موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (120-121)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

نَصَبٌ: أي: تَعَبٌ ومشَقَّةٌ [2067] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 807)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 149)، ((تفسير القرطبي)) (8/290)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234). .
مَخْمَصَةٌ: أي: مَجاعةٌ، مُشتقَّةٌ مِن خَمَصِ البَطنِ، أي: ضُمورِه، وأصلُ (خمص): يدلُّ على الضُّمرِ والتَّطامُنِ [2068] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 414)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/219)، ((المفردات)) للراغب (ص: 299)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 149)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
مَوْطِئًا: أي: أرضًا، أو مَنزِلًا، وأصلُ (وطأ): يدلُّ على تمهيدِ شَيءٍ وتَسهيلِه [2069] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/120)، ((تفسير القرطبي)) (8/291)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234). .
نَيْلًا: أي: قتلًا وهزيمةً أو أَسْرًا، وأصلُ (نيل): ما ينالُه الإنسانُ بِيَدِه [2070] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 829)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 149)، ((تفسير القرطبي)) (8/291). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ تعالى أنَّه ما كان ينبغي لأهلِ المَدينةِ ومَن حولَهم مِن سُكَّانِ البادِيةِ أن يتخَلَّفوا عن الخُروجِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ، ولا يترَفَّعوا بأنفُسِهم عن نَفسِه، ويَرضَوا لأنفُسِهم بالرَّاحةِ، وهو في تعَبٍ ومشقَّةٍ، ما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنَّه لا يُصيبُهم مِن عَطَشٍ ولا تعبٍ ولا مجاعةٍ شَديدةٍ في سبيلِ اللهِ، ولا يَطَؤونَ أرضًا يُغضِبُ الكُفَّارَ وَطؤُهم إيَّاها، ولا يُصيبونَ مِن عَدُوِّهم شيئًا مِن قَتلٍ أو هزيمةٍ ونحوِها، إلَّا كَتَبَ اللهُ لهم بذلك عمَلًا صالحًا؛ إنَّ اللهَ لا يضيعُ أجْرَ المُحسِنينَ.
ولا يُنفِقونَ نَفَقةً صَغيرةً ولا كبيرةً، ولا يقطعونَ في غَزوِهم واديًا، إلَّا كُتِبَ لهم ثوابُ ذلك؛ ليجزيَهم الله عليه، كأحسنِ ما يجزيهم على أحسنِ أعمالِهم التي كانوا يعملونها.

تفسير الآيتين:

مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بِقَولِه: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بوجوبِ الكونِ في مُوافَقةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في جميعِ الغَزَواتِ والمَشاهِدِ، أكَّدَ ذلك، فنهَى في هذه الآيةِ عن التخَلُّفِ عنه [2071] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/169). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ المُؤمِنينَ بتَقوى اللهِ، وأمَرَ بكَينونَتِهم مع الصَّادِقينَ، وأفضَلُ الصَّادِقينَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ المُهاجِرونَ والأنصارُ؛ اقتضى ذلك مُوافَقةَ الرَّسولِ وصُحبَتَه أنَّى توجَّهَ مِن الغَزَواتِ والمَشاهِدِ، فعُوتِبَ العِتابَ الشَّديدَ مَن تخلَّفَ عن الرَّسولِ في غَزوةٍ، واقتضى ذلك الأمرَ لِصُحبَتِه، وبذلَ النُّفوسِ دُونَه [2072] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/522). .
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ.
أي: ما كان ينبغي للمُسلِمينَ مِن سُكَّانِ مَدينةِ النبيِّ ومَن حولَهم مِن سُكَّانِ البوادي أنْ يتخَلَّفوا عن الخُروجِ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةِ تَبوكَ [2073] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير ابن عطية)) (3/95)، ((تفسير الرازي)) (16/169)، ((تفسير القرطبي)) (8/290)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/55). قال ابن الجوزي: (ذهب طائفةٌ من المفَسِّرينَ إلى أنَّ هذه الآيةَ اقتضَتْ أنَّه لا يجوزُ لأحدٍ أن يتخَلَّفَ عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا كان في أوَّلِ الأمْرِ، ثمَّ نُسِخَ ذلك بقولِه: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] ، قال أبو سليمان الدمشقي: لكلِّ آيةٍ وَجْهُها، وليس للنَّسخِ على إحدى الآيتَينِ طَريقٌ. وهذا هو الصَّحيحُ). ((نواسخ القرآن)) (2/475). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/73)، ((الناسخ والمنسوخ)) للنحاس (ص: 527)، ((تفسير القرطبي)) (8/292)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/61). .
وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ.
أي: وما كان ينبغي لهم أن يتَرَفَّعوا بأنفُسِهم عن نَفسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في صُحبَتِه في الجِهادِ، ويَرضَوا لأنفُسِهم بالرَّاحةِ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تعَبٍ ومَشقَّةٍ [2074] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير ابن عطية)) (3/95)، ((تفسير القرطبي)) (8/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/56). قال ابنُ عاشورٍ: (أُريدَ برَغبَتِهم عن نَفْسِه محَبَّتُهم أنفُسَهم، وحِرصُهم على سلامَتِها، دون الحِرصِ على سلامةِ نَفسِ الرَّسولِ، فكأنَّهم رَغِبوا عن نفسِه؛ إذ لم يخرُجوا معه مُلابِسينَ لأنفُسِهم، أي: محتفظينَ بها؛ لأنَّهم بمقدارِ مَن يتخَلَّف منهم يزدادُ تعَرُّضُ نَفسِ الرَّسولِ مِن التَّلَفِ قُربًا، فتخَلُّفُ واحدٍ منهم عن الخروجِ معه عَونٌ على تقريبِ نَفسِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن التَّلَف). ((تفسير ابن عاشور)) (11/56). !
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ.
أي: ما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنَّه لا يصيبُهم في الجهادِ مِن عَطَشٍ ولا تَعَبٍ [2075] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((البسيط)) للواحدي (11/89)، ((تفسير ابن عطية)) (3/95)، ((تفسير القرطبي)) (8/290)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: ولا يُصيبُهم مِن مجاعةٍ شَديدةٍ في جهادِهم لإعلاءِ كَلِمةِ الله [2076] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير الرازي)) (16/169)، ((تفسير القرطبي)) (8/291)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ.
أي: ولا تَصِلُ أقدامُهم إلى أرضٍ يغضَبُ الكفَّارُ مِن وُصولِهم إليها [2077] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((البسيط)) للواحدي (11/90)، ((تفسير ابن عطية)) (3/96)، ((تفسير القرطبي)) (8/291)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/56). .
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً.
أي: ولا يُصيبونَ من الكفَّارِ مِن شَيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ؛ من قتلٍ أو جراحٍ أو أسْرٍ، أو غنيمةٍ أو هزيمةٍ [2078] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير ابن عطية)) (3/96)، ((تفسير الرازي)) (16/169)، ((تفسير القرطبي)) (8/291)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ.
أي: إلَّا كتَبَ اللهُ لهم بهذه الأعمالِ أعمالًا صالحةً [2079] قال ابن عاشور: (معنى: كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ أن يُكتَبَ لهم بكلِّ شَيءٍ مِن أنواعِ تلك الأعمالِ عمَلٌ صالِحٌ، أي: جعَلَ اللهُ كُلَّ عمَلٍ من تلك الأعمالِ عمَلًا صالحًا، وإن لم يَقصِدْ به عامِلوه تقرُّبًا إلى الله؛ فإنَّ تلك الأعمالَ تَصدُرُ عن أصحابِها وهم ذاهِلونَ في غالبِ الأزمانِ أو جميعِها عن الغايةِ منها، فليست لهم نيَّاتٌ بالتقَرُّبِ بها إلى الله، ولكِنَّ اللهَ تعالى بفَضْلِه جعَلَها لهم قُرُباتٍ باعتبارِ شَرَفِ الغايةِ منها، وذلك بأنْ جعَلَ لهم عليها ثوابًا، كما جعل للأعمالِ المقصودِ بها القُربةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/57). وثوابًا جزيلًا [2080] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير الرازي)) (16/169)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الخيلُ ثلاثةٌ: هي لرَجُلٍ وِزرٌ، وهي لِرَجُلٍ سِترٌ، وهي لرجُلٍ أجْرٌ، فأمَّا التي هي له وِزرٌ، فرَجُلٌ ربَطَها رياءً وفَخرًا ونِواءً [2081] نِوَاءً: أي: مُناوأةً ومُعاداةً. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/66). على أهلِ الإسلامِ، فهي له وِزرٌ، وأمَّا التي هي له سِترٌ، فرجلٌ رَبَطَها في سبيلِ اللهِ، ثمَّ لم ينسَ حَقَّ اللهِ في ظُهورِها ولا رِقابِها، فهي له سِترٌ، وأمَّا التي هي له أجرٌ، فرَجُلٌ ربَطَها في سبيلِ اللهِ لأهلِ الإسلامِ، في مَرجٍ وَرَوضةٍ [2082] في مَرْجٍ: أي: مَرعًى، وهو الأرضُ الواسعةُ ذاتُ النَّباتِ الكثيرِ، (ورَوْضةٍ) عطفُ تفسيرٍ، أو الرَّوضةُ أخصُّ مِن المَرعَى. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (4/1265). ، فما أكلَتْ من ذلك المَرجِ أو الرَّوضةِ مِن شَيءٍ إلَّا كُتِبَ له عددَ ما أكَلَت حَسَناتٌ، وكُتِبَ له عددَ أرواثِها وأبوالِها حَسَناتٌ، ولا تَقطَعُ طِوَلَها [2083] طِوَلَها: أي: حَبلَها الطَّويلَ الذي شُدَّ أحَدُ طَرَفيه في يَدِ الفَرَسِ، والآخَرُ في وَتِدٍ أو غيرِه؛ لِتَدورَ فيه وترعى من جوانِبِها، ولا تذهبَ لِوَجهِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للمُلا الهروي (4/1266). ، فاستَنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفينِ [2084] استَنَّت: أي: جَرَت. وشَرَفًا: أي: شَوطًا أو مَوضِعًا عاليًا مِن الأرضِ. يُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (3/492)، ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (4/1266). ، إلَّا كتَبَ اللهُ له عدَدَ آثارِها وأرْواثِها حَسَناتٍ، ولا مَرَّ بها صاحِبُها على نهرٍ فشَرِبَت منه، ولا يريدُ أن يسقِيَها، إلَّا كتَبَ اللهُ له عدَدَ ما شَرِبَت حسناتٍ )) [2085] رواه البخاري (2860)، ومسلم (987) واللفظ له. .
إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
أي: يُؤتَونَ تلك الأجورَ؛ لأنَّهم مُحسِنونَ، واللهُ لا يترُكُ إثابةَ مُحسِنٍ في عبادةِ اللهِ، مُحسِنٍ إلى عبادِ اللهِ [2086] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/71)، ((تفسير أبي السعود)) (4/111)، ((تفسير القاسمي)) (5/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
وقال سُبحانه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] .
وقال عزَّ وجَلَّ: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 56] .
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها عَطفٌ على جُملةِ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو انتقالٌ مِن عِدادِ الكُلَفِ التي تَصدُرُ عنهم بلا قَصدٍ، في سبيلِ اللهِ، إلى بعضِ الكُلَفِ التي لا تخلو عن استشعارِ مَن تحُلُّ بهم بأنَّهم لَقُوها في سبيلِ اللهِ، فالنَّفقةُ في سبيلِ اللهِ لا تكونُ إلَّا عن قَصدٍ، يتذكَّرُ به المُنفِقُ أنَّه يسعى إلى ما هو وسيلةٌ لِنَصرِ الدِّينِ [2087] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/57-58). .
وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ.
أي: ولا يُنفِقُ الغازونَ في سبيلِ اللهِ نَفقةً صَغيرةً ولا نَفَقةً كَبيرةً، ولا يُجاوِزونَ في غَزْوِهم واديًا ذاهِبينَ أو راجعينَ، إلَّا كُتِبَ لهم ثوابُ ذلك [2088] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/75)، ((البسيط)) للواحدي (11/92)، ((تفسير ابن كثير)) (4/234، 235)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/58). .
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ جَبرٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما اغبَرَّت قدَمَا عبدٍ في سبيلِ الله فتمَسَّه النَّارُ )) [2089] رواه البخاري (2811). .
لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي:كُتِب لهم ثوابُ عملِهم ذلك؛ ليَجْزيَهم الله عليه، كأحْسنِ ما يَجزيهم على أحسنِ أعمالِهم التي كانوا يعملونها [2090] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/75).  ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (3/101)، ((تفسير النسفي)) (1/717)، ((تفسير الشوكاني)) (2/473)، ((تفسير القاسمي)) (5/528)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/62). قال الواحدي: (قال أكثر المفسِّرينَ: هذه الآيةُ خاصَّةٌ في صُحبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخروجِ معه، وقال الأوزاعي، وابن المبارك: هي لآخِرِ هذه الأمَّةِ وأوَّلِها). ((البسيط)) (11/92). قال الرازي: (قال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وفيه وجهان: الأول: أنَّ الأحسَنَ مِن صِفةِ فِعْلِهم، وفيها الواجِبُ والمندوبُ والمباحُ، واللهُ تعالى يَجزِيهم على الأحسَنِ، وهو الواجِبُ والمندوبُ، دون المُباحِ. والثاني: أنَّ الأحسَنَ صِفةٌ للجَزاءِ، أي: يَجزِيهم جزاءً هو أحسَنُ مِن أعمالِهم وأجَلُّ وأفضَلُ، وهو الثَّوابُ). ((تفسير الرازي)) (16/170). وقال محمد رشيد رضا: (النَّصُّ على جزائِهم أحسَنَ ما كانوا يعملونَ، لا ينافي جزاءَهم بما دونَه، وقد قال آنفًا: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وهو فيه، وإنَّما المرادُ النصُّ على أنَّ هذا العمَلَ أحسَنُ أعمالِهم أو مِن أحسَنِها؛ لأنَّه جمَعَ بين الجهادِ بالمالِ، والجِهادِ بالنَّفسِ، وما قَبلَه من الثَّاني فقط، والجزاءُ على الأحسَنِ يكونُ أحسَنَ منه، على قاعدةِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل: 89] وبيانُ ذلك بقاعدةِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] وقال بعضُهم: إنَّ معنى الجملةِ أنَّه تعالى يَجزيهم بكُلِّ عمَلٍ ممَّا ذُكِرَ أحسَنَ جَزاءٍ على أعمالِهم الحَسَنةِ، أي: في غيرِ الجهاد بالمالِ والنَّفسِ، بأن تكونَ النَّفَقةُ الصغيرةُ فيه كالنَّفَقةِ الكبيرةِ في غيره مِن المبَرَّاتِ، والمشَقَّةُ القليلةُ فيه كالمشَقَّةِ الكثيرةِ فيما عداه من الأعمالِ الصَّالحاتِ). ((تفسير المنار)) (11/62). .
كما قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ مَن قصَدَ طاعةَ اللهِ، كان قيامُه وقُعودُه ومِشيَتُه وحَرَكتُه وسُكونُه، كلُّها حَسَناتٍ مكتوبةً عند الله، وكذا القَولُ في طَرَفِ المَعصيةِ، فما أعظَمَ بَرَكةَ الطاعةِ، وما أعظَمَ شُؤمَ المَعصيةِ [2091] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/169). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ فيه أشَدُّ تَرغيبٍ وتَشويقٍ للنُّفوسِ إلى الخُروجِ إلى الجهادِ في سَبيلِ الله، والاحتساب لِمَا يُصيبُهم فيه من المشَقَّاتِ، وأنَّ ذلك لهم رفعةُ دَرَجاتٍ، وأنَّ الآثارَ المترتِّبةَ على عملِ العبدِ، له فيها أجرٌ كبيرٌ [2092] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:355). .
3- النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَولَى بالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، فعلى كلِّ مُسلِمٍ أن يَفدِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِنَفسِه، ويُقَدِّمَه عليها؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [2093] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:355). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أُمِروا بأن يَصحَبوه على البأساءِ والضَّرَّاءِ، وأن يُكابِدوا معه الأهوالَ بِرَغبةٍ ونَشاطٍ واغتِباطٍ، وأن يُلَقُّوا أنفُسَهم من الشَّدائِد ما تَلقاه نَفْسُه، عِلمًا بأنَّها أعزُّ نَفسٍ عندَ اللهِ وأكرَمُها عليه، فإذا تعَرَّضَت مع كرامَتِها وعِزَّتِها للخَوضِ في شِدَّةٍ وهَولٍ، وجَبَ على سائِرِ الأنفُسِ أن تتهافَتَ فيما تعَرَّضَت له، ولا يكتَرِثَ لها أصحابُها ولا يُقيموا لها وزْنًا، وتكون أخَفَّ شَيءٍ عليهم وأهوَنَه، فضلًا عن أن يَربَؤوا بأنفُسِهم عن مُتابَعتِها ومُصاحَبتِها، ويَضِنُّوا بها على ما سَمَحَ بنَفسِه عليه [2094] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/321). ، ففي قَولِه تعالى: وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ دَلالةٌ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أولى بالمُؤمِنينَ مِن أنفُسِهم، ومِن حقِّه أنَّه يجبُ أنْ يُؤثِرَه العطشانُ بالماءِ، والجائِعُ بالطَّعامِ، وأنَّه يجبُ أنْ يُوقَى بالأنفُسِ والأموالِ، وعُلِمَ بهذا أنَّ رغبةَ الإنسانِ بنَفْسِه أنْ يُصيبَه ما يُصيبُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن المشقَّةِ معه- حَرامٌ [2095] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 421). .
2- قَولُ الله تعالى: وَلَايَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لعلَّه قلَّلَهم بصيغةِ القِلَّةِ [2096] جمعُ القِلَّة: ما وُضعَ للعددِ القليلِ، وهو مِن الثَّلاثةِ إلى العَشرةِ، كأحمالٍ. ولجموع القِلَّة أربعةُ أوزانٍ، هي: أفعُل (كأنفُس)، وأفعال (كأجداد)، وأفعِلَة  (كأعمدة)، وفِعْلَة (كفِتْيَة). يُنظر: ((جامع الدروس العربية)) للدماميني (2/28). بالنِّسبةِ إلى من أيَّدَه به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جُنودِه [2097] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/44). .
3- قَولُ الله تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمَّا كان العطَشُ أشَقَّ الأشياءِ المُؤذيةِ للمُسافِرِ بكَثرةِ الحَرَكةِ، وإزعاجِ النَّفسِ-وخصوصًا في شِدَّةِ الحَرِّ كغزوة تَبُوكَ- بُدِئَ به أوَّلًا، وثنَّى بالنَّصَبِ وهو التَّعَب؛ لأنَّه الكَلالُ الذي يلحَقُ المُسافِرَ، والإعياءُ النَّاشِئُ عن العطَشِ والسَّيرِ، وأتَى ثالثًا بالجُوعِ؛ لأنَّه حالةٌ يُمكِنُ الصَّبرُ عليها الأوقاتَ العديدةَ، بخلافِ العطَشِ والنَّصَبِ المُفضِيَينِ إلى الخلودِ والانقطاعِ عَن السَّفرِ، فكان الإخبارُ بما يَعرِضُ للمُسافِرِ أوَّلًا فثانيًا فثالثًا [2098] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/523). .
4- كلُّ ما يُؤلِمُ النُّفوسَ، ويَشُقُّ عليها، فإنَّه كفَّارةٌ للذُّنوبِ، وإنْ لم يكُنْ للإنسانِ فيه صُنعٌ ولا تسَبُّبٌ، كالمَرَضِ وغيره، كما دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ على ذلك، وأمَّا إن كان ناشِئًا عن فِعْلٍ هو طاعةٌ لله، فإنَّه يُكتَبُ لصاحِبِه به أجرٌ، وتُرفَعُ به دَرَجات، كالألمِ الحاصِلِ للمُجاهِدِ في سبيلِ الله تعالى؛ قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ [2099] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/17). .
5- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ استدَلَّ به من قال: إنَّ الفارِسَ يستحِقُّ سَهمَ الفَرَسِ بدُخولِ أرضِ الحَربِ، لا بالحيازةِ؛ لأنَّ وَطءَ دِيارِهم يُدخِلُ عليهم الذُّلَّ [2100] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:145). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ دَلالةٌ على أنَّ مُغايظةَ الكُفَّارِ غايةٌ مَحبوبةٌ للرَّبِّ مَطلوبةٌ له [2101] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/241). .
7- قَولُ الله تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لَمَّا كان ربَّما تعنَّتَ مُتعَنِّتٌ فجعَلَ ذِكرَ (الصغيرة) قيدًا، قال: وَلَا كَبِيرَةً إعلامًا بأنَّه مُعتَدٌّ به؛ لئَلَّا يُترَكَ [2102] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/46). .
8- قال اللهُ تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ولم يقُل هاهنا «به» لأنَّ هذه أفعالٌ صادرةٌ عنهم [2103] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/235). .
9- قَولُه تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هذا يدُلُّ على أنَّ الجِهادَ مِن أحسَنِ أعمالِ العِبادِ [2104] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/92). . وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قولُه: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا... الآيةَ، استِئنافٌ ابتِدائيٌّ، وفيه تَعريضٌ بالَّذين تَخلَّفوا مِن أهلِ المدينةِ ومِن الأعرابِ [2105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/55). .
وصِيغةُ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ خبرٌ مستعمَلٌ في إنشاءِ الأمرِ على طَريقِ المبالَغةِ؛ إذ جعَل التَّخلُّفَ ليس مِمَّا ثبَت لهم؛ فهُم بُرآءُ مِنه، فيَثبُتُ لهم ضِدُّه، وهو الخروجُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم إذا غزَا [2106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/55). .
وخصَّ أهلَ المدينةِ ومَن حولَهم مِن الأعرابِ بالذِّكرِ معَ أنَّ كلَّ النَّاسِ في ذلك سواءٌ؛ لِقُربِهم مِنه، وأنَّه لا يَخْفى علَيهِم خُروجُه [2107] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/523). .
قولُه: ولَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ نهىٌ بليغٌ، معَ تقبيحٍ لأمرِهم، وتوبيخٍ لهم علَيه، وتهييجٍ لِمُتابعتِه بأنَفةٍ وحَميَّةٍ [2108] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/321)، ((تفسير أبي حيان)) (5/522). .
والباءُ في قولِه: بِأَنْفُسِهِمْ للمُلابَسةِ، حيثُ نزلَ الضَّنُّ بالأنفُسِ والحذَرُ مِن هَلاكِها بالتَّلبُّسِ بها في شدَّةِ التَّمكُّنِ؛ فاستُعمِلَ له حرفُ باءِ الملابَسةِ، وهذه ملابَسةٌ خاصَّةٌ، وإن كانَت النُّفوسُ في كلِّ حالٍ مُتلَبَّسًا بها، وهذا تركيبٌ بديعُ الإيجازِ، بالغُ الإعجازِ [2109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/56). .
قولُه: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، بَدَأ في هاتَين الجملتَين بالأسبَقِ وهو الوَطْءُ، ثُمَّ ثَنَّى بالنَّيل مِن العدوِّ، وجاء العمومُ في الْكُفَّارَ بالألفِ واللَّامِ، وفي مِنْ عَدُوٍّ؛ لِكَونِه نكرة في سياقِ النَّفيِ، وبُدِئ أوَّلًا في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِما يَحُضُّ المسافِرَ في الجهادِ في نفسِه، ثمَّ ثانيًا بما يترتَّبُ على تَحمُّلِ تلك المشاقِّ مِن غيظِ الكفَّارِ، والنَّيلِ مِن العدوِّ [2110] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/523- 524). .
وقولُه: وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا فيه تنكيرُ نَيْلًا؛ لِيَعُمَّ القليلَ والكثيرَ ممَّا يَسوؤُهم؛ قتلًا وأَسرًا وغنيمةً وهزيمةً [2111] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/523). .
قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ لـ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، وتنبيهٌ على أنَّ الجهادَ إحسانٌ [2112] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/101). ، وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ تذييلٌ دلَّ على أنَّهم كانوا بتِلكَ الأعمالِ مُحسِنين، فدخَلوا في عُمومِ قضيَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بوجهِ الإيجازِ [2113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/57). .
وفيه وضعُ المُظهَرِ موضِعَ المُضمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (لا يُضِيعُ أجْرَهم)- لِمَدْحِهم، والشَّهادةِ عليهم بالانتِظامِ في زُمرةِ المُحسِنين، وأنَّ أعمالَهم مِن قَبيلِ الإحسانِ [2114] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/111). .
2- قولُه تعالى: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
قولُه: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ فيه إطنابٌ في عدِّ مَناقِبِهم في الغَزوِ؛ لِتَصويرِ ما بذَلوه في سَبيلِ اللهِ، والنَّفقةُ الكبيرةُ أدخَلُ في القَصْدِ؛ فلِذلك نبَّه عليها وعلى النَّفقةِ الصَّغيرةِ؛ لِيُعْلِمَ بذِكْرِ الكَبيرةِ حُكْمَ النَّفقةِ الصَّغيرةِ؛ لأنَّ العِلَّةَ في الكبيرةِ أظهَرُ [2115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/58). ، وإنَّما قدَّم الصَّغيرةَ على سَبيلِ الاهتِمامِ، وإذا كتَب أجْرَ الصَّغيرةِ فأَحْرى أجرُ الكبيرةِ [2116] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/96)، ((تفسير أبي حيان))(5/524). .
قولُه: وَلاَ كَبِيرَةً فيه تَوسيطُ (لَا)؛ للتَّنصيصِ على استِبْدادِ كُلٍّ مِنهما بالكَتْب والجَزاءِ، لا لِتَأكيدِ النَّفيِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا [2117] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/111). .
قَولُ الله تعالى: وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا الوادي: هو مَسيلُ الماءِ في مُنفَرَجاتِ الجِبالِ وأغوارِ الآكامِ، خَصَّه بالذِّكرِ؛ لِمَا فيه من المشَقَّةِ [2118] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/61). .
قولُه: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ في ذِكْرِ كَانُوا والإتيانِ بخبَرِها مُضارِعًا يَعْمَلُونَ: إفادةُ أنَّ مِثْلَ هذا العمَلِ كان دَيدنَهم [2119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/58). .
وفي هذه الآيةِ: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في الآيةِ السَّابقةِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَل صَالِحٌ، وقال بعدَها في هذه الآيةِ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بدونِ (عَمَلٌ صَالِحٌ)؛ وذلك لأنَّ ما في الآيةِ الأولى مُشتمِلٌ على ما هو مِن عَملِهم، وهو قولُه: وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغيظُ الكُفَّارَ...، وعلى ما ليس مِن عَملِهم، وهو قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ...؛ فتفَضَّل اللهُ بإجرائِه مُجْرى عمَلِهم في الثَّوابِ؛ فناسبَ ذلك زيادةُ قولِه بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ؛ ولهذا عمَّ عَقِبَه في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وأمَّا ما ذُكِرَ في الآيةِ الثَّانيةِ هنا، فهو مُختَصٌّ بما هو مِن عمِلِهم، وهو قولُه: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً...؛ ليُكتَبَ لهم ذلك بِعَينِه؛ ولهذا خَصَّهم عَقِبه في قولِه: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [2120] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/241- 242). ، فالفَرقُ بينهما: أنَّ الأوَّلَ ليس مِن فِعْلِهم، وإنَّما تولَّدَ عنه، فكُتِبَ لهم به عمَلٌ صالِحٌ، والثَّاني نفسُ أعمالِهم، فكُتِبَ لهم [2121] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 205)، ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/522). .
وأيضًا تَأخَّرَت هاتانِ الجُملَتانِ: وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، وقُدِّمَت تلك الجُمَلُ السَّابقةُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ؛ لأنَّها أشَقُّ على النَّفسِ، وأنْكَى في العدوِّ، وهاتانِ أهوَنُ؛ لأنَّهما في الأموالِ وقَطْعِ الأرضِ إلى العدُوِّ، سواءٌ حصَل غيظُ الكفَّارِ والنَّيلُ مِن العدوِّ أوْ لَم يَحصُلا، فهذا أعَمُّ وتلك أخَصُّ، وكان تعليلُ تلك آكَدَ؛ إذ جاء بالجُملةِ الاسميَّةِ المؤكَّدةِ بـ(إنَّ)، وذكَر فيه الأجْرَ ولفْظَ (الْمُحْسِنِينَ)؛ تنبيهًا على أنَّهم حازوا رُتَبَ الإحسانِ الَّتي هي أعلى رُتَبِ المؤمِنين، وفي هاتَينِ الجُملَتَينِ أتَى بِلامِ العِلَّةِ، وهي مُتعلِّقةٌ بـ(كُتِبَ)، والتَّقديرُ: أحسَنُ جَزاءِ الَّذي كانوا يَعمَلون؛ لأنَّ عمَلَهم له جزاءٌ حسَنٌ، وله جزاءٌ أحسَنُ، وهنا الجزاءُ أحسنُ جزاءٍ [2122] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/524). .