نزاعٌ، ولا يتعلَّقُ بالسُّؤال عنه غرضٌ، تجاوزَ السُّؤالَ إلى الاستفهامِ مِن نوعِ الإجابةِ، فقال: مَاذَا أُجِبْتُمْ أي: أيَّ إجابةٍ أجابَكم مَن أُرْسِلْتم إليهم؟ إجابةَ طاعةٍ، أو إجابةَ معصيةٍ [2049] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/337). .
4- في قَوْلِه تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ دليلٌ على جوازِ إطلاق لفْظ العلَّام على الله سبحانه، كما جاز إطلاقُ لفظِ الخلَّاقِ عليه، أما العلَّامة؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّه لا يجوزُ إطلاقها في حقِّه تعالى [2050] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/458). .
5- قدْ يُتوهَّمُ التعارُضُ بين ظاهِرِ قَوْلِه تعالى: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وهو يدلُّ على أنَّ الأنبياءَ لا يَشهدون لأُممهم، وبَيْنَ قَوْلِه تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، وفيه أنَّ الأنبياءَ يشهدون على أُممهم. والجَمْعُ بينهما من وجوهٍ:
الوجه الأوَّل: أنَّهم إنَّما قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تعلَمُ ما أَظهروا وما أضمروا، ونحن لا نعلم إلَّا ما أَظهروا؛ فعِلمُك فيهم أنْفَذُ مِن عِلْمِنا؛ فلهذا المعنى نَفَوُا العِلْمَ عن أنفُسِهم؛ لأنَّ عِلمَهم عندَ الله كَلَا علمٍ.
الوجه الثَّاني: أنَّهم قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا أنْ عَلِمْنا جوابَهم لنا وقتَ حياتِنا، ولا نعلمُ ما كان منهم بعدَ وفاتِنا، والجزاءُ والثوابُ إنَّما يحصُلانِ على الخاتمةِ، وذلك غيرُ معلومٍ لنا.
الوجه الثَّالث: أنَّ الحاصِلَ عندَ كلِّ أحدٍ مِن حالِ الغيرِ إنَّما هو الظنُّ لا العِلْم؛ فالأنبياءُ قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا البتةَ بأحوالِهم، إنَّما الحاصلُ عندنا مِن أحوالهم هو الظنُّ، والظنُّ كان مُعتَبرًا في الدُّنيا؛ لأنَّ الأحكامَ في الدُّنيا كانت مبنيَّةً على الظنِّ، وأمَّا الآخرَة فلا التفاتَ فيها إلى الظنِّ؛ لأنَّ الأحكامَ في الآخرة مبنيَّةٌ على حقائِقِ الأشياء، وبواطنِ الأمورِ؛ فلهذا السببِ قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ولم يذكروا البتةَ ما معهم من الظنِّ؛ لأنَّ الظنَّ لا عِبرةَ به في القيامَةِ.
الوجه الرابع: أنَّهم لَمَّا علِموا أنَّه سبحانه وتعالى عالمٌ لا يَجهل، حكيمٌ لا يَسْفَه، عادلٌ لا يَظلِم، علِموا أنَّ قولَهم لا يُفيد خيرًا، ولا يدفعُ شرًّا، فرأوا أنَّ الأدبَ في السُّكوتِ، وفي تفويضِ الأَمْرِ إلى عدلِ الحيِّ القيومِ الذي لا يموتُ [2051] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/456، 457)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/494، 495). .
6- جوازُ نسبَةِ الإنسان إلى أمِّه إذا لم يكُن له أبٌ؛ لِقَوْلِه: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [2052] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/507). .
7- شرع الله في قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى... إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ في تعديدِ نِعَمه على عيسى عليه السلام، لكن قولُ الكفَّارِ في حقِّه: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ليس من النِّعَمِ؛ فكيف ذكَره هاهنا؟
والجواب: أنَّ مِن الأمثال المشهورة: أنَّ كلَّ ذي نِعمة محسودٌ؛ وطَعْنُ الكفَّارِ في عيسى عليه السلام بهذا الكلام يَدلُّ على أنَّ نِعَم اللهِ في حقِّه كانتْ عظيمةً، فحَسُنَ ذِكرُه عند تعديدِ النِّعَم [2053] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/460، 461). .
8- قَوْلُه تعالى: اذْكُرْ فائدةُ هذا الذِّكر إسماعُ الأممِ ما خَصَّه به تعالى من الكرامةِ، وتأكيدُ حُجَّته على جاحدِه [2054] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/405). .
9- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ أنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام يجب عليهم الشُّكرُ، كما يجب على مَن أُرسِلَ إليهم؛ لأنَّ اللهَ أمَر عيسى أنْ يذكُرَ نِعمتَه عليه وعلى أُمِّه، والأنبياءُ أشدُّ الناسِ قِيامًا بشُكرِ النِّعمة [2055] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/508). .
10- فضيلةُ جبريلَ عليه السَّلامُ؛ لقوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وأنَّه يُؤيِّد الأنبياءَ والرُّسُل [2056] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/509). .
11- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: بِإِذْنِي أنَّ المسيحَ لم يُعطَ هذه القوَّةَ دائمًا، بل كانتْ هذه الآيةُ كغيرها لا تقَعُ إلَّا بإذنٍ من الله، وتأييدٍ مِن لَدُنْه [2057] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/205). .
12- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ إطلاقُ لفظ الخَلْق على ما صنَعَه المخلوق، فلو صنعْتَ بابًا، تقول: خلقتُ بابًا، ويدلُّ لهذا قولُ الله تبارَك وتعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] ، والفرق بين خَلْق الخالِقِ، وخَلْق المخلوقِ: أنَّ خَلْقَ الخالق إيجادٌ مِن عدَمٍ على ما يُريد اللهُ عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران: 6] ، أمَّا خَلْق المخلوقِ: فهو تحويلُ مخلوقِ الله إلى صِفةٍ أخرى، وإلَّا فالأصلُ من الله عزَّ وجلَ؛ وذلك كأن يجعلَ مِن الذَّهب حُليًّا، أما أن يجعلَ من الحجرِ ذهبًا فلا يستطيعُ ذلك أحدٌ [2058] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/511). .
13- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أنَّه سبحانه وتعالى يَختارُ مِن الآيات أشدَّها إعجازًا؛ فإنَّه لم يَمُنَّ على عيسى بأنْ يخلُقَ أرنبًا أو قِطًّا أو ما أشبَهَ ذلك، بل طائرًا؛ لأنَّ الطيرانَ في الجوِّ أبلغُ من المشي على الأرض، فاختارَ اللهُ له أن يَخلُق طائرًا، يعني: على صورةِ الطَّير [2059] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/513). .
14- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي أنَّ النَّفْخَ له تأثيرٌ في الأجسادِ إذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يُؤثِّرَ؛ لأنَّه نَفَخَ في الطيرِ الذي صنَعَه فصارَ طائرًا كما في القِراءة الأخرى، لَمَّا نفخَ فيه صارَ حيوانًا من الطيور، ثمَّ طار لتحقُّقِ أنَّه دخلَتْه الرُّوحُ، ومِن ثَمَّ جاءتِ القراءةُ على المريض عن طريقِ النَّفْثِ، والنَّفْث يتضمَّن نفخًا وريقًا، وهذا مؤثِّرٌ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ [2060] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/513). .
15- ممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي أنَّه لا يُمكن لأيِّ بشرٍ مهما أُوتيَ أن يحصُلَ له مرادُه إلَّا بإذنِ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ كلَّ جملةٍ أو كلَّ كلمةٍ قيَّدها الله تعالى بإذنه؛ لئلَّا يدَّعِيَ مُدَّعٍ أنَّ الخَلْقَ لهم استقلالٌ في أفعالِهم، فيكون لهذه الفائدةِ فرعٌ، وهو الردُّ على القَدَريَّة، والقَدَرِيَّة هم الذين يقولون: إنَّ الإنسانَ مستقِلٌّ بعملِه، أي يخلُقُ فعلَه بنفسِه، فيأكُلُ ويَشرَبُ، ويَدخُل ويَخرُج، ويتحرَّك ويَسكُن، بإرادةٍ تامَّة ليس لله تعالى فيها تعلُّقٌ، وهذا يعني: إثباتَ خالقٍ مع الله عزَّ وجلَّ، أو إثباتَ مُوجِدٍ للحوادثِ مع الله عزَّ وجلَّ [2061] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/514). .
16- قَوْلُه: بِإِذْنِي فيه إثباتُ إذنِ الله، والإذنُ المضافُ إلى الله عزَّ وجلَّ ينقسِمُ إلى قِسمين: إذنٍ كونيٍّ قدريٍّ، وإذنٍ شرعيٍّ تعبُّديٍّ؛ مثالُ الإذنِ الكونيِّ: هذه الآيةُ: تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي، ومثالُ الإِذْن الشرعيِّ: قولُ الله تبارك وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ؛ إذ إنَّه مكَّنَ لهؤلاء مِن أنْ يَشْرَعوا لأقوامِهم ما لم يأذنْ به اللهُ، ومكَّن لأقوامٍ أن يَتعبَّدوا بهذه الشريعةِ البِدعيَّة، لكنْ شرعًا لا، والفائدةُ مِن معرفة القِسْمينِ: أنْ نؤمِنَ بأنَّ ما أذِنَ اللهُ فيه قَدَرًا فلا بدَّ من وقوعِه، وما لم يأذنْ به فلا يمكن وقوعُه، أمَّا شرعًا: فما أذِن اللهُ فيه شرعًا فقدْ يقَعُ وقدْ لا يقَعُ، وما لم يأذنْ فيه فقد يقَعُ وقد لا يقعُ، هذا هو الفرقُ [2062] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/515). .
17- في قوله: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي عطَفَ التذكيرَ بإبراءِ الأَكْمَهِ والأبرَصِ على ما قَبْلَه مباشرةً فلم يبدأْ بـإذ، وبُدِئ بـإذ للتذكيرِ بإخراجِ الموتى، فكان عطفًا على قوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، ولعلَّ نكتةَ ذلك أنَّ إبراءَ الأكْمَهِ والأَبْرَصِ مِن جِنس شفاءِ المرضِ الذي قد يقعُ بعضُ أفرادِه على أيدي غيرِ الأنبياءِ المرسَلين، ولا سيَّما مَن يظنُّ المرضى فيهم الصَّلاحَ والولايةَ، فلمَّا كان كذلك ذُكِرَ بالتَّبع لإحياءِ الصُّورة من الطَّيرِ، ولَمَّا كان إحياءُ الموتى أعظمَ منه جُعِل نعمةً مستقلَّةً فقُرِنَ بـإِذْ، والمرادُ بالأكمهِ والأبرصِ والموتَى الجِنسُ [2063] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/205). .

بلاغة الآيتين:

1- قَوْلُه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ
- فيه إظهارُ الاسمِ الجليلِ اللَّهُ في موضِع الإضمارِ؛ لتربيةِ المهابة، وتشديدِ التهويلِ [2064] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/93). .
- وتخصيصُ الرُّسلِ بالذِّكر ليس لاختصاصِ الجَمْعِ بهم دون الأُمَمِ، كيف لا وذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] ، وقد قال اللهُ تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء: 71] ؟! بل لإبانةِ شرَفِهم وأصالتِهم، والإيذانِ بعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بجَمْع غيرِهم بناءً على ظهورِ كونِهم أتباعًا لهم، ولإظهارِ سُقوطِ منزلتِهم، وعدمِ لياقتِهم بالانتظامِ في سِلْكِ جمْع الرُّسُل، كيف لا وَهُم عليهم السلامُ يُجمَعون على وجهِ الإجلالِ، وأولئك يُسحَبون على وجوهِهم بالأغلالِ [2065] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/93)، وينظر: أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (4/402). ؟!
2- قَوْلُه: مَاذَا أُجِبْتُمْ هذا السُّؤالُ لتوبيخِ قَومِهم وأُمَمِهم؛ لتقومَ الحُجَّةُ عليهم، ويَبتدِئ حسابُهم، كما أنَّ سؤالَ الموءودةِ لتَوبيخِ الوائِدِ [2066] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/147)، ((تفسير أبي حيان)) (4/402). .
3- قَوْلُه: قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا استئنافٌ مَبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مِن سَوْقِ الكلام؛ كأنَّه قيل: فماذا يقولُ الرُّسُلُ عليهم السَّلام هنالك؟ فقيل: يقولون: لَا عِلْمَ لَنَا [2067] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/93). .
- والتعبيرُ بصيغَةِ الماضي قَالُوا عن المستقبلِ؛ للدَّلالة على التقرُّر والتحقُّق، كما في قوله: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف: 44] ، ونظائرها؛ فعبَّر بالماضي عن المستقبلِ؛ لتحقُّقِ وقوعِه حتى كأنَّه وقَع [2068] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/93)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/203). .
4- قَوْلُه: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فيه: تعليل لذلك، أي فتَعْلَم ما أجابوا وأظهروا لنا، وما لم نَعْلَمْه مما أضمروه في قلوبهم، وفيه إظهارٌ للشَّكَاة، وردٌّ للأمر إلى عِلمه تعالى بما لَقُوا مِن قِبَلِهم من الخطوب، وكابَدُوا من الكروب [2069] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/93- 94). .
5- قَوْلُه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ...
- فيه تفصيلٌ بعد إجمال؛ حيث شرَع في بيان ما جرَى بَيْنَه تعالى وبين واحدٍ مِن الرُّسُل المجموعِينَ من المفاوضةِ على التفصيلِ، إثرَ بيانِ ما جرَى بينه تعالى وبين الكلِّ على وجهِ الإجمالِ، وتَخصيصُ شأنِ عيسى عليه السَّلام بالبيانِ تفصيلًا مِن بين شؤونِ سائرِ الرُّسُلِ عليهم السَّلام- مع دَلالتِها على كمالِ هوْلِ ذلك اليومِ، ونهاية سوءِ حال المكذِّبين بالرُّسُل-؛ لأنَّ شأنَه عليه السَّلامُ متعلِّقٌ بكِلَا الفَريقينِ مِن أهلِ الكِتابِ الذين نُعِيَتْ عليهم في السُّورةِ الكريمةِ جِناياتُهم؛ فتفصيلُه أعظمُ عليهم، وأجْلَبُ لحَسرتِهم وندامتِهم، وأَفَتُّ في أعضادِهم، وأدْخَلُ في صَرْفِهم عن غيِّهم وعنادِهم [2070] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/94). ، فقد وقع الاختلافُ بين طائفتَيِ اليهودِ والنَّصارى فيه إفراطًا وتفريطًا؛ هذه تجعله إلهًا، وهذه تجعله كاذبًا [2071] يُنظر: (( تفسير الشوكاني)) (2/103). .
- والتعبيرُ بصِيغة الماضِي دُون المستقبَل في قوله: إِذْ قَالَ اللَّهُ...؛ للدَّلالة على تحقُّقِ الوقوعِ، وعلى قُربِ القيامةِ حتى كأنَّها قد قامتْ ووقَعَتْ؛ وكلُّ آتٍ قريبٌ؛ قال الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [2072] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/458)، ((تفسير أبي السعود)) (3/94). [النحل: 1] ، وقيل: لأنَّه ورَدَ على حِكاية الحالِ؛ كقولِه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ: 51] وغيره من الآيات، كلُّها خرَج على سبيلِ الحكايةِ عن الحالِ [2073] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/458). .
- وإظهارُ الاسمِ الجَليل اللَّهُ في مقامِ الإضمارِ؛ للمبالغة في التهويلِ [2074] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/94). .
6- في قوله تعالى: نِعْمَتِي أضاف اللهُ النِّعمةَ إليه؛ تنبيهًا على عِظَمها [2075] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/405). .
7- قَوْلُه: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ خُصَّ التوراةُ والإنجيلُ بالذِّكر ممَّا تناوله الكتابُ والحِكمة- على القولِ بأنَّ المرادَ بالكِتابِ والحِكمةِ جِنسُ الكِتاب والحِكمة، فيدخل فيهما التوراةُ والإنجيل- إظهارًا لشَرفِهما [2076] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/690)، ((تفسير أبي السعود)) (3/95). وعلى القول بأنَّ الكِتَاب هو الخطُّ، والحِكْمَة هي الكلامُ المحكَم الصَّواب؛ فليس فيه هذا الوجه. .
8- قَوْلُه: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
- فيه التعبيرُ بالمضارعِ عن أفعالٍ مضَتْ (تَخْلُقُ - فَتَنْفُخُ - فَتَكُونُ - وَتُبْرِئُ - تُخْرِجُ)؛ لتصويرِ ذلك الماضِي، وتمثيلِه حاضرًا في الذِّهْن، كأنَّه حاضرٌ في الخارِجِ، لا لإفادةِ الاستمرارِ؛ فإنَّه فِعْلٌ مضَى، والكلامُ تذكيرٌ به كما وقَع إذ وقَع [2077] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/205). .
وفي هذه الآيةِ مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا في سورةِ المائدة: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي، وقال تعالى في سورةِ آل عمرانَ: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] ، فخُصَّتْ آيةُ المائدةِ بتأنيثِ الضميرِ والفِعل فِيهَا فَتَكُونُ، وخُصَّتْ آيةُ آل عِمران بتذكيرِ الضميرِ والفِعل فِيهِ فَيَكُونُ، مع أنَّ المذكورَ في الموضعين كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، وهو صالحٌ لأنْ يَعودَ الضميرُ إليه مُذكَّرًا أو مُؤنَّثًا، فيُرادُ (مِثلَ هيئةِ الطَّير)، وهو مُذكَّر، أو يُرادُ (هيئةً كهيئةِ الطَّيرِ)، وهي مُؤنَّثة؛ وذلك أنَّ الآيةَ في سورةِ المائدةِ المخصوصةِ بتأنيثِ الضَّميرِ العائدِ إلى ما يَخلُقه، هي في ذِكر ما عَدَّد اللهُ مِنَ النِّعمِ على عِيسى عليه السَّلام، وما أَصْحَبَه إيَّاه من المُعجِزات، وأَظهرَ على يدِه مِنَ الآيات، وابْتداؤُها: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ... إلى قولِه تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي، والإشارةُ في هذِه الآيةِ ليستْ إلى أوَّلِ ما يُبدِيه لبَنِي إسرائيلَ مِن ذلك مُحتجًّا به عليهم، وإنَّما هي إلى جميعِ ما أَذِنَ اللهُ تعالى في كونِه دَلالةً على صِدقِه، مِن قَبيلِ الصُّوَرِ التي يُصوِّرها من الطِّينِ على هيئةِ الطَّيرِ، وذلك جمعُ التأنيث أَوْلَى به.
وذُكِّرَ الضَّميرُ في فِيهِ مِن آلِ عِمرانَ؛ لأنَّه في سِياقِ إخبارٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عن عيسى- على نبيِّنا وعليه السَّلامُ- وقولِه عليه السَّلامُ لبَني إسرائيلَ: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: آخُذُ مِن الطِّينِ ما أُصوِّرُ منه صورةً على هيئةِ الطيرِ في تَركيبِه، فأنفخُ فيه، فينقلبُ حيوانًا لحمًا، قد رُكِّبَ عظْمًا وخالَط دمًا، واكتسَى ريِشًا وجَناحًا كالطَّائرِ الحيِّ، والقصدُ في هذا المكانِ إلى ذِكر ما تقومُ به حُجَّتُه عليهم، وذلك أوَّلَ ما يُصوَّرُ الطِّينُ على هيئةِ الطير، ويكون واحدًا تلزمُ به الحُجَّة، فالتذكيرُ أَوْلَى به [2078] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (1/372 - 374). .
- وقيل: إنَّ قوله: فَتَنْفُخُ فِيهَا الضَّميرُ فيه للكافِ في قولِه: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ؛ لأنَّها صِفةُ الهَيئةِ التي كان يَخلُقها عيسى ويَنفُخُ فيها، ولا يَرجِعُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنَّها ليستْ مِن خَلْقِه ولا نَفْخِه في شيءٍ، والكافُ تُؤنَّثُ بحَسَبِ المعنى؛ لدَلالتِها على الهيئةِ التي هي مِثلُ هيئةِ الطَّير، وتُذكَّرُ بحَسَبِ الظَّاهرِ، وإذا كان كذلِك جازَ أنْ يقَعَ الضَّميرُ عنها تارةً على وجه التذكيرِ، وأخرى على وجهِ التأنيثِ؛ وأمَّا وجهُ تخصيصِ كلٍّ مِن الموضعَينِ بالواردِ فيه؛ فمِن وجهين:
الوَجهُ الأوَّل: أنَّ الترتيبَ الذي استقرَّ عليه القرآنُ في سُوَرِه وآياتِه أصلٌ مُراعًى، وعودَة الضَّميرِ على اللَّفظِ، وما يَرجِعُ إليه أَوْلى، وعَوْدَته على المعنى ثانٍ عن ذلِك، وكِلا التَّعبيرينِ عالٍ فصيحٌ، فعادَ في آيةِ آل عِمران على الكافِ؛ لأنَّها تُعاقِب (مِثل)، وهو مُذكَّر، فهذا لحْظٌ لفظيٌّ، ثم عادَ فى آيةِ المائدةِ إلى الكافِ من حيثُ هي في المعنى صِفةٌ؛ لأنَّ المِثل صِفةٌ في التقديرِ المعنويِّ، فحصَلَ مراعاةُ المعنى ثانيًا على ما يجبُ كما ورد في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الأحزاب: 31] بِعَودةِ الضَّميرِ في يَقْنُتْ مُذكَّرًا رَعْيًا لِلَفْظ مَنْ، ثم قال: وَتَعْمَلْ بالتاءِ رَعيًا للمعنى، وهو كثيرٌ، ورَعْيُ اللَّفظِ في ذلك هو الأَوْلَى، فجرَى في آيةِ آل عِمران على ذلِك؛ لأنَّها مُتقدِّمةٌ في الترتيبِ، وجرَى في آيةِ المائدةِ على ما هو ثانٍ؛ إذ هي ثانيةٌ في التَّرتيبِ، وذلك على ما يجبُ.
الوجه الثاني: وهو أنَّه قد ورَدَ قبل ضميرِ آيةِ آل عِمران مِن لَدُنْ قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ... إلى قولِه: فَأَنْفُخُ فِيه [آل عمران: 44- 49] نحوٌ مِن عِشرينَ ضَميرًا مِنَ ضمائرِ المذكَّرِ، فورَدَ الضميرُ في قوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ ضميرَ مُذكَّرٍ ليُناسِبَ ما تَقدَّمه، ويُشاكِلَ الأكثرَ الواردَ قَبْلَه. أمَّا آيةُ المائدةِ فمُفْتتَحَةٌ بقوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتي عَلَيْكَ وخَلْقُه الطائرَ ونفخُه فيه مِن أَجلِّ نِعَمِه تعالى عليه؛ لتأييدِه بذلك، فناسَبَ ذلك تأنيثَ الضَّمير، ولم تَكثُرِ الضمائرُ هنا ككثرتِها هناك، فجاءَ كلٌّ مِنَ الآيتَينِ على أتمِّ مُناسبةٍ [2079] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/460)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/83، 84). ، وقيل غير ذلك [2080] يُنظر: ((البرهان في توجيه متشابه القرآن)) للكرماني (ص: 89- 90). .
- جاء هنا بِإِذْنِي أربعَ مرَّات عقيبَ أربعِ جُمَل؛ لأنَّ هذا موضعُ ذِكر النِّعمة، والامتنانِ بها، فناسَب الإسهاب [2081] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/407). .
- وعبَّر هنا في آية المائدة بقوله: بِإِذْنِي مُضافًا إلى ضَميرِه سبحانه فى أَربعةِ مواضعَ مع وَجازةِ الكلامِ، وتقارُب ألفاظِ الآية، وقد جرَى هذا الغرضُ في آيةِ آلِ عِمران، فورَد فيها ذلك في موضعينِ خاصَّةً مُضافًا إلى اسمِه سبحانه؛ حيث قال: فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] ؛ لأنَّ آيةَ آلِ عِمرانَ إخبارٌ وبِشارةٌ لمريمَ بما مَنَح لابنِها عيسى عليه السَّلام، وبمقالِه عليه السَّلامُ لبني إسرائيلَ تعريفًا برِسالتِه، وتحدِّيًا بمعجزاتِه، وتبريئًا مِن دَعوى الاستبدادِ، أو الانفرادِ بِقُدرةٍ في مقاله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... إلى قَوْلِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49] إلى ما بَعْدَه، ولم تتضمَّنْ هذه الآيةُ غيرَ البِشارةِ والإعلامِ.
وأمَّا آيةُ المائدة فقُصِد بها غيرُ هذا، وبُنِيَتْ على تَوبيخِ النصارَى، وتعنيفِهم في مقالِهم في عيسى عليه السَّلامُ؛ فوَرَدتْ متضمِّنةً عَدَّه سبحانه إنعامَه على نبيِّه عيسى عليه السَّلامُ على طريقةٍ تُجارِي العتْبَ، وليس بعَتْبٍ، وذلك كقولِ القائلِ لعبدِه الأحبِّ إليه المتبرِّئِ مِن عصيانِه- ولكلامِ الله سبحانه المثلُ الأعلَى -: ألم أفعَلْ لك كذا؟ ألم أُعْطِكَ كذا؟ ويعدِّد عليه نعمًا ثم يقول: أَفَعَلَ لك ذلك غَيري؟ هل أحسَنْتَ إلى فلانٍ إلَّا بما أعطيتُك؟ فيقصدُ السَّيِّدُ بهذا قطعَ تخيُّل مَن ظنَّ أنَّ ما كان مِن هذا العبدِ مِن إحسانٍ إلى أحدٍ أنَّ ذلك مِن قِبَلِ نفسِه، وليس مِن قِبَل سيِّده، فإذا قرَّره السيدُ على هذا، واعترف العبدُ بأنَّ ذلك كما قال السيِّدُ، انقطعَتْ حجةُ مَن ظنَّ خلافَه، وتوهَّم استقلالَ العبدِ، فعلى هذا النحوِ- واللهُ أعلم- وردت الآيةُ الكريمةُ؛ لذلك تكرَّر فيها ما تَكرَّر مع الآياتِ قولُه تعالى: بِإِذْنِي وتكرَّر ذلك أربعَ مرَّاتٍ عقبَ أربعِ آياتٍ ممَّا خُصَّ به عليه السَّلامُ مِن خَلْقِ الطيرِ، والنَّفخِ فيه فيَحيَا، وإبراءِ الأكْمَهِ والأبرصِ، وإحياءِ الموتَى.
وهي مِن الآياتِ التي ضلَّ بسببِها مَن ضَلَّ مِن النَّصارَى، وحمَلَتْهم على قولِهم بالتثليثِ، تعالى الله عمَّا يقولون عُلوًّا كبيرًا؛ فأعْلمَ اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ تلك الآياتِ بإذنِه، وأكَّد ذلك تأكيدًا يرفَعُ توهُّمَ حوْلٍ أو قُوَّةٍ لغيرِ اللهِ سبحانه، أو استبدادٍ ممَّن ظنَّه، ونزَّه نبيَّه عيسى عليه السلامُ عن نِسبةِ شَيءٍ من ذلك لنَفْسِه مُستقلًّا بإيجادِه، أو ادِّعاءِ فِعلِ شيءٍ إلَّا بقُدرةِ ربِّه سبحانه وإذْنِه، وبرَّأه مِن شَنيعِ مقالَتِهم؛ فآيةُ آلِ عمران بشارةٌ وإخبارٌ لمريم، وآيةُ المائدةِ واردةٌ فيما يقولُه سبحانه لعيسى عليه السَّلامُ توبيخًا للنَّصارى، فلمَّا اختلَفَ القصدانِ اختلفتِ العبارتانِ [2082] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/84- 85). .