موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (62-64)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات:

يَتَسَلَّلُونَ: أي: يَخرُجونَ مِن الجَماعةِ واحِدًا وَاحِدًا خُفْيَةً، والتَّسلُّلُ هو الخروجُ على خُفْيَةٍ، وأصلُه يدُلُّ على مَدِّ الشَّيءِ فِي رِفقٍ وخَفاءٍ [1556] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 309)، ((تفسير ابن جرير)) (17/390)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 518)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/59)، ((تفسير السمعاني)) (3/554)، ((المفردات)) للراغب (ص: 418). .
لِوَاذًا: أي: مُسَتِترًا بعضُهم ببَعضٍ، وأصلُ (لوذ): يدُلُّ على إطافةِ الإنسانِ بالشَّيءِ مُستعيذًا به ومُتَستِّرًا [1557] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/391)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/220)، ((المفردات)) للراغب (ص: 750)، ((تفسير القرطبي)) (12/322). .
فِتْنَةٌ: أي كُفرٌ وضلالةٌ، والفتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ، والابتلاءُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه [1558] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تفسير الرسعني)) (5/295). .

مشكل الإعراب :

قَولُه تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قولُه تعالى: دُعَاءَ الرَّسُولِ يجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ دُعَاءَ مُضافًا لِمَفعولِه، أي: دعاءَكم الرَّسولَ، بمعنى: لا تنادُوه باسمِه ولا بكُنيتِه، بل نادُوه وخاطِبوه بالتوقيرِ: يا رسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مُضافًا للفاعِلِ، أي: لا تَجعَلوا دعاءَه إيَّاكم كدُعاءِ بعضِكم لبعضٍ؛ فتَتباطَؤُوا عنه كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل غيرُ ذلك.
قَولُه تعالى: لِوَاذًا فيه وَجهانِ؛ أحدُهما: أنَّه مَنصوبٌ على المصدَرِ مِن معنى الفِعلِ الأوَّلِ، أي: يَتَسَلَّلون منكم تَسَلُّلًا، أو يُلاوِذون لِواذًا. والثَّاني: أنَّه مَصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: مُلاوِذين [1559] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1730)، ((التبيان)) للعكبري (2/979)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/446-449)، ((تفسير الألوسي)) (9/415)، ((الجدول)) لمحمود صافي (18/299). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى ما يَنبغي أن يكونَ عليه المؤمنونَ مع نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: إنَّما المُؤمِنونَ حَقًّا هم الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وإذا كانوا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرٍ مُهِمٍّ جمَعَهم له، لم ينصَرِفْ أحَدٌ منهم حتى يستأذِنَه. إنَّ الذين يَستأذِنونَك -أيُّها النبيُّ- هم المؤمِنونَ حَقًّا، فإذا استأذَنَك هؤلاء المؤمِنونَ لِبَعضِ حاجتِهم، فَأْذَنْ لِمَن شِئتَ إن كان فيه حِكمةٌ ومَصلحةٌ، واطلُبْ لهم العَفوَ والمغفرةَ مِن الله؛ إنَّ اللهَ عظيمُ المغفرةِ، واسِعُ الرَّحمةِ.
ثمَّ يُوجِّهُهم إلى أدبٍ آخَرَ فيه مِن التوقيرِ والتعظيمِ لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: لا تَجعَلوا -أيُّها المُؤمِنونَ- دُعاءَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيَّاكم كدُعاءِ بعضِكم لبَعضٍ؛ فتَتباطَؤُوا عنه كما يتباطَأُ بعضُكم عن بعضٍ إذا دعاه لأمرٍ، بل يجِبُ عليكم المبادرةُ لأمرِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ولا تُنادوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسمِه مُجَرَّدًا كما يُنادي بَعضُكم بَعضًا باسمِه، ولكِنْ عَظِّموه ووَقِّروه، وقولوا: يا نبيَّ اللهِ، يا رَسولَ اللهِ.
ثمَّ يحذِّرُ الله تعالى المنافقينَ مِن سوءِ عاقبةِ أفعالِهم، فيقولُ: قد عَلِمَ اللهُ المنافِقينَ الذين يَخرُجونَ مِن الجماعةِ في خُفيةٍ مُستَتِرينَ، فليَحْذَرِ الذين يُعرِضونَ عن أمرِ رَسولِ اللهِ أن تَنزِلَ بهم فتنةٌ في الدُّنيا، أو يُصيبَهم عذابٌ شَديدٌ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى السورةَ بقولِه: لله وحْدَه مُلكُ ما في السَّمواتِ والأرضِ، قد عَلِمَ سُبحانَه كُلَّ شُؤونِكم، ويومَ يُرجَعُ العِبادُ إليه سُبحانَه، فيُخبِرُهم بما فعَلوا في الدُّنيا، ويُجازي كُلًّا بعَمَلِه، واللهُ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، لا يَخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه.

تفسير الآيات:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا جرى الكلامُ السَّابِقُ في شأنِ الاستِئذانِ للدُّخولِ، عقَّب ذلك بحُكمِ الاستئذانِ للخُروجِ ومُفارقةِ المجامِعِ، فاعتُنِي من ذلك بالواجِبِ منه، وهو استِئذانُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مُفارَقةِ مَجلِسِه، أو مُفارَقةِ جَمعٍ جُمِعَ عن إذْنِه لأمرٍ مُهِمٍّ؛ كالشُّورى، والقِتالِ، والاجتِماعِ للوعظِ، ونحوِ ذلك [1560] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/306). .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: إنَّما المُؤمِنونَ حَقَّ الإيمانِ، الكامِلونَ في إيمانِهم: هم الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه ظاهِرًا وباطِنًا، إيمانًا صحيحًا صادِقًا، يتضَمَّنُ القَبولَ والإذعانَ [1561] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/385)، ((تفسير السمرقندي)) (2/526)، ((تفسير البيضاوي)) (4/115)، ((تفسير ابن كثير)) (6/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/321، 322)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 424). قال القرطبي: («إنَّما» في هذه الآيةِ للحَصرِ، المعنى: لا يَتِمُّ ولا يَكمُلُ إيمانُ مَن آمَنَ باللهِ ورَسولِه إلَّا بأن يكونَ مِنَ الرَّسولِ سامِعًا غَيرَ مُعْنِتٍ؛ في أن يكونَ الرَّسولُ يُريدُ إكمالَ أمرٍ، فيُريدُ هو إفسادَه بزَوالِه في وقتِ الجَمْعِ، ونحوِ ذلك، وبَيَّنَ تعالى في أوَّلِ السُّورةِ أنَّه أَنزل آياتٍ بَيِّناتٍ، وإنَّما النُّزولُ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَتَم السُّورةَ بتأكيدِ الأَمرِ في مُتابعتِه عليه السَّلامُ؛ لِيُعلَمَ أنَّ أوامِرَه كأوامِرِ القُرآنِ). ((تفسير القرطبي)) (12/320). وقال ابنُ عاشور: (المقصودُ: إظهارُ علامةِ المؤمِنينَ، وتَمييزُهم عن عَلامةِ المُنافِقينَ؛ فليس سياقُ الآيةِ لبَيانِ حقيقةِ الإيمانِ؛ لأنَّ للإيمانِ حَقيقةً مَعلومةً ليس استِئذانُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند إرادةِ الذَّهابِ من أركانِها؛ فعُلِمَ أنْ ليس المقصودُ مِن هذا الحَصرِ سَلبَ الإيمانِ عن الذي يَنصَرِفُ دونَ إذنٍ مِن المؤمنِينَ الأحِقَّاءِ، لو وَقَع منه ذلك عن غيرِ قَصدِ الخَذْلِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو أذاهُ؛ إذ لا يَعْدو ذلك -لو فعَله أحَدُ المؤمِنينَ- عن أن يكونَ تَقصيرًا في الأدَبِ يَستَحِقُّ التَّأديبَ والتَّنبيهَ على تجنُّبِ ذلك؛ لأنَّه خَصلةٌ مِنَ النِّفاقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/306). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] .
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
أي: وإذا كانوا مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمرٍ مُهِمٍّ يجمَعُهم؛ كالجِهادِ، أو التَّشاوُرِ في أمرٍ ما- لم يُفارِقوا الرَّسولَ وينصَرِفوا لحاجتِهم حتى يَطلُبوا منه الإذنَ [1562] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/385)، ((تفسير القرطبي)) (12/320، 321)، ((تفسير ابن جزي)) (2/76)، ((تفسير ابن كثير)) (6/88)، ((تفسير الشوكاني)) (4/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/307)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 425، 426). .
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: إنَّ الذين يَطلُبونَ منك -أيُّها النبيُّ- أن تأذَنَ لهم بالانصرافِ لِعُذرٍ: أولئك الذين يُؤمِنون باللهِ ورَسولِه حقًّا، وليسوا بمُنافِقين [1563] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/466)، ((تفسير ابن جرير)) (17/387)، ((الوسيط)) للواحدي (3/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576). .
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ.
أي: فإذا طلَبَ المؤمِنونَ منك -أيُّها النبيُّ- أن تأذنَ لهم بالانصِرافِ لحاجتِهم إلى قَضاءِ بَعضِ أمورِهم؛ فأْذَنْ لِمَن تشاءُ منهم، وامنَعْ مَن تشاءُ إن كانت المصلحةُ تَقضي بعدَمِ ذَهابِه [1564] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/387)، ((تفسير السمعاني)) (3/554)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 206). .
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ.
أي: وادْعُ اللهَ -أيُّها النبيُّ- أن يغفِرَ لهؤلاء المُستأذِنينَ [1565] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/387)، ((تفسير البيضاوي)) (4/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576). قال البيضاوي: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ بعد الإذنِ؛ فإنَّ الاستئذانَ ولو لعُذرٍ قُصورٌ؛ لأنَّه تقديمٌ لأمرِ الدُّنيا على أمرِ الدِّينِ). ((تفسير البيضاوي)) (4/115). وقال السعدي: (ومع هذا إذا استأذن وأُذِنَ له، بشَرطَيْهِ؛ أمرَ اللهُ رسولَه أن يستغفِرَ له؛ لِما عسى أن يكون مقصِّرًا في الاستئذانِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 576). وقال ابنُ عثيمين: (هذا الاستِغفارُ لهم لِتَطيبَ قُلوبُهم إذا انصَرَفوا عن هذا الجَمعِ، وفاتَهم أجرُه، فاستغفَرَ لهم الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ قُلوبَهم تطيبُ بالانصرافِ، ولا يبقى في قلوبِهم حَرَجٌ وقَلَقٌ. هذا من جهةٍ. ومِن جهةٍ أخرى: يَستغفِرُ لهم؛ لأنَّه قد يكونُ في استِئذانِهم هذا أمرٌ لا يُعذَرونَ فيه؛ هم ظَنُّوه عُذرًا فاستأذنوا مِن أجْلِه، وهو ليس بعُذرٍ عندَ الله، ويكونُ استغفارُك لهم ماحيًا لِما عسى أن يكونَ مِن التقصيرِ والتَّفريطِ في ذلك، واستغفارُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم كأنْ يقولَ: انصَرِفوا، غفَرَ اللهُ لكم، أو: اللهُمَّ اغفِرْ لهم). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 427، 428). .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ كثيرُ المَغفِرةِ والرَّحمةِ، يَغفِرُ لعبادِه ذُنوبَهم ويَرحَمُهم، ومِن رَحمتِه أنْ جوَّز للمَعذورينَ الاستِئذانَ [1566] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/387)، ((تفسير السمرقندي)) (2/526)، ((تفسير البيضاوي)) (4/115)، ((تفسير الشوكاني)) (4/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576). .
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الاجتِماعُ للرَّسولِ في الأُمورِ يقعُ بعْدَ دَعوتِه النَّاسَ للاجتماعِ، وقد أمَرهم اللهُ ألَّا يَنصَرِفوا عن مجامِعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا لعُذرٍ بعْدَ إذنِه؛ أنبَأَهم بهذه الآيةِ وُجوبَ استِجابةِ دَعوةِ الرَّسولِ إذا دعاهم [1567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/308، 309). ، وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ.
وأيضًا لَمَّا ذَكَرَ هذه السُّورةَ العظيمةَ وما فيها مِن الآدابِ السَّاميةِ، خَتَمَها بأدبٍ اجتماعيٍّ لائقٍ برَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو احترامُه في الخِطابِ [1568] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 207). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَت الآيةُ السَّابِقةُ وُجوبَ الاستِئذانِ عندَ إرادةِ الانصِرافِ مِن مَجلِسِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بَيَّنَت هذه الآيةُ وُجوبَ تَلبيةِ دَعوتِه إذا دعا -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وفَضَحت حالةَ الذين يَتسَلَّلونَ غيرَ مُستأذِنينَ، وحَذَّرَت مِن فِعْلِهم، وأوعَدَت الوَعيدَ الشَّديدَ للمُخالِفينَ أمثالِهم [1569] يُنظر: (( تفسير ابن باديس)) (ص: 336). .
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا.
أي: لا تَعتَقِدوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أنَّ دَعوةَ الرَّسولِ لكم للاجتِماعِ غَيرُ واجِبةٍ، كما يدعو بعضُكم بعضًا؛ ولا تنادُوا الرَّسولَ بقِلَّةِ احترامٍ وتوقيرٍ، كمناداتِه باسمِه مُجَرَّدًا، أو برَفعِ الصَّوتِ مِثلَما ينادي بعضُكم بعضًا؛ فإجابةُ الرَّسولِ لازِمةٌ، والتأدُّبُ معه واجِبٌ [1570] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/198)، ((تفسير القرطبي)) (12/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/88، 89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/308، 309)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/556 - 558)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 433 - 435). ممَّن اختار أنَّ معنى الآيةِ: لا تَدْعوه باسمِه، كما يدعو بعضُكم بعضًا، بل قولوا: يا رسولَ الله، يا نبيَّ الله. فعلى هذا: المصدرُ مضافٌ إلى المفعولِ، أي: دعاءَكم الرَّسولَ. ممَّن اختاره: مقاتلُ بن سليمان، وابنُ عطيةَ، والقرطبيُّ، وابنُ كثيرٍ، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/211)، ((تفسير ابن عطية)) (4/198)، ((تفسير القرطبي)) (12/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/88)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/556). قال الواحدي: (وهذا قولُ أكثرِ المفَسِّرين، واختيارُ الفرَّاءِ، والزَّجَّاجِ). ((البسيط)) (16/389). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/262)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/55). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عباس في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والحسن في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/466)، ((تفسير ابن جرير)) (17/389)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2654). وممَّن اختار أنَّ معنَى الآيةِ: لا تجعلوا دُعاءَه -صلَّى الله عليه وسلَّم- لكم بمنزلةِ دُعاءِ بَعضِكم بَعضًا؛ إن شاء أجاب، وإن شاء تَرَك، بل إذا دعاكم لم يكُنْ لكم بُدٌّ مِن إجابتِه، ولم يَسَعْكم التخَلُّفُ عنها البتَّةَ. فعلى هذا: المصدرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، أي: دُعاؤه إيَّاكم. ممَّن اختاره: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/308). وممَّن جمَع بينَ المعنيَينِ السَّابِقَينِ: البقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمينَ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 433). وقال ابنُ عثيمين: (يجوزُ أن نجعَلَها شامِلةً للمعنَيينِ؛ لأنَّنا أسلَفْنا قاعدةً في هذا، وهي: أنَّ الآيةَ إذا كانت تحتَمِلُ المعنيينِ بدونِ تناقُضٍ، فإنَّها تُحمَلُ عليهما جميعًا... فعليه نقولُ: إنَّ هذا مِن بابِ الأدَبِ في مخاطبةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والأدَبِ في إجابتِه؛ ففي مُخاطبتِه لا نجعَلُ مُخاطبتَه ودُعاءَنا إيَّاه كدُعاء غيرِه، وفي إجابتِه لا نجعَلُ دُعاءَه وطَلَبَه لأمرٍ مِن الأمورِ كطَلَبِ غَيرِه). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 433). وقال ابنُ عبَّاسٍ في قَولِه تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قال: (دَعوةُ الرَّسولِ عليكم مُوجِبةٌ؛ فاحذَروها). ((تفسير ابن جرير)) (17/388). وقال ابنُ كثير: (والقَولُ الثَّاني في ذلك أنَّ المعنى في: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا أي: لا تعتَقِدوا أنَّ دُعاءَه على غيرِه كدُعاءِ غَيرِه؛ فإنَّ دُعاءَه مُستجابٌ؛ فاحذَروا أن يَدعوَ عليكم فتَهلِكوا. حكاه ابنُ أبي حاتمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، والحَسَنِ البَصريِّ، وعطيَّةَ العَوْفيِّ). ((تفسير ابن كثير)) (6/89). وممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير، وأبو القاسم نجم الدين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/389)، ((إيجاز البيان)) لنجم الدين (2/607). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، والشعبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/388)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2655)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/231). قال الشنقيطي: (هذا الوَجهُ الأخيرُ يأباه ظاهِرُ القُرآنِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا يدُلُّ على خِلافِه، ولو أراد دُعاءَ بَعضِهم على بَعضٍ، لقال: لا تجعَلوا دُعاءَ الرَّسولِ عليكم كدُعاءِ بَعضِكم على بَعضٍ؛ فدُعاءُ بَعضِهم بعضًا، ودُعاءُ بَعضِهم على بَعضٍ: مُتغايِرانِ، كما لا يخفى). ((أضواء البيان)) (5/558). وممَّن استبعد هذا الوَجهَ الأخيرَ أيضًا: ابنُ عطية، وابنُ الفرس، وابن جُزي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/198)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/394)، ((تفسير ابن جزي)) (2/77). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] .
وقال سُبحانَه: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة: 120] .
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا.
أي: إنَّ اللهَ يعلَمُ المُنافِقينَ الذين ينصَرِفونَ خُفيةً عن اجتِماعِ المُسلِمينَ، فيَخرُجونَ بلا استِئذانٍ، مُستَتِرينَ؛ مخافةَ أن يراهم أحدٌ، وسيُجازيهم اللهُ على ذلك [1571] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/390،391)، ((تفسير القرطبي)) (12/322)، ((تفسير ابن كثير)) (6/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/310). .
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ.
أي: فلْيحذَرِ الذين يُعرِضونَ عن أمرِ الرَّسولِ أن تُصيبَهم فِتنةٌ في الدُّنيا [1572] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/391)، ((تفسير القرطبي)) (12/323)، ((تفسير ابن كثير)) (6/89، 90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 576)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/558 - 560)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 208). قال الشنقيطي: (الضَّميرُ في قَولِه: عَنْ أَمْرِهِ راجِعٌ إلى الرَّسولِ، أو إلى اللهِ، والمعنى واحِدٌ؛ لأنَّ الأمرَ مِنَ اللهِ، والرَّسولُ مُبلِّغٌ عنه). ((أضواء البيان)) (5/558). وقال ابن عطية: (قوله: يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ معناه: يقعُ خلافُهم بعْدَ أمرِه، وهذا كما تقولُ: كان المطرُ عن ريحٍ، و«عن» هي لِما عدا الشَّيءَ، والفِتنةُ في هذا الموضِعِ: الإخبارُ بالرَّزايا في الدُّنيا، وبالعذابِ الأليمِ في الآخرةِ، ولا بدَّ للمُنافقينَ مِن أحدِ هذَينِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/198). وقال ابن تيميَّةَ: (قال الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى: أيُّ فتنةٍ هي؟ إنما هي الكُفرُ، وكذلك ألبس اللهُ سبحانه الذِّلَّةَ والصَّغارَ لِمن خالفَ أمْرَه). ((مجموع الفتاوى)) (19/104). قال الماوَرْدي: (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ فيها ثلاثةُ تأويلاتٍ؛ أحَدُها: كُفرٌ. قاله السُّدِّيُّ. الثاني: عُقوبةٌ. قاله ابنُ كامل. الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ تُظهِرُ ما في قُلوبِهم مِنَ النِّفاقِ. حكاه ابنُ عيسى). ((تفسير الماوردي)) (4/129).  ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالفِتنةِ هنا الكُفرُ والشِّركُ: ابنُ جرير، والسمرقندي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/391)، ((تفسير السمرقندي)) (2/527)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 438). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: السُّدِّيُّ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ، وعبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أَسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/390)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2657)، ((تفسير الماوردي)) (4/129). قال ابنُ كثيرٍ: (فِتْنَةٌ أي: في قُلوبِهم؛ مِن كُفرٍ، أو نِفاقٍ، أو بِدعةٍ). ((تفسير ابن كثير)) (6/90). وممَّن اختار القَولَ الثَّانيَ، وأنَّ المرادَ بالفِتنةِ: العُقوبةُ: الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/427). وقال الشنقيطي: (الفِتنةُ تُطلَقُ على الاختِبارِ، وليست مُرادةً هنا، وتُطلَقُ على نتيجةِ الاختبارِ إذا كانت سيِّئةً، والمرادُ بها هنا العِقابُ؛ كالزَّلازِلِ، والوُلاةِ الجائِرينَ، أو الإضلالِ، وهو أن يَختِمَ اللهُ على قُلوبِهم، وهذا أقرَبُ). ((تفسير سورة النور)) (ص: 208). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/560). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالفِتنةِ هنا: البَلِيَّةُ والمِحْنةُ في الدُّنيا: ابنُ أبي زمنين، والواحدي، والزمخشري، وابن عطية، والبيضاوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعليمي، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/251)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 722)، ((تفسير الزمخشري)) (3/260)، ((تفسير ابن عطية)) (4/198)، ((تفسير البيضاوي)) (4/116)، ((تفسير الخازن)) (3/307)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 469)، ((تفسير العليمي)) (4/564)، ((تفسير أبي السعود)) (6/198)، ((تفسير القاسمي)) (7/414). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِنَ السلَفِ: عطاءٌ، وجعفر بن محمد، والحسن، ومجاهد، والكلبي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/121)، ((البسيط)) للواحدي (16/394)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/310). قال أبو حيان: (والفِتنةُ: القَتلُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ أيضًا. أو بلاءٌ، قاله مجاهِدٌ. أو كُفرٌ، قاله السُّدِّيُّ ومقاتل. أو إسباغُ النِّعَمِ استِدراجًا، قاله الجرَّاحُ. أو قَسوةُ القَلبِ عن مَعرفةِ المعروفِ والمُنكَرِ، قاله الجُنَيد. أو طَبعٌ على القُلوبِ، قاله بعضُهم. وهذه الأقوالُ خرَجَت مَخرجَ التَّمثيلِ لا الحَصرِ، وهي في الدُّنيا). ((تفسير أبي حيان)) (8/76). .
كما قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] .
وقال سُبحانَه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جُعِلَ الذِّلَّةُ والصَّغارُ على من خالفَ أمري)) [1573] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ التَّضعيفِ قبْلَ حديث (2914)، وأخرجه أحمدُ موصولًا (5114). صحَّح إسنادَه الذهبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) (15/509)، وقال الهَيْثَميُّ في ((مجمع الزوائد)) (5/270): (فيه عبدُ الرحمنِ بنُ ثابتِ بنِ ثَوْبانَ، وبقيَّةُ رجالِه ثِقاتٌ)، وذكر ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (3/445) أنَّ فيه عبدَ الرحمنِ بنَ ثابتٍ: مختلَفٌ في الاحتجاجِ به، وله شاهِدٌ بإسناد حسنٍ، لكنَّه مُرسَل. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/122)، وجوَّد إسنادَه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (1/200)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ ((صحيح الجامع)) (2831). .
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: أو [1574] قال ابنُ عثيمين: (قوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ أَوْ مانعةُ اجتماعٍ، أو مانِعةُ خُلُوٍّ؟ يعني: هل المعنى: إمَّا هذا أو هذا ولا يجتمعانِ، فتكون مانعةَ اجتماعٍ، مثل: تزوَّجْ هندًا أو أختَها؟ هذه مانعةُ اجتماعٍ؛ لأنَّهما لا يمكِنُ أن يجتَمِعا، فهل نقولُ: إنَّ أَوْ هذه مانعةُ اجتماعٍ، أو مانعةُ خُلوٍّ؛ بمعنى: أنَّه لا يخلو من أحدِهما، وربما يجتَمِعان؟ الجوابُ: مانِعةُ خُلوٍّ؛ بمعنى: أنَّه لا يخلو مِن أحدِ هذَينِ الأمْرَينِ المتوقَّعينِ، أو منهما جميعًا، لا سيما إذا قُلْنا بأنَّ الفتنةَ: الشِّركُ؛ فإنَّ العذابَ الأليمَ ملازمٌ لها). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 438، 439). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/68). يُصيبَهم عذابٌ مُوجِعٌ؛ لِمُخالفتِهم أمرَ الرَّسولِ [1575] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/391)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 722)، ((تفسير ابن كثير)) (6/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/311). قيل: المرادُ بالعذابِ هنا: عذابُ الدنيا. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن كثير، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابن كثير: (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: في الدُّنيا؛ بقَتلٍ، أو حَدٍّ، أو حبسٍ، أو نحو ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (6/90). وقيل: المرادُ به: عذابُ الآخرةِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عطية، والبِقاعي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/326)، ((تفسير الشوكاني)) (4/68)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 208). قال ابن عثيمين: (قولُه: عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلِيمٌ بمعنى: مُؤلِم، ولم يقيِّدْه اللهُ تعالى بالآخرةِ؛ فقد يكونُ في الدنيا، وقد يكونُ في الآخرةِ، وقد يكونُ فيهما جميعًا). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 439). .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هذه الآيةُ جاءت بعدَ قَولِه تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ كالدَّليلِ على أنَّ ما هدَّد اللهُ به مِن الفِتنةِ أو العذابِ الأليمِ: أمرٌ لا يُعجِزُ اللهَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى له مُلكُ السَّمواتِ والأرضِ، ومَن كان له مُلكُ السَّمواتِ والأرضِ فإنَّه لا يَعجِزُ عن تنفيذِ ما هدَّد به وإيقاعِه [1576] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 440، 441). .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ألا إنَّ للهِ مُلكَ جَميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وكلُّهم خَلْقُه وعبيدُه وتحتَ تدبيرِه؛ فلا تنبغي لكم مَعصيتُه [1577] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/392)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 722)، ((تفسير القرطبي)) (12/323)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577). .
قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.
أي: إنَّ اللهَ يعلَمُ ما أنتم عليه -أيُّها النَّاسُ- في سِرِّكم وعَلانيتِكم؛ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وطاعةٍ ومَعصيةٍ [1578] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/392)، ((تفسير ابن كثير)) (6/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 209). .
كما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا.
أي: ويَومَ [1579] كلمةُ وَيَوْمَ معطوفةٌ على مَا في قَولِه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فيكونُ المعنى: ويعلمُ يومَ يُرجَعونَ إليه. وممَّن قال بهذا: أبو حيان، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/77)، ((تفسير الشوكاني)) (4/68)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/561)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 209)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 443). قال الشنقيطي: (الصَّحيحُ أنَّ كَلِمةَ «يومَ» معطوفةٌ على مَا في قَولِه تعالى: يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فهو مفعولٌ به، لا مَفعولٌ فيه، أي: هو عالمٌ بحالِكم اليَومَ، وما ستُلاقونَ في يومِ الجزاءِ الذي تُرجَعونَ فيه إليه). ((تفسير سورة النور)) (ص: 209). وقال الشهاب الخفاجي: (ويجوزُ تعَلُّقُه بمحذوفٍ يُعطَفُ على ما قبلَه، أي: وسيُنَبِّئُهم يومَ يُرجَعونَ إليه، كما في الكشَّافِ). ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (4/404). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/261). وقال ابن عثيمين: (الله تعالى يَعلمُ متى يرجعون؛ سواءٌ كان رجوعًا عامًّا كيومِ القيامةِ، أم خاصًّا كموتِ الإنسانِ؛ هذا أيضًا مرجعُه إلى الله عزَّ وجلَّ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 443). يُرجَعُ النَّاسُ إلى اللهِ فيُخبِرُهم بجَميعِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ، ويُجازيهم عليه [1580] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/323)، ((تفسير ابن كثير)) (6/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/561). قال ابن عثيمين: (فائدةُ الإنباءِ هو الإقرارُ، يعني: يقرِّرُهم حتى يكونَ جزاؤُهم على وجهِ العدلِ الذي أقرُّوا به هم، فلا يقولونَ: إنَّنا ظُلِمنا، بل الله يقولُ: عَمِلتُم كذا وعمِلتُم كذا وعمِلتُم كذا، حتى يُقَرَّروا بذلك، ثم بعْدَ هذا الإقرارِ يترتَّبُ الجزاءُ فضلًا أو عدلًا). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 443). .
كما قال تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] .
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بجَميعِ الأعمالِ والأحوالِ والنيَّاتِ، لا يخفَى عليه شَيءٌ [1581] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/392)، ((تفسير السمرقندي)) (2/527)، ((تفسير القرطبي)) (12/323). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ وكذلك ينبغي أن يكونَ الناسُ مع أئمتِهم ومقدَّميهم في الدينِ والعلمِ، يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلةٍ من النوازلِ، ولا يتفرَّقونَ عنهم، والأمرُ في الإذنِ مفوَّضٌ إلى الإمامِ: إن شاء أذِنَ، وإن شاء لم يأذَنْ، على حسَبِ ما اقتضاه رأيُه [1582] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/259). ، ففي الآيةِ بَيانُ حِفظِ الأدَبِ، بأنَّ الإمامَ إذا جمعَ النَّاسَ لتدبيرِ أمرٍ مِن أمورِ المُسلِمين فينبغي ألَّا يَرجِعوا إلَّا بإذنِه، وكذلك إذا خرجوا إلى الغَزوِ، لا ينبغي لأحدٍ أن يرجِعَ إلَّا بإذنِه، أو يخالِفَ أمرَ السَّرِيَّةِ [1583] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/526). .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ هذه الآيةُ أصلٌ مِن نظامِ الجَماعاتِ في مصالحِ الأمَّةِ؛ لأنَّ مِن السُّنةِ أن يكونَ لكُلِّ اجتِماعٍ إمامٌ ورئيسٌ يديرُ أمرَ ذلك الاجتِماعِ، وقد أشارت مشروعيَّةُ الإمامةِ إلى ذلك النِّظامِ، ومِن السُّنةِ ألَّا يجتَمِعَ جماعةٌ إلَّا أمَّروا عليهم أميرًا؛ فالذي يترأَّسُ الجَمعَ هو قائِمٌ مقامَ وليِّ أمرِ المُسلِمين، فهو في مقامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا ينصَرِفُ أحدٌ عن اجتماعِه إلَّا بعد أن يستأذِنَه؛ لأنَّه لو جُعِلَ أمرُ الانسلالِ لِشَهوةِ الحاضِرِ، لكان ذريعةً لانفِضاضِ الاجتِماعاتِ دونَ حُصولِ الفائدةِ التي جُمِعت لأجلِها، وكذلك الأدبُ أيضًا في التخَلُّفِ عن الاجتِماعِ عند الدَّعوةِ إليه؛ كاجتِماعِ المجالِسِ النيابيَّةِ والقضائيَّةِ والدينيَّةِ، أو التخَلُّفِ عن ميقاتِ الاجتماعِ المتَّفَقِ عليه إلَّا لعُذرٍ واستِئذانٍ [1584] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/308). .
3- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أنَّ الأوْلَى عدَمُ الاستئذانِ حتى وإنْ كان للإنسانِ شأنٌ؛ لأنَّ الأمرَ بالاستغفارِ دليلٌ على أنَّ هناك شيئًا مِن التفريطِ الذي أُمِرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَستغفرَ لهم عليه، وهذا صحيحٌ بلا شكٍّ؛ وأنَّ الأَولى البقاءُ مع الجماعةِ؛ وأنَّ الاستئذانَ للانصرافِ أمرٌ قد يكون فيه ذَمٌّ؛ ولهذا أَمَرَ اللهُ نبيَّه أنْ يَستغفرَ لهم؛ فقال: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ [1585] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). ، فالانصِرافُ خِلافُ ما ينبغي؛ لأنَّه لِترجيحِ حاجتِه على الإعانةِ على حاجةِ الأمَّةِ [1586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/308). .
4- قال الله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا إذا كان هذا في خِطابِه -على قولٍ في التفسيرِ-، فهكذا في مَغيبِه؛ فلا ينبغي أن يُجعَلَ ما يُدعَى به له صلَّى الله عليه وسلَّم مِن جِنسِ ما يدعو به بعضُنا لبعضٍ، بل يُدعَى له بأشرَفِ الدُّعاءِ، وهو الصَّلاةُ عليه، ومعلومٌ أنَّ الرَّحمةَ يُدعَى بها لكُلِّ مُسلمٍ [1587] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 165). .
5- تحذيرُ المتسَلِّلينَ في الأمورِ الجامعةِ بدونِ عذرٍ واستِئذانٍ؛ لِقَولِه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا، وهذه الجملةُ وهي قولُه تعالى: قَدْ يَعْلَمُ لا شَكَّ أنَّها تحذيرٌ لهؤلاء الذين يَتَسَلَّلون، وأنَّهم سوف يُجازَونَ على هذا العَمَلِ المُحَرَّمِ [1588] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 439). .
6- قَولُه تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه وجوبُ امتِثالِ أمرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّحذيرُ مِن مخالفتِه [1589] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 196). ، وأنَّ الذي يخالِفُ عنه مُهَدَّدٌ بهذه العُقوبةِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [1590] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/265). .
7- قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مخالفةُ بعضِ أوامرِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطأً مِن غيرِ عمدٍ، مع الاجتهادِ على متابعتِه، هذا يقعُ كثيرًا مِن أعيانِ الأمَّةِ مِن علمائِها وصلحائِها، ولا إثمَ فيه، بل صاحبُه إذا اجتهَد فله أجرٌ على اجتهادِه، وخطؤُه موضوعٌ عنه، أمَّا المبتدعُ فإنَّ عقوبتَه تغلَّظتْ على عقوبةِ العاصي؛ لأنَّ المبتدعَ مُفتَرٍ على اللهِ، مخالفٌ لأمرِ رسولِه؛ لأجْلِ هواه [1591] يُنظر: ((الحكم الجديرة بالإذاعة)) لابن رجب (ص: 33). .
8- سُئِلَ مالِكٌ عن رجُلٍ أحرَمَ قَبلَ الميقاتِ؟ فقال: أخافُ عليه من الفِتنةِ! قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ. فقال السَّائِلُ: وأيُّ فِتنةٍ في ذلك، وإنما هي زيادةُ أميالٍ في طاعةِ اللهِ تعالى؟! قال: وأيُّ فِتنةٍ أعظَمُ مِن أن تظُنَّ أنَّك خُصِصْتَ بفِعلٍ لم يَفعَلْه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! أو كما قال [1592] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/375)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/54). .
9- قولُه تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه عُمومُ علمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وفائدةُ ذِكرِ عُمومِ العِلمِ: التَّحذيرُ مِن المُخالفةِ؛ لأنَّ مَن عَلِم بك مُمتَثِلًا أو مُخالفًا، فسوف يُجازيك على ذلك، فإنْ كان الأمرُ هكذا، ففي كلِّ آيةٍ فيها إثباتُ العِلمِ تحذيرٌ مِن مخالفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لئلَّا يَقَعَ الإنسانُ فيما يُسخِطُ اللهَ سُبحانَه وتعالى عليه [1593] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 445). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ فيه وُجوبُ استِئذانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبْلَ الانصرافِ عنه، في كُلِّ أمرٍ يَجتَمِعون عليه [1594] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 194). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أنَّه إذا جُعِلَ مِن لوازمِ الإيمانِ أنَّهم لا يَذهَبونَ مَذهَبًا -إذا كانوا معه- إلَّا باستِئذانِه؛ فأَولى أنْ يكونَ مِن لوازمِه ألَّا يَذهَبوا إلى قَولٍ ولا مَذهَبٍ عِلميٍّ إلَّا بعد استئذانِه، وإذنُه يُعرَفُ بدَلالةِ ما جاء به على أنَّه أَذِنَ فيه [1595] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/41). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حُجَّةٌ على المُرجِئةِ فيما يَزعُمونَ أنَّ الأعمالَ ليست مِن الإيمانِ؛ فقد جَعَل اللهُ تعالى استِئذانَ الرَّسولِ مِن الإيمانِ؛ إذْ جَعَله في صفةِ الإيمانِ، ولم يَشهَدْ لهم به إلَّا معه [1596] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/502). .
4- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هذا مِن عَظيمِ التَّنبيهِ على عَلِيِّ أمرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشَريفِ قَدرِه؛ وذلك أنَّه سُبحانَه كما أمَرَهم بالاستِئذانِ عندَ الدُّخولِ عليه وعلى غيرِه، أفرَدَه بأمرِهم باستِئذانِه عندَ الانصرافِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجعَلَ رُتبةَ ذلك تاليةً لرُتبةِ الإيمانِ باللهِ والرَّسولِ، وجعَلَهما كالتَّسبيبِ له [1597] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/322). .
5- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يدُلُّ على أنَّه سُبحانَه فوَّض إلى رَسولِه بَعضَ أمرِ الدِّينِ؛ ليَجتَهِدَ فيه برأيِه [1598] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/424). .
6- قَولُه تعالى: لِمَنْ شِئْتَ فيه تفويضُ الأمرِ إلى مَن له وِلايةٌ، ولكِنَّ هذا التَّفويضَ تفويضٌ للمَصلحةِ لا لمجرَّدِ التَّشَهِّي والإرادةِ؛ فإذا رأى أنَّ في الإذنِ لهم مَصلحةً، أذِنَ لهم، وإذا رأى أنَّ المصلحةَ في عَدَمِ الإذنِ فلا يجوزُ أن يَأذَنَ [1599] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). .
7- قَولُه تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فيه أنَّ الاستئذانَ بدونِ عُذرٍ لا يُقبَلُ، وإذا استأذَنوا لمجَرَّدِ أن يَتركوا العملَ، فإنَّه لا يُؤذَنُ لهم [1600] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). .
8- في قَولِه تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أنَّ وليَّ الأمرِ يجبُ عليه التَّيسيرُ على مَن تحتَ يدِه [1601] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). .
9- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فيه سؤالٌ: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الإذنُ لِمن شاء، وقولُه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] يُوهِمُ خِلافَ ذلك؟
الجوابُ ظاهِرٌ، وهو أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الإذنُ لِمن شاء مِن أصحابِه الذين كانوا معه على أمرٍ جامعٍ؛ كصلاةِ جُمعةٍ، أو عيدٍ، أو جماعةٍ، أو اجتِماعٍ في مشورةٍ، ونحوِ ذلك، كما بيَّنه تعالى بقَولِه: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور: 62] ، وأمَّا الإذنُ في خُصوصِ التخَلُّفِ عن الجِهادِ، فهو الذي بيَّن اللهُ لِرَسولِه أنَّ الأَولى فيه ألَّا يُبادِرَ بالإذنِ، حتى يتبيَّنَ له الصَّادِقَ في عُذرِه مِن الكاذِبِ، وذلك في قولِه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] ؛ فلا مُنافاةَ بينَ الآياتِ. والعِلمُ عندَ الله تعالى [1602] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص:70، 71). .
10- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ عنايةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بعبادِه المؤمِنين؛ حيث أمَرَ اللهُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَستغفِرَ لهم؛ لِيطمَئِنُّوا على هذا الانصِرافِ [1603] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). .
11- قَولُه تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ فيه انتفاعُ الإنسانِ بدُعاءِ غَيرِه [1604] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 429). .
12- قَولُ الله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا فيه تحريمُ ندائِه صلَّى الله عليه وسلَّم باسمِه، بل يُقالُ: يا رسولَ اللهِ، يا نبيَّ اللهِ. والظَّاهِرُ استِمرارُ ذلك بعد وفاتِه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الآنَ [1605] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 196). ، لكن لا على سبيلِ الاستغاثةِ والدُّعاءِ.
13- إنْ تَرَكَ المُسلِمُ -عالِمًا كان أو غيرَ عالمٍ- ما عَلِم مِن أمرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِقَولِ غَيرِه- كان مُستحِقًّا للعذابِ؛ قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [1606] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/374). .
14- قَولُ الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه دليلٌ على أنَّ الأمرَ المجرَّدَ عن القرائنِ يقتضي الوجوبَ؛ لأنَّه جلَّ وعلا توعَّد المخالفينَ عن أمرِه بالفتنةِ أو العذابِ الأليمِ، وحذَّرهم مِن مخالفةِ الأمرِ، وكلُّ ذلك يقتضي أنَّ الأمرَ للوجوبِ، ما لم يصرِفْ عنه صارفٌ؛ لأنَّ غيرَ الواجبِ لا يستوجبُ تركُه الوعيدَ الشديدَ والتحذيرَ [1607] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/558). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (24/425)، ((تفسير القرطبي)) (12/322)، ((نظم الدرر)) للبِقاعي (13/326). .
15- قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ختَمَ السُّورةَ بتأكيدِ الأمرِ في مُتابعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيُعلَمَ أنَّ أوامِرَه كأوامِرِ القُرآنِ [1608] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/320). .
16- مَنِ استقرأ أحوالَ الفِتَنِ التي تجري بينَ المُسلِمينَ، تبيَّنَ له أنَّه ما دخَلَ فيها أحدٌ فحَمِدَ عاقبةَ دُخولِه؛ لِما يحصُلُ له مِن الضَّرَرِ في دينِه ودُنياه؛ ولهذا كانت مِن بابِ المنهيِّ عنه، والإمساكُ عنها مِن المأمورِ به الذي قال الله فيه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [1609] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/410). .
17- لَمَّا افتتح اللهُ تعالى السورةَ بقَولِه تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا [النور: 1] ، وذكَرَ أنواعًا مِن الأوامِرِ والحدودِ مِمَّا أنزلَه على الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ اختتَمَها بما يجِبُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَّتِه؛ مِن التَّتابُعِ والتَّشايُعِ على ما فيه مَصلحةُ الإسلامِ، ومِن طلَبِ استِئذانِه إنْ عَرَض لأحدٍ منهم عارِضٌ، ومِن توقيرِه في دُعائِهم إيَّاه [1610] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/73). .
18- قال الله تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ في هذه الآيةِ وما في معناها أحسَنُ وعدٍ للمُطيعين، وأشَدُّ وعيدٍ للعُصاةِ المُجرِمينَ [1611] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/561). .
19- قَولُ الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، المرادُ بالمضارعِ هنا وجودُ الوصفِ مِن غيرِ نظرٍ إلى زمانٍ، ولو عبَّر بالماضي لتُوُهِّم الاختصاصُ به [1612] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/327). والقاعدة: أن (قد) إذا دخلت على المضارعِ المُسْنَدِ لله تعالى فهي للتحقيقِ دائمًا. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/395). .
20- قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ في هذه الآيةِ لَطيفةُ الاطِّلاعِ على أحوالِهم؛ لأنَّهم كانوا يَستُرون نِفاقَهم [1613] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/312). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أراد عَزَّ وجَلَّ أنْ يُرِيَهم عِظَمَ الجِنايةِ في ذَهابِ الذَّاهبِ عن مَجلِسِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ بغيرِ إذْنِه إذا كانوا معه على أمْرٍ جامعٍ، فجعَلَ ترْكَ ذَهابِهم حتَّى يَستأذِنوهُ ثالثَ الإيمانِ باللهِ والإيمانِ برسولِه، وجعَلَهما كالتَّقديمِ والتَّوطئةِ له والبِساطِ لذِكْرِه، وذلك مع تَصديرِ الجُملةِ بـ (إنَّما)، وإيقاعِ المُؤمِنين مُبتدَأً مُخبَرًا عنه بمَوصولٍ أحاطت صِلَتُه بذِكْرِ الإيمانينِ، ثمَّ عقَّبَه بما يَزِيدُه تَوكيدًا وتَشديدًا؛ حيث أعادَه على أُسلوبٍ آخَرَ، وهو قولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وضمَّنَه شيئًا آخرَ، وهو: أنَّه جعَلَ الاستئذانَ كالمِصْداقِ لِصِحَّةِ الإيمانينِ، وعرَّضَ بحالِ المُنافِقين وتَسلُّلِهم لِواذًا [1614] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/259)، ((تفسير أبي حيان)) (8/73، 74). .
قولُه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... استئنافٌ جِيءَ به في أواخرِ الأحكامِ السَّابقةِ؛ تَقريرًا لها، وتأكيدًا لوُجوبِ مُراعاتِها، وتَكميلًا لها ببَيانِ بعضٍ آخرَ مِن جِنْسِها، وإنَّما ذكَرَ الإيمانَ باللهِ ورسولِه في حيِّزِ الصِّلةِ للموصولِ الواقعِ خبَرًا للمُبتدَأِ مع تَضمُّنِه له قطعًا؛ تَقريرًا لِمَا قبْلَه، وتَمهيدًا لِمَا بعْدَه، وإيذانًا بأنَّه حقيقٌ بأنْ يُجعَلَ قَرينًا للإيمانِ بهما مُنتظِمًا في سِلْكِه [1615] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/197). .
والقصْرُ المُستفادُ مِن (إنَّما) قصْرُ مَوصوفٍ على صِفَةٍ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [1616] القصرُ -في اصطلاحِ البلاغيينَ-: هو تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأوَّلُ: مقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، وما ضربتُ إلَّا زيدًا. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكون المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصر بالإضافة إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. مثل: قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّـكَة الميداني (1/525). قصْرَ إفرادٍ، أي: لا غيرَ أصحابِ هذه الصِّفةِ مِن الَّذين أظْهَروا الإيمانَ، ولا يَستأذِنون الرَّسولَ عندَ إرادةِ الانصرافِ [1617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/306). .
قولُه: أَمْرٍ جَامِعٍ وصَفَ الأمْرَ بأنَّه جامِعٌ؛ للمُبالَغةِ [1618] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/115)، ((تفسير أبي السعود)) (6/197). .
قولُه: حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، أي: النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الذَّهابِ، لا على أنَّ نفْسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدَمِ الذَّهابِ، بلِ الغايةُ هي الإذْنُ المَنوطُ برأْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاقتصارُ على ذِكْرِه؛ لأنَّه الَّذي يتِمُّ مِن قِبَلِهم، وهو المُعتبَرُ في كَمالِ الإيمانِ، لا الإذْنُ ولا الذَّهابُ المُترتِّبُ عليه، واعتبارُه في ذلك؛ لأنَّه كالمِصْداقِ لصِحَّتِه، والمُميِّزِ للمُخلِصِ فيه عن المُنافقِ؛ فإنَّ دَيدنَه التَّسلُّلُ للفِرارِ، ولتَعظيمِ ما في الذَّهابِ بغيرِ إذْنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الجِنايةِ؛ ولذلك أعادَهُ مُؤكَّدًا على أُسلوبٍ أبلَغَ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فإنَّه يُفِيدُ أنَّ المُستأذِنَ مُؤمِنٌ لا مَحالةَ، وأنَّ الذَّاهبَ بغيرِ إذْنٍ ليس كذلك [1619] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/115)، ((تفسير أبي السعود)) (6/197). .
وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ... إلى آخرِها، تأكيدٌ لقولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ...؛ لأنَّ مَضمونَ معنى هذه الجُملةِ هو مضمونُ معنَى جُملةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ...، وقد تُفنِّنَ في نظْمِ الجُملةِ الثَّانيةِ بتغييرِ أُسلوبِ الجُملةِ الأُولى؛ فجُعِلَ مَضمونُ المُسنَدِ في الأُولى مُسنَدًا إليه في الثَّانيةِ، والمُسنَدُ إليه في الأُولى مُسنَدًا في الثَّانيةِ، ومآلُ الأسلوبينِ واحدٌ؛ لأنَّ المآلَ الإخبارُ بأنَّ هذا هو ذاك، على حدِّ: وشِعْري شِعْري؛ تَنويهًا بشأْنِ الاستئذانِ، وليُبْنَى عليها تفريعُ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ؛ لِيُعْلِمَ المُؤمنين الأعذارَ المُوجِبةَ للاستئذانِ [1620] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/307). ؛ فلمَّا أراد أنْ يُكرِّرَ هذا المعنى تَوكيدًا وتَقريرًا، أعاد المعنى وقلَبَه؛ حيث قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فأفادَ الأوَّلُ حصْرَ المُؤمنين في المُستأذِنين، والثَّاني عكْسَه؛ تَعريضًا بحالِ المُنافِقين وتَسلُّلِهم لِواذًا، وما اكْتَفى بذلك، بل أوقَعَ أُولَئِكَ خبرًا، وعقَّبَه ذِكْرَ الإيمانينِ؛ ليُؤذِنَ بأنَّ أولئك مَحقوقونَ بأنْ يُسَمَّوا مُؤمِنين؛ لِمَا اكْتَسبوا مِن صِفَةِ الاستئذانِ، واجْتَنبوا مِن التَّسلُّلِ الَّذي هو مِن صِفَةِ المُنافِقين [1621] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/158). .
وقولُه: يَسْتَأْذِنُونَكَ فيه: الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ تَشريفًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا الخِطابِ [1622] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/307). .
وفي التَّعبيرِ بقولِه: أُولَئِكَ مِن تَفخيمِ شأْنِ المُستأذِنينَ ما لا يَخْفى [1623] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/197). ؛ فإنَّ (أولاء) اسمُ إشارةٍ يدلُّ على تعظيمِ المشارِ إليه؛ ولهذا جاء بصيغةِ البعيدِ أُولَئِكَ إشارةً إلى علوِّ مرتبتِهم [1624] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 426). .
قولُه: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فيه مُبالَغةٌ وتَضييقُ الأمْرِ، حيث لم يقُلْ: لشأْنِهم [1625] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/115). .
قولُه: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ذِكْرُ الاستغفارِ للمُستأذِنينَ دليلٌ على أنَّ الأحسَنَ والأفضَلَ ألَّا يُحدِّثوا أنفُسَهم بالذَّهابِ ولا يَستأذِنوا فيه؛ ففي تَعقيبِ ذلك بالاستغفارِ تَتميمٌ لمعنَى الكراهةِ منه صلواتُ اللهِ عليه في إذْنِه [1626] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/259)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/160)، ((تفسير أبي حيان)) (8/74). .
قولُه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعليلٌ للمغفرةِ الموعودةِ في ضِمْنِ الأمْرِ بالاستغفارِ لهم [1627] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/198). .
2- قوله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قولُه: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا استئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، وفيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى خِطابِ المُسلِمين؛ لإبرازِ مَزيدِ الاعتناءِ بشأْنِه، وحثًّا على تلَقِّي الجُملةِ بنَشاطِ فَهْمٍ؛ فالخِطابُ للمُؤمنين الَّذين تحدَّثَ عنهم بقولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ  ... [1628] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/309). [النور: 62] .
وقولُه: بَيْنَكُمْ أفاد التَّعريضَ بالمُنافِقين الَّذين تمالَؤُوا بيْنهم على التَّخلُّفِ عن رسولِ اللهِ إذا دعاهم كلَّما وَجَدوا لذلك سبيلًا [1629] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/309). .
قولُه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا استئنافُ تَهديدٍ للَّذين كانوا سبَبَ نُزولِ آيةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ... الآيةَ، أي: أولئك المُؤمِنون، وضِدُّهم المُعرَّضُ بهم ليسوا بمُؤمِنين. وقَدْ لتَحقيقِ الخبَرِ؛ لأنَّهم يظُنُّون أنَّهم إذا تَسلَّلوا مُتَستِّرينَ لم يَطَّلِعْ عليهم النَّبيُّ، فأعلَمَهم اللهُ أنَّه عَلِمَهم، أي: أنَّه أعلَمَ رسولَه بذلك [1630] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/310). .
والفاءُ في قولِه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ... لتَرتيبِ الحذَرِ أو الأمْرِ به على ما قبْلَها مِن عِلْمِه تعالى بأحوالِهم؛ فإنَّه ممَّا يُوجِبُ الحذَرَ الْبَتَّةَ [1631] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/310). . والفِعلُ المُضارِعُ يُخَالِفُونَ يُفِيدُ معنَى الدَّأبِ والعادةِ، وقد أُقِيمَ المُظهَرُ مَوضِعَ المُضمَرِ مِن غيرِ لفْظِه السَّابقِ وهو قولُه: أَمْرٍ جَامِعٍ؛ عِلَّةً لاستحقاقِهم فِتنةَ الدَّارينِ [1632] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/163). .
وأيضًا في قولِه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ  ... عُدِّيَ الفِعْلُ (خالَفَ) بـ (عَنْ) مع أنَّه يتعدَّى بنفْسِه؛ قيل: لأنَّه ضمَّنَ (خَالَفَ) معنى (أعرَضَ) أو (عدَلَ)، فعدَّاهُ تَعديتَه، أو (عن) مُتعلِّقٍ بمَحذوفٍ تَقديرُه: أو ويَعدِلون عن أمْرِه. وقيل: يُخَالِفُونَ مُتضمِّنٌ معنَى (يصُدُّون)، أي: الَّذين يصُدُّون عن أمْرِه دونَ المُؤمِنين؛ فحُذِفَ المَفعولُ لأنَّ الغرَضَ تَقبيحُ أمْرِ المُخالِفِ، وتعظيمُ أمْرِ المُخالَفِ عنه، فذكَرَ الأهمَّ، وترَكَ ما لا اهتمامَ به. وقيل: هي زائدةٌ [1633] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/260)، ((تفسير البيضاوي)) (4/116)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/162)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 401)، ((تفسير أبي السعود)) (6/198). . وقيل: حُذِفَ مَفعولُه هنا؛ لظُهورِ أنَّ المُرادَ: الَّذين يُخالِفون اللهَ، وتَعديةُ فِعْلِ المُخالَفةِ بحرفِ (عن)؛ لأنَّه ضُمِّنَ معنى الصُّدودِ، ولو تُرِكَت تَعديتُه بحرفِ جرٍّ، لَأفادَ أصْلَ المُخالَفةِ في الغرَضِ المَسوقِ له الكلامُ [1634] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/311). . وقيل: عدَّى يُخَالِفُونَ بـ (عن)؛ لِمَا في المُخالَفةِ مِن معنى التَّباعُدِ والحَيدِ، كأنَّه قال: الَّذينَ يَحِيدون عن أمْرِه بالمُخالَفةِ، وهو أبلَغُ مِن إذا قِيل: يُخالِفون أمْرَه [1635] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/162). .
قولُه: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه إعادةُ فِعْلِ الإصابةِ صَريحًا؛ للاعتناءِ بالتَّهديدِ والتَّحذيرِ [1636] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/198، 199). .
3- قولُه تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذييلٌ لِمَا تقدَّمَ في هذه السُّورةِ كلِّها. وافتتاحُه بحَرفِ التَّنبيهِ أَلَا إيذانٌ بانتهاءِ الكلامِ، وتَنبيهٌ للنَّاسِ لِيَعُوا ما يَرِدُ بعدَ حَرفِ التَّنبيهِ [1637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/311). .
وقولُه: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا فيه تَهديدٌ ووَعيدٌ. وأُدْخِلَ (قد)؛ ليُؤكِّدَ عِلْمَه بما هم عليه مِن المُخالَفةِ عن الدِّينِ والنِّفاقِ [1638] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/260، 261)، ((تفسير البيضاوي)) (4/116)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/165)، ((تفسير أبي حيان)) (8/76، 77). .
وفي قولِه: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا تَعليقُ عِلْمِه تعالى بيَومِ رُجوعِهم لا برُجوعِهم؛ لزِيادةِ تَحقيقِ عِلْمِه تعالى بذلك، وغايةُ تَقريرِه؛ لِمَا أنَّ العِلْمَ بوقتِ وُقوعِ الشَّيءِ مُستلزِمٌ للعِلْمِ بوُقوعِه على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه، وفيه إشعارٌ بأنَّ عِلْمَه تعالى لنفْسِ رُجوعِهم مِن الظُّهورِ بحيث لا يَحتاجُ إلى البَيانِ قطْعًا [1639] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/199). .
والخِطابُ والغَيبةُ في قولِه: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوزُ أنْ يكونَا جميعًا للمُنافِقين على طريقِ الالْتفاتِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عامًّا، ويُرْجَعُونَ للمُنافِقين؛ فيكونَ تَسليةً ووَعْدًا بالنِّسبةِ إلى المُؤمنين، وتَهديدًا بالنِّسبةِ إلى المُنافِقين، وتَخويفًا في الدُّنيا، ووَعيدًا في العُقْبى خاصًّا في حقِّ المُنافِقين؛ لأنَّ قولَه: فَيُنَبِّئُهُمْ يأْبَى أنْ يُنزَّلَ على المُؤمِنين؛ ولذلك غُيِّرَ التَّغليبُ في الخِطابِ بـ أَنْتُمْ إلى الغَيبةِ في فَيُنَبِّئُهُمْ ويجوزُ أيضًا كونُ كلٍّ منهما عامًّا [1640] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/260، 261)، ((تفسير البيضاوي)) (4/116)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/165)، ((تفسير أبي حيان)) (8/76، 77). .
وقيل على اعتبارِ العمومِ في الخطابِ والغَيبةِ: أعرَض عنهم تهويلًا للأمرِ. وعلى القول بأنَّه خاصٌّ بالمتولِّينَ المعرضينَ يكونُ ذلك إشارةً إلى أنَّهم يُناقَشون الحسابَ، ويكونُ سرُّ الالتفاتِ: التنبيهَ على الإعراضِ عن المكذِّبِ بالقيامةِ، والإقبالِ على المصَدِّقِ؛ صَونًا لنفيسِ الكلامِ، عن الجفاةِ الأغبياءِ اللئامِ [1641] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/327). ، بالإضافةِ إلى أنَّ هذا الالتفاتَ فيه تنبيهٌ للمخاطَبِ، بخلافِ ما إذا كان الأُسلوبُ على نسقٍ واحدٍ [1642] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 442). .
وقولُه: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا كِنايةٌ عن الجَزاءِ؛ لأنَّ إعلامَهم بأعمالِهم لو لم يكُنْ كِنايةً عن الجزاءِ لَمَا كانت له جَدْوى [1643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/312). .
قولُه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذييلٌ لجُملةِ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؛ لأنَّه أعَمُّ منه [1644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/312). .