موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (92-98)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات :

السَّدَّيْنِ: أي: الجَبَلين، وأصلُ (سدد): يدُلُّ على رَدمِ شَيءٍ ومُلاءمتِه [1391] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 270)، ((تفسير ابن جرير)) (15/386)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/66)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 522).   .
خَرْجًا: أي: جُعْلًا وأجرًا، وأصلُ (خرج): يدُلُّ على النَّفاذِ عن الشَّيءِ؛ لأنَّه مالٌ يُخرِجُه المُعطي [1392] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 208- 209)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/175)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437).   .
رَدْمًا: أي: حاجِزًا حَصينًا، وأصلُ (ردم): يدلُّ على سدِّ الثُّلمةِ (أي: الفراغِ، أو: الشقِّ) [1393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/404)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/504)، ((المفردات)) للراغب (ص: 350)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484).   .
زُبَرَ الْحَدِيدِ: أي: قِطَعَه الضَّخمةَ العَظيمةَ، واحِدُها: زُبْرةٌ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على الاجتِماعِ؛ لأنَّ الزُّبرةَ جملةٌ مُجتَمِعةٌ مِن الحديدِ [1394] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 270)، ((الغريبين)) للهروي (3/812)، ((البسيط)) للواحدي (14/148)، (11/61)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 492).   .
الصَّدَفَيْنِ: أي: ناحِيَتي الجَبَل، أو: ما بين النَّاحِيَتينِ مِن الجَبَلينِ، وأصلُ (صدف): يدُلُّ على المَيلِ [1395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/406)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 309، 310)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/338)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 567).   .
أُفْرِغْ: أي: أصُبَّ، يُقالُ: أفرغْتُ الدَّلوَ: أي: صببْتُ ما فيه، وأصلُ (فرغ): يدُلُّ على خُلُوٍّ وسَعَةِ ذَرْعٍ [1396] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 93)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 632)، ((التبيان في تفسير غريب القرآن)) لابن الهائم (ص: 222).   .
قِطْرًا: أي: نُحاسًا ذائبًا، وأصلُه مِن القَطْرِ؛ وذلك أنَّه إذا أُذيبَ قَطَر كما يَقطُرُ الماءُ [1397] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 93)، ((البسيط)) للواحدي (14/150)، ((المفردات)) للراغب (ص: 677)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 219)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 280).   .
يَظْهَرُوهُ: أي: يَعلُوه ويتسَوَّروه، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على بُروزٍ [1398] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 271)، ((تفسير ابن جرير)) (15/410)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 513)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 219)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 280).   .
نَقْبًا: ثَقبًا وخَرقًا، وأصلُ (نقب): يدُلُّ على فَتحٍ في شَيءٍ [1399] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 820).   .
دَكَّاءَ: أي: مَدكوكًا مُستويًا مع وجهِ الأرضِ، وأصلُ (دكك): يدلُّ على تَطامُنٍ وانسِطاحٍ [1400] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 172)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 218)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/258)، ((المفردات)) للراغب (ص: 316)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 118).   .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: ثمَّ سار ذو القرنينِ آخِذًا بالطُّرُقِ والأسبابِ التي منَحْناها إيَّاه، حتى إذا وصل مَوضِعًا بين جبَلَينِ، وجَدَ مِن دونِهما قَومًا لا يكادونَ يَعرِفونَ كَلامَ غَيرِهم. قالوا: يا ذا القَرنَينِ، إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ مُفسِدونَ في الأرضِ بالقَتلِ والنَّهبِ وغيرِ ذلك، فهل نجعَلُ لك أُجرةً أو جُعْلًا على أن تجعَلَ بيننا وبينهم حاجِزًا يمنَعُهم مِن الوصولِ إلينا؟ قال ذو القَرنَينِ: ما أعطانيه رَبِّي مِن التَّمكينِ والمُلكِ والعلمِ والمالِ: خَيرٌ لي مِن مالِكم، فأعينوني برِجالٍ أقوياءَ منكم أجعَلْ بينكم وبينهم سَدًّا مَنيعًا؛ أعطوني وناولوني قِطَعَ الحَديدِ الضَّخمةَ، فلما جاؤُوه بها وحاذَوا بها جانِبَي الجَبَلينِ، قال لهم: انفُخوا في النَّار، حتى إذا صار الحديدُ كُلُّه نارًا، قال: أعطوني نُحاسًا أَصُبَّه عليه، فما استطاعت يأجوجُ ومأجوجُ أن تصعَدَ فَوقَ السَّدِّ؛ لارتِفاعِه ومَلاستِه، وما استَطاعوا أن يَخرِقوا فيه خَرقًا مِن أسفَلِه؛ لإحكامِ بنائِه، وقُوَّتِه. قال ذو القرنَينِ: هذا الحاجِزُ الذي بَنَيتُه بينكم وبين يأجوجَ ومأجوجَ؛ رَحمةٌ مِن رَبِّي بالنَّاسِ، فإذا جاء وعدُ رَبِّي بخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، جعلَ اللهُ هذا الحاجِزَ مُنهَدِمًا مُستويًا بالأرضِ، وكان وَعدُ رَبِّي حقًّا.

تفسير الآيات:

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92).
أي: ثمَّ سار ذو القَرنَينِ في طريقٍ ثالثٍ آخِذًا بالأسبابِ والوسائِلِ؛ لِيَبلُغَ الجِهةَ التي يُريدُها [1401] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/384)، ((البسيط)) للواحدي (14/139)، ((تفسير ابن كثير)) (5/195)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 130). قال البقاعي: (ثُمَّ أَتْبَعَ في إرادتِه ناحيةَ السَّدِّ مَخرج يأجوجَ ومأجوجَ سَبَبًا مِن جِهةِ الشِّمالِ). ((نظم الدرر)) (12/133). وقال ابن عاشور: (يظهَرُ أنَّ هذا السَّبَبَ اتَّجَه به إلى جِهةٍ غيرِ جِهتَي المغربِ والمَشرِقِ، فيُحتَمَل أنَّها الشِّمالُ أو الجَنوب). ((تفسير ابن عاشور)) (16/31). .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93).
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.
أي: سار إلى أن بلَغَ مَوضِعًا بين جبَلَينِ [1402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/386)، ((تفسير ابن عطية)) (3/541)، ((تفسير ابن كثير)) (5/195).   .
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ يُفْقِهُونَ بضَمِّ الياءِ، وكَسرِ القافِ، أي: لا يَكادونَ يُفهِمونَ أحدًا إذا نَطَقوا [1403] قرأ بها حمزةُ، والكسائي، وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/315). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/123)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/172).   .
2- قِراءةُ يَفْقَهُونَ بفَتحِ الياءِ والقافِ، أي: لا يَكادونَ يَفهمونَ ما يُقالُ لهم [1404] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/315). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 231)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 432). قال ابنُ جرير: (القومُ الذين أخبَرَ الله عنهم هذا الخبَرَ جائِزٌ أن يكونوا لا يَكادونَ يَفقَهونَ قَولًا لِغَيرِهم عنهم، فيكونُ صوابًا القراءةُ بذلك، وجائِزٌ أن يكونوا مع كَونِهم كذلك كانوا لا يَكادونَ أن يُفقِهوا غَيرَهم لعِلَلٍ: إما بألسِنَتِهم، وإمَّا بمَنطِقِهم، فتكونُ القراءةُ بذلك أيضًا صوابًا). ((تفسير ابن جرير)) (15/388). .
وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.
أي: وجد ذو القرنين مِن دُونِ الجبَلَينِ [1405] قال ابنُ عطيةَ: (الضميرُ في دُونِهِمَا عائِدٌ على الجبَلَينِ، أي: وجَدَهم في الناحيةِ التي تلي عمارةَ النَّاسِ إلى المغرِبِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/541). وقال البقاعي: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا أي: بقُربِهما من الجانِبِ الذي هو أدنَى منهما إلى الجِهةِ التي أتَى منها ذو القَرنَينِ). ((نظم الدرر)) (12/133).   قومًا لا يَكادونَ يَفهمونَ ما يُقالُ لهم بغيرِ لُغتِهم [1406] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/387)، ((تفسير ابن عطية)) (3/541)، ((تفسير القرطبي)) (11/55). قال ابن عاشور: (وقرأ الجُمهورُ يَفْقَهُونَ -بفتحِ الياءِ التَّحتيَّةِ وفتحِ القافِ- أي: لا يفهمونَ قولَ غيرِهم. وقرَأ حمزةُ، والكسائىُّ -بضمِّ الياءِ وكسرِ القافِ- أي: لا يستطيعونَ إفهامَ غيرِهم قولَهم. والمعنيانِ متلازِمانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/32).   .
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94).
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
أي: قال أولئك القَومُ: يا ذا القَرنَينِ، إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ [1407] قال ابنُ جرير: (هم أمَّتانِ مِن وراءِ السدِّ). ((تفسير ابن جرير)) (15/388). وقال ابنُ عثيمين: (هاتان قبيلتانِ مِن بني آدَمَ، كما صحَّ ذلك عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... وبهذا نعرِفُ خطأَ من قال: إنهم ليسوا على شَكلِ الآدميِّينَ، وأنَّ بَعضَهم في غايةِ ما يكونُ مِن القِصَر، وبعضَهم في غايةِ ما يكونُ مِن الطولِ، وأنَّ بَعضَهم له أذنٌ يَفتَرِشُها، وأذنٌ يلتَحِفُ بها، وما أشبهَ ذلك، كلُّ هذا مِن خرافاتِ بني إسرائيل! ولا يجوزُ أن نصَدِّقَه، بل يقال: إنَّهم من بني آدمَ، لكِنْ قد يختَلِفونَ كما يختَلِفُ النَّاسُ في البيئاتِ، فتَجِدُ أهلَ خَطِّ الاستواء بيئتُهم غيرُ بيئةِ الشَّماليِّينَ، فكُلٌّ له بيئةٌ، الشرقيُّون الآن يختَلِفونَ عن أهل وَسَطِ الكرةِ الأرضيَّة، فهذا ربما يختَلِفونَ فيه، أمَّا أن يختَلِفوا اختِلافًا فادِحًا كما يُذكَرُ، فهذا ليس بصَحيحٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 131-132).   يَخرُجونَ مِن بينِ السَّدَّينِ، فيُفسِدونَ في أرضِنا بالقَتلِ والنَّهبِ والتَّخريبِ، وغيرِ ذلك مِن وُجوهِ الإفسادِ [1408] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/293)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/134)، ((تفسير الألوسي)) (8/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486). وذهب ابنُ جريرٍ إلى أن المعنى: إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ سيُفسِدونَ في الأرضِ، ولم يقَعْ منهم إفسادٌ في الأرضِ، وإنما ذلك سيكونُ في آخِرِ الزَّمانِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/401).   .
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى:  يا آدَمُ، فيقولُ: لبَّيك وسَعدَيك [1409] لبَّيك: أي: أدومُ على طاعتِك دوامًا بعد دوامٍ، وأقيمُ على طاعتِك إقامةً بعد إقامةٍ، من: ألبَّ بالمكانِ: إذا أقام به. وسعديك: أي: ساعدتُ طاعتَك يا ربِّ مساعدةً بعد مساعدةٍ، وهي الموافَقةُ والمسارعةُ، أو أسعدُ بإقامتي على طاعتِك وإجابتي لدعوتِك سعادةً بعد سعادةٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/673).   ، والخيرُ في يَدَيك، فيقولُ: أخرِجْ بَعْثَ النَّارِ [1410] بَعْثَ النَّارِ: أي: المبعوثَ إليها من أهلِها، وهو من بابِ تسميةِ المفعولِ بالمصدرِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/138).   ، قال: وما بَعثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَمائةٍ وتِسعةً وتسعينَ! فعنده يَشيبُ الصَّغيرُ، وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَملٍ حَمْلَها، وترى النَّاسَ سُكارى وما هم بسُكارى، ولكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ! قالوا: يا رسولَ اللهِ، وأيُّنا ذلك الواحِدُ؟! قال: أبشِروا؛ فإنَّ منكم رجُلًا، ومِن يأجوجَ ومأجوجَ ألفًا. ثمَّ قال: والذي نَفسي بِيَدِه، إنِّي أرجو أن تكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنِّة! فكَبَّرْنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثُلُثَ أهلِ الجنَّةِ! فكَبَّرْنا، فقال: أرجو أن تكونوا نِصفَ أهلِ الجنَّةِ! فكَبَّرْنا، فقال: ما أنتم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعرةِ السَّوداءِ في جِلدِ ثَورٍ أبيَضَ، أو كشَعرةٍ بَيضاءَ في جِلدِ ثَورٍ أسوَدَ !)) [1411] رواه البخاري (3348) واللفظ له، ومسلم (222).   .
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ خَرَاجًا بألِفٍ، وهو الذي يُؤخَذُ على الأرضِ في كُلِّ عامٍ مِن الضرائِبِ، فكأنَّهم قالوا: فهل نجعَلُ لك أجرةً مَعلومةً نُؤدِّيها إليك كلَّ سَنةٍ، على أن تبنيَ بيننا وبينهم سدًّا [1412] قرأ بها حمزةُ، والكسائي، وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/315). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 231)، ((الكشف)) لمكي (2/77-78).   ؟
2- قراءةُ خَرْجًا بغيرِ ألِفٍ، أي: جُعْلًا، فكأنَّهم قالوا: نجعَلُ لك جُعْلًا ندفَعُه إليك الآن مِن أموالِنا مَرَّةً واحِدةً، على أن تبنيَ بيننا وبينهم سَدًّا؟ وقيل: الخرجُ والخراجُ بمعنًى واحدٍ [1413] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/315). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 231)، ((الكشف)) لمكي (2/78)، ((تفسير الرسعني)) (4/365).   .
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.
أي: فهل نجعَلُ لك -يا ذا القَرنَينِ- أُجرةً أو جُعلًا مِن أموالِنا على أن تبنيَ لنا حاجِزًا بيننا وبين يأجُوجَ ومأجوجَ، فلا يُمكِنَهم الوصولُ إلينا [1414] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/402، 403)، ((تفسير البغوي)) (3/216)، ((تفسير الخازن)) (3/178)، ((تفسير ابن كثير)) (5/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486).   ؟
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95).
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ.
أي: قال ذو القَرنَينِ: الذي بَسَطَه لي ربِّي مِن المُلكِ والعِلمِ، والقُوَّةِ والقُدرةِ والأموالِ؛ خَيرٌ مِن المالِ الذي تَعرِضونَه عليَّ [1415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/403)، ((تفسير القرطبي)) (11/60)، ((تفسير ابن كثير)) (5/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 133).   .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36] .
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا.
أي: قال ذو القَرنَينِ: فأعينُوني برِجالٍ أقوياءَ يُحسِنونَ العَمَلَ، وبآلاتٍ للبناءِ؛ أجعَلْ بينكم وبينَ يأجوجَ ومأجوجَ حاجِزًا مَنيعًا وقَويًّا [1416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/403)، ((البسيط)) للواحدي (14/147)، ((تفسير ابن كثير)) (5/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/136)، ((تفسير الشوكاني)) (3/369)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 134). قال الواحدي: (الردمُ: سَدُّ البابِ والثُّلمةِ). ((الوسيط)) (3/167). وقال النحاس: (الرَّدمُ في اللغة أكثَرُ مِن السَّدِّ؛ لأنه شيءٌ مُتكاثِفٌ بَعضُه على بعضٍ). ((معاني القرآن)) (4/293). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/499)، ((تفسير البيضاوي)) (3/293). .
آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96).
آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.
أي: قال ذو القَرنَينِ للقَومِ الذين سألوه بناءَ السَّدِّ: أعطوني قِطَعَ الحَديدِ الضَّخمةَ وناوِلونيها [1417] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/60، 61)، ((تفسير البيضاوي)) (3/293)، ((تفسير الشوكاني)) (3/369)، ((تفسير الألوسي)) (8/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486). قولُه: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ لا ينافي ردَّ خراجِهم؛ لأنَّ المرادَ مِن الإيتاءِ المأمورِ به: الإيتاءُ بالثمنِ أو مجردِ المناولةِ والإيصالِ، لا الخَراج على العملِ، ولأنَّ إيتاءَ الآلةِ مِن قبيلِ الإعانةِ بالقوةِ، وعلى تسليمِ كونِ الإيتاءِ بمعنَى الإعطاءِ لا المناولةِ يقالُ: إنَّ إعطاءَ الآلةِ للعملِ لا يلزمُه تملكُها. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/245)، ((تفسير الألوسي)) (8/361). قال القرطبي: (أمَرهم بنَقْلِ الآلةِ، وهذا كلُّه إنَّما هو استدعاءُ العطِيَّةِ الَّتي بغيرِ معنَى الهبةِ، وإنَّما هو استدعاءٌ للمناولةِ، لأنَّه قد ارتَبَط مِنْ قولِه: أنَّه لا يأخذُ منهم الخرجَ، فلم يَبْقَ إلَّا استدعاءُ المناولةِ، وأعمالُ الأبدانِ). ((تفسير القرطبي)) (11/60). .
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا.
أي: فلمَّا جاؤوه بقِطَعِ الحَديدِ الكَبيرةِ، وغطَّى بها ذو القَرنَينِ المَنفَذَ بينَ الجبَلَينِ حتَّى حاذَى بذلك البناءِ رُؤوسَهما؛ قال للعُمَّالِ: انفُخوا النَّارَ بالآلاتِ على قِطَعِ الحديدِ [1418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/406، 408)، ((تفسير القرطبي)) (11/61، 62)، ((تفسير ابن كثير)) (5/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 134). قال الواحدي: (الصَّدَفانِ: الجَبلانِ، في قولِ جميعِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (14/149).   .
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا.
أي: فنَفَخوا حتى جعل ذو القَرنَينِ الحديدَ نارًا، فقال: أعطوني نُحاسًا ذائِبًا أَصُبَّه على الحديدِ المُحْمَى [1419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/408، 409)، ((تفسير القرطبي)) (11/62)، ((تفسير ابن كثير)) (5/196)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486)، ((زهرة التفاسير)) لأبي زهرة (9/4589). قال القرطبي: (والقِطرُ عندَ أكثَرِ المفَسِّرينَ: النُّحاسُ المذابُ). ((تفسير القرطبي)) (11/62).   .
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97).
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ .
أي: ففَعَلوا ذلك، فاختَلَط والتصَقَ بعضُه ببعضٍ، وصار حاجِزًا صَلْدًا مَنيعًا، واستحكَمَ استحكامًا هائلًا، فلم يَقدِرْ يأجوجُ ومأجوجُ على صعودِ ذلك الرَّدمِ فيَنزِلوا منه على النَّاسِ؛ لارتفاعِه ومَلاستِه، فهو مُستَوٍ مع الجَبَلِ، والجبَلُ عالٍ لا يُرامُ [1420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/410)، ((تفسير البغوي)) (3/217)، ((تفسير القرطبي)) (11/62)، ((تفسير ابن جزي)) (1/475)، ((تفسير ابن كثير)) (5/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/138)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 135).   .
وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا.
أي: ولم يَقْدِروا على خَرقِ ذلك الرَّدمِ مِن أسفَلِه خَرقًا يَنفُذُ بهم إلى الجِهةِ الأُخرى؛ وذلك لإحكامِ بنائِه، وصَلابتِه وشِدَّتِه [1421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/410)، ((الوسيط)) للواحدي (3/168)، ((تفسير القرطبي)) (11/62)، ((تفسير ابن كثير)) (5/197)، ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486).   .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ لَيَحفِرونَ السَّدَّ كُلَّ يَومٍ [1422] قال ابن كثير: (في رَفعِه نَكارةٌ؛ لأنَّ ظاهِرَ الآية يقتضي أنَّهم لم يتمَكَّنوا من ارتقائِه ولا من نَقْبِه؛ لإحكامِ بنائِه وصلابتِه وشِدَّتِه... ولعَلَّ أبا هريرة تلقَّاه من كعبٍ؛ فإنَّه كان كثيرًا ما كان يجالِسُه ويحَدِّثُه، فحَدَّث به أبو هريرةَ، فتوهَّم بعضُ الرواةِ عنه أنَّه مرفوعٌ فرفَعَه. والله أعلم). ((تفسير ابن كثير)) (5/198). وقال أيضًا: (إن لم يكُنْ رفْعُ هذا الحديث محفوظًا، وإنما هو مأخوذٌ عن كعبِ الأحبارِ-كما قاله بعضُهم- فقد استرحنا من المؤونة، وإن كان محفوظًا فيكونُ محمولًا على أنَّ صنيعَهم هذا يكونُ في آخِرِ الزَّمانِ عند اقترابِ خُروجِهم، كما هو المرويُّ عن كعبِ الأحبار، أو يكونُ المراد بقوله: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف: 97] أي: نافِذًا منه، فلا ينفي أن يلحَسوه ولا ينفذوه. والله أعلم). ((البداية والنهاية)) (2/559). وقال الألباني: (الآيةُ لا تدُلُّ من قريبٍ ولا من بعيدٍ أنَّهم لن يستطيعوا ذلك أبدًا، فالآيةُ تتحَدَّث عن الماضي، والحديثُ عن المستقبَلِ الآتي، فلا تنافيَ ولا نكارةَ، بل الحديثُ يتمشى تمامًا مع القرآنِ في قَولِه: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: 96] ). ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4/314). ، حتى إذا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجِعوا فستَحفِرونَه غَدًا، فيَعودونَ إليه كأشَدِّ ما كان، حتى إذا بلَغَت مُدَّتُهم [1423] بلَغَت مُدَّتُهم: أي: أدركوا المدَّةَ التي قُدِّرَت لهم. يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (8/474).   وأراد اللهُ أن يبعَثَهم على النَّاسِ، حَفَروا، حتى إذا كادوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجِعوا فستَحفِرونَه غَدًا إن شاء اللهُ، ويَستَثني، فيعودونَ إليه وهو كهيئَتِه حين ترَكَوه، فيَحفِرونَه ويَخرُجونَ على النَّاسِ، فيُنَشِّفونَ المياهَ، ويتحَصَّنُ النَّاسُ منهم في حُصونِهم، فيَرمُونَ بسِهامِهم إلى السَّماءِ، فترجِعُ وعليها كهيئةِ الدَّمِ! فيقولون: قَهَرْنا أهلَ الأرضِ، وعَلَونا أهلَ السَّماءِ، فيَبعَثُ الله عليهم نَغَفًا [1424] نغفًا: النَّغفُ: دودٌ يكونُ في أنوفِ الإبلِ والغنمِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/69).   في أقفائِهم فيَقتُلُهم بها، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والذي نَفسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، إنَّ دوابَّ الأرضِ لَتَسمَنُ وتَشكَرُ شَكَرًا [1425] وتَشكَرُ شَكَرًا: أَيْ: تسمَنُ وتمتلئُ شحْمًا. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/494).   مِن لُحومِهم ودمائِهم )) [1426] أخرجه الترمذي (3153)، وابن ماجه (4080)، وأحمد (10632) واللفظ له. قال الترمذي: (حسَنٌ غريب)، وأخرجه ابنُ حبَّان في ((صحيحه)) (6829)، وقال ابن كثير في ((تفسير القرآن)) (5/194): (إسناده جيِّد قويٌّ، في رفعِه نَكارةٌ)، وقال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (13/116): (رجاله رجالُ الصَّحيحِ إلَّا أنَّ قتادةَ مدَلِّس)، وذكَر أنَّه جاء في روايةٍ أخرى التَّصريحُ بالتحديثِ، وأنَّ له طريقًا آخرَ موقوفًا على أبي هريرةَ. وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4080).   .
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98).
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
أي: قال ذو القَرنَينِ: هذا الرَّدمُ الذي مكَّنَني اللهُ مِن جَعْلِه حاجزًا بينَ يأجوجَ ومأجوجَ وبينَ الإفسادِ في الأرضِ؛ رَحمةٌ مِن رَبِّي بالنَّاسِ [1427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/412)، ((البسيط)) للواحدي (14/158)، ((تفسير القرطبي)) (11/63)، ((تفسير ابن كثير)) (5/199).   .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ.
أي: فإذا جاء وعدُ رَبِّي الذي وقَّتَه لخُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ مِن وَراءِ هذا الرَّدْمِ، جعَلَ اللهُ هذا الرَّدمَ مُنهَدِمًا مُستَويًا بالأرضِ [1428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/412)، ((تفسير ابن كثير)) (5/199)، ((تفسير السعدي)) (ص: 486)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 136). قال الشنقيطي: (... فقولُكم: لو كانوا موجودينَ وراءَ السَّدِّ إلى الآن، لاطَّلعَ عليهم النَّاسُ- غيرُ صحيحٍ؛ لإمكانِ أن يكونوا موجودينَ، واللهُ يُخفي مكانَهم على عامَّةِ النَّاسِ، حتى يأتيَ الوقتُ المحَدَّد لإخراجِهم على النَّاسِ؛ وممَّا يؤيدُ إمكانَ هذا ما ذكره الله تعالى في سورة «المائدة» مِن أنَّه جعل بني إسرائيلَ يتيهونَ في الأرض أربعينَ سنةً، وذلك في قولِه تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 26] الآية، وهم في فراسِخَ قليلةٍ مِن الأرض، يمشونَ ليلَهم ونهارَهم، ولم يَطَّلِع عليهم الناسُ، حتى انتهى أمَدُ التِّيهِ؛ لأنَّهم لو اجتمعوا بالنَّاسِ لبَيَّنوا لهم الطريقَ، وعلى كلِّ حالٍ فربُّك فعَّالٌ لِما يريد، وأخبارُ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الثابتةُ عنه صادِقةٌ). ((أضواء البيان)) (3/345). وقال أيضًا: (اعلمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ، وآيةَ الأنبياءِ قد دَلَّتا في الجملةِ على أنَّ السَّدَّ الَّذي بَناه ذُو القرنينِ دونَ يأجوجَ ومأجوجَ إنَّما يجعلُه اللَّهُ دكًّا عندَ مجيءِ الوقتِ الموعودِ بذلك فيه، وقد دَلَّتا على أنَّه بقربِ يومِ القيامةِ؛ لأنَّه قالَ هنا: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الآيةَ [الكهف: 98، 99]...). ثمَّ ذكَر ما يدلُّ على ذلك مِن السنةِ الصحيحةِ، وأنَّ في بعضِ هذه الأحاديثِ: (تصريحَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: بأنَّ اللَّهَ يوحي إلى عيسى ابنِ مريمَ خروجَ يأجوجَ ومأجوجَ بعدَ قتلِه الدَّجَّالَ. فمَنْ يَدَّعي أنَّهم رُوسِيَّةٌ، وأنَّ السَّدَّ قد انْدَكَّ منذُ زمانٍ، فهو مخالفٌ لِمَا أخبَر به النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم مخالفةً صريحةً لا وجهَ لها). ((أضواء البيان)) (3/341- 344). .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 96- 97].
وعن زينبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ الله عنها، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل عليها فَزِعًا يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَيلٌ للعَرَب مِن شَرٍّ قد اقتَرَب؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه -وحَلَّق بإصبَعِه الإبهامِ والتي تليها- فقُلتُ: يا رسولَ الله، أنَهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ [1429] الخَبَثُ: أي: الفُسوقُ والفُجورُ. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازَري (3/367).   ) [1430] رواه البخاري (3346)، واللفظ له ومسلم (2880).   .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فُتِح اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه [1431] قال الألباني: (وفي الحديثِ إشارةٌ قويَّةٌ إلى أنَّ السَّدَّ سيُفتَحُ مِن يأجوجَ ومأجوجَ يومَ يأذَنُ الله لهم بذلك؛ كما في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف: 98] ، وقد جاء التَّصريحُ بالفتحِ المذكورِ في حديثٍ صَحيحٍ [وهو حديثُ أبي هريرةَ السَّابقُ قَريبًا]...، وفيه تفصيلُ الفَتحِ المشارِ إليه، وأنَّهم يَحفِرونَه، ويخرُجون على النَّاسِ). ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/37).   -وعقد بِيَدِه تِسعينَ [1432] عَقدُ التِّسعينَ مِن مُواضعاتِ الحِسابِ، وهو أن تجعَلَ رأسَ الأُصبَعِ السبَّابة في أصلِ الإبهامِ، وتضُمَّها حتى لا يَبينَ بينهما إلا خلَلٌ يسيرٌ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/216).   ) [1433] رواه البخاري (3347) ومسلم (2881)، واللفظ له.  
وعن النوَّاسِ بنِ سِمعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذكَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ، فخَفَّض فيه ورَفَّ ع [1434] خَفَّض: أي: حَقَّره. رَفَّعَ: أي: عَظَّمَه وفخَّمَه. وقيل: خَفَّض مِن صوتِه بعدَ طُولِ الكلامِ والتَّعَبِ لِيَستريحَ، ثمَّ رفَعَ ليَبلُغَ صَوتُه كُلَّ أحدٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/63).   ...))، وفيه: ((ثُمَّ يأتي عيسَى ابنَ مريمَ قومٌ قد عَصَمهم اللهُ منه، فيمسحُ عن وجوهِهم، ويحدِّثُهم بدرجاتِهم في الجنَّةِ، فبينما هو كذلك إذ أوحى اللهُ إلى عيسى: إنِّي قد أخرجتُ عِبادًا لي لا يدانِ [1435] لا يدانِ: أي: لا قُدرةَ ولا طاقةَ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/293).   لأحَدٍ بقِتالِهم، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّورِ [1436] فحرِّزْ عبادي إلى الطُّورِ: أي: ضُمَّهم إليه، واجعَلْه لهم حِرزًا. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/366).   ، ويَبعَثُ اللهُ يأجوجَ ومأجوجَ، وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلونَ [1437] يَنسِلونَ: أي: يَمشونَ مُسرِعينَ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/68).   ، فيمُرُّ أوائِلُهم على بُحَيرةِ طَبَريَّة [1438] بُحَيرة طَبَريَّة: هى نحوُ عشرةِ أميالٍ فى ستةِ أميالٍ، وهى كالبركةِ تحيطُ بها الجبالُ، وطبريةُ بليدةٌ مطلَّةٌ على البحيرةِ، وهى مِن أعمالِ الأردن. يُنظر: ((مراصد الاطلاع)) للقطيعي (1/168)، و (2/878).   فيَشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهم فيقولونَ: لقد كان بهذه مَرَّةً ماءٌ! ويُحصَرُ [1439] يُحصَرُ: أي: يُحبَسُ في جَبلِ الطُّورِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3463).   نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، حتى يكونَ رأسُ الثَّورِ لأحَدِهم خيرًا مِن مائةِ دينارٍ لأحَدِكم اليومَ! فيَرغَبُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، فيُرسِلُ اللهُ عليهم النَّغَفَ في رقابِهم، فيُصبِحونَ فَرسَى [1440] فرسى: أي: قتلى. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/69).   كمَوتِ نَفسٍ واحدةٍ، ثمَّ يَهبِطُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى الأرضِ، فلا يَجِدونَ في الأرضِ مَوضِعَ شِبرٍ إلَّا ملأه زَهَمُهم [1441] زَهَمُهم: أي: رائحتُهم الكريهةُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/69).   ونَتْنُهم، فيرغَبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابُه إلى اللهِ، فيُرسِلُ اللهُ طيرًا كأعناقِ البُختِ [1442] البُخت: نوع من الإبلِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3464).   ، فتَحمِلُهم فتَطرَحُهم حيثُ شاء الله، ثم يُرسِلُ اللهُ مَطرًا لا يَكُنُّ منه بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ [1443] مَدَرٍ ولا وبَرٍ: أي: المدن، والقُرى والبوادي، وهو من وَبَرِ الإبِلِ: أي: شَعرِها؛ لأنَّهم كانوا يتَّخِذون منه ومِن نحوه خيامَهم غالبًا. والمَدَرُ جمعُ مَدرةٍ، وهي اللَّبِنةُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/116).   ، فيَغسِلُ الأرضَ حتى يتركها كالزَّلَفةِ [1444] كالزَّلَفةِ: أي: كالمرآةِ في صفائِها ونظافتِها، وقيل: كمصانعِ الماءِ، أي: إنَّ الماءَ يستنقعُ فيها حتى تصيرَ كالمصنعِ الذي يجتمعُ فيه الماءُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/69).   ، ثمَّ يقالُ للأرضِ: أنبِتي ثَمَرتَكِ، ورُدِّي بركَتَكِ، فيَومئذٍ تأكُلُ العِصابةُ [1445] العصابةُ: أي: الجَماعةُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   مِن الرُّمَّانةِ، ويَستَظِلونَ بقِحْفِها [1446] بقِحْفِها: أي بقِشرِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   ، ويُبارَكُ في الرِّسْلِ [1447] الرِّسْلِ: أي: اللَّبَنِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   ، حتى إنَّ اللِّقْحةَ [1448] اللِّقْحةَ: أي: النَّاقةَ الحَلوبةَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   من الإبِلِ لتكفي الفِئامَ [1449] الفِئامَ: أي: الجماعةَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   مِن النَّاسِ، واللِّقْحةَ من البَقَرِ لتكفي القبيلةَ مِن النَّاسِ، واللِّقْحةَ من الغَنَمِ لتكفي الفَخْذَ [1450] الفَخْذَ: بسكون الخاء المعجمة لا غير: جماعةٌ مِن الأقاربِ، وهم دون البطنِ، والبطنُ دونَ القبيلةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3465).   مِن النَّاسِ! فبينما هم كذلك إذ بعثَ اللهُ ريحًا طيِّبةً، فتأخُذُهم تحت آباطِهم، فتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ وكُلِّ مُسلِمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاسِ يتهارَجونَ [1451] يتهارجون: أي: يَختَلِطون ويتسافَدونَ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3466).   فيها تهارُجَ الحُمُرِ، فعليهم تقومُ السَّاعةُ )) [1452] رواه مسلم (2937).  
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ، ولَيُعتمَرَنَّ بعدَ خُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ )) [1453] رواه البخاري (1593).   .
وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
أي: وكان وَعدُ اللهِ عِبادَه بخُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ في آخرِ الزَّمانِ وغيرِ ذلك مِن وُعودِه، كائنًا لا محالةَ [1454] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/414)، ((تفسير ابن كثير)) (5/199)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 136).   .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد: 31].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أنَّ على المَلكِ التعفُّفَ عن أموالِ رعيَّتِه، والزُّهدَ في أخذِ أُجرةٍ في مُقابلةِ عَمَلٍ يأتيه -ما أغناه اللهُ عنه- ففي ذلك حِفظُ كرامتِه، وزيادةُ الشَّغَفِ بمحبَّتِه، كما تأبَّى ذو القرنينِ؛ تفَضُّلًا وتكَرُّمًا [1455] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/68).   .
2- في قَولِه تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ التحَدُّثُ بنِعمةِ الله تعالى إذا اقتَضاه المقامُ، كقَولِ ذي القرنينِ هذا في مقامِ تعَفُّفِه عن أموالِهم، والشَّفَقةِ عليهم؛ وكقَولِ سُلَيمانَ: فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [1456] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/68).   [النمل: 36] .
3- في قَولِه تعالى: قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا مُشاطَرةُ المَلِكِ العُمَّالَ في الأعمالِ، ومُشارفتُهم بنفسِه إذا اقتضى الحالُ؛ تنشيطًا لهِمَّتِهم، وتجرئةً لهم، وترويحًا لقُلوبِهم، وقد كان ذو القرنينِ يقاسِمُ الرِّجالَ الأتعابَ، ويديرُ العَمَلَ بنَفسِه [1457] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/69).   .
4- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا لَمَّا فعَلَ ذو القَرنَينِ هذا الفِعلَ الجَميلَ والأثَرَ الجليلَ، أضاف النِّعمةَ إلى مُولِيها، فقال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، وهذه حالُ الخُلَفاءِ الصَّالحينَ: إذا منَّ اللهُ عليهم بالنِّعَمِ الجليلةِ، ازداد شُكرُهم وإقرارُهم، واعترافُهم بنِعمةِ الله، ولم يُسنِدوا ما يَعمَلونَه إلى أنفُسِهم، ولكِنَّهم يُسنِدونَه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإلى فَضلِه [1458] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٦)، تفسير ((سورة الكهف)) لابن عثيمين (ص: 135-136).   .
5- في قَولِه تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي تعريفُ الغيرِ ثمرةَ العَمَلِ المهِمِّ؛ ليَعرِفوا قَدْرَه، فيُظهِروا شُكرَه [1459] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/69).   .
6- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا الإعلامُ بالدَّورِ الأُخرويِّ، وانقضاءِ هذا الطَّورِ الأوَّليِّ؛ لتبقى النفوسُ طامحةً إلى ذلك العالَمِ الباقي، والنَّعيمِ السَّرمديِّ [1460] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/69).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا فيه سؤالٌ: كيف فَهِمَ ذو القرنَينِ منهم هذا الكلامَ بعد أن وصَفَهم اللهُ تعالى بقَولِه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؟
الجواب من وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ: أنَّ (كاد) فيه قولان: الأوَّلُ: أنَّ إثباتَه نفيٌّ، ونفيَه إثباتٌ؛ فقَولُه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يدُلُّ على أنَّهم لا يَفهَمون شيئًا، بل يدُلُّ على أنَّهم قد يفهمونَ على مشقَّةٍ وصُعوبةٍ. والقول الثاني: أنَّ (كاد) معناه المقاربةُ، وعلى هذا القَولِ فقَولُه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي: لا يعلَمونَ، وليس لهم قُربٌ مِن أن يفقَهوا. وعلى هذا القَولِ فلا بدَّ مِن إضمارٍ، وهو أن يقال: لا يكادونَ يفهَمونَه إلَّا بعد تقريبٍ ومشقَّةٍ مِن إشارةٍ ونَحوِها [1461] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/489-490).   .
الوجه الثاني: أنَّه تكلَّم عنهم مُترجِمٌ [1462] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/214).   ؛ فذو القرنين أعطاه الله تعالى مُلكًا عظيمًا، وعنده من المترجِمينَ ما يَعرِفُ به ما يريدُ [1463] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 131).   .
الوجه الثالث: أنَّ الله قد أعطى ذا القرنينِ مِن الأسبابِ العِلميَّةِ ما فَقِهَ به ألسنةَ أولئك القَومِ، وفَقَّهَهم، وراجَعَهم وراجَعوه [1464] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 486).   .
الوجه الرابع: أنَّه قد يكون الله عزَّ وجَلَّ قد ألهمه لغةَ النَّاسِ الذين استولى عليهم كلِّهم [1465] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 131).   .
2- قولُهم: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ افْتَتحوا الكلامَ بالنِّداءِ، ونادَوْه نِداءَ المستغيثينَ المضطرِّينَ، ونداؤُهم إيَّاه بلَقبِ ذي القرنَينِ يدُلُّ على أنَّه مشهورٌ بمعنَى ذلك اللَّقبِ بينَ الأُممِ المتاخِمةِ لبلادِه [1466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/32).   .
3- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا فيه جوازُ الخَراجِ والأجرِ على الأعمالِ [1467] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: ١٧٢).   .
4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا فيه أنَّ على المَلِك القِيامَ بمصالحِ الخَلقِ، وسَدَّ الفُرَج، وإصلاحَ الثُّغورِ، ولو بأن يأخُذَ مِن أموالِهم إذا احتاجَ [1468] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: ١٧٢). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/243).   ، وأنَّ عليه أن يَبذُلَ وُسعَه في الرَّاحةِ والأمنِ؛ دِفاعًا عن الوطنِ العزيزِ، وصيانةً للحريَّةِ والتمَدُّنِ، مِن مخالبِ التوحُّشِ والخَرابِ؛ قيامًا بفريضةِ دَفعِ المُعتَدين، وإمضاءِ العَدلِ بينَ العالَمينَ، كما لبَّى ذو القرنينِ دَعوةَ الشاكينَ في بناءِ السَّدِّ [1469] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/68).   .
5- قال الله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا في هذه الآيةِ دليلٌ على اتِّخاذِ السُّجونِ، وحَبسِ أهلِ الفَسادِ فيها، ومَنعِهم من التصَرُّفِ لِما يُريدونَه، ولا يُترَكونَ وما هم عليه [1470] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/59).   .
6- قَولُه تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ هذا تأييدٌ مِن اللهِ تعالى لذي القرنينِ في هذه المحاورةِ؛ فإنَّ القَومَ لو جمعوا له خَرْجًا لم يُعِنْه أحدٌ، ولوكَلُوه إلى البُنيانِ. ومعونتُه بأنفُسِهم أجمَلُ به، وأسرَعُ في انقضاءِ هذا العمَلِ [1471] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/60).   .
7- قال الله تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ المَلِكَ فُرِضَ عليه أن يقومَ بحمايةِ الخَلقِ في حِفظِ بَيضتِهم، وسَدِّ فُرجتِهم، وإصلاحِ ثُغورِهم، من أموالِهم التي تَفيءُ عليهم، وحُقوقِهم التي تجمَعُها خِزانتُهم تحت يَدِه ونَظَرِه، حتى لو أكلَتْها الحقوقُ وأنفَذَتْها المُؤَن، لكان عليهم جَبرُ ذلك من أموالِهم، وعليه حُسنُ النَّظَرِ لهم، وذلك بثلاثةِ شُروطٍ: الأول: ألَّا يَستأثِرَ عليهم بشيءٍ. الثاني: أن يبدأ بأهلِ الحاجةِ فيُعينَهم. الثالث: أن يُسَوِّيَ في العطاءِ بينهم على قَدرِ مَنازِلِهم. فإذا فَنِيت بعد هذا، وبَقِيَت صفرًا، فأطلَعَت الحوادِثُ أمرًا، بذلوا أنفُسَهم قبل أموالِهم، فإنْ لم يُغنِ ذلك فأموالُهم تؤخَذُ منهم على تَقدير، وتَصريفٍ بتدبير؛ فهذا ذو القرنينِ لَمَّا عَرَضوا عليه المالَ في أن يكُفَّ عنهم ما يَحذَرونَه مِن عاديةِ يأجوجَ ومأجوجَ، قال: لستُ أحتاجُ إليه، وإنَّما أحتاجُ إليكمفَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أي: اخدُموا بأنفُسِكم معي؛ فإنَّ الأموالَ عندي والرِّجالَ عندكم، ورأى أنَّ الأموالَ لا تُغني عنهم؛ فإنَّه إن أخَذَها أجرةً نَقَص ذلك ممَّا يحتاجُ إليه، فيعودُ بالأجرِ عليهم، فكان التطَوُّعُ بخِدمة الأبدانِ أولى. وضابِطُ الأمورِ: لا يحِلُّ مالُ أحدٍ إلَّا لضَرورةٍ تَعرِضُ، فيؤخَذُ ذلك المالُ جَهرًا لا سِرًّا، ويُنفَقُ بالعَدلِ لا بالاستيثارِ، وبرأي الجَماعةِ لا بالاستبدادِ بالأمرِ [1472] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/60).   .
8- في قَولِه تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا تدعيمُ الأسوارِ والحُصونِ في الثُّغورِ، وتقويتُها بذَوبِ الرَّصاصِ، وبوَضعِ صَفائِحِ النُّحاسِ خِلالَ الصُّخورِ الصُّمِّ؛ صِدقًا في العَمَلِ، ونُصحًا فيه، ليُنتَفَعَ به على تطاوُلِ الأجيالِ؛ فإنَّ البناءَ غيرَ الرَّصينِ لا ثمرةَ فيه [1473] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (7/69).   .
9- إنْ قيلَ: ما الجَمعُ بينَ قَولِه تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، وبين الحَديثِ الذي رواه البخاريُّ ومُسلِمٌ: ((فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه -وعَقَدَ بِيَدِه تِسعينَ )) [1474] رواه البخاري (3347)، ومسلم (2881) واللفظ له.   ؟
 فالجوابُ: أمَّا على قَولِ مَن ذهب إلى أنَّ هذا الحديثَ إشارةٌ إلى فَتحِ أبوابِ الشَّرِّ والفِتَن، وأنَّ هذا استعارةٌ مَحضةٌ وضَربُ مَثَلٍ، فلا إشكالَ. وأمَّا على قَولِ مَن جعل ذلك إخبارًا عن أمرٍ مَحسوسٍ -كما هو الظاهِرُ المتبادِرُ- فلا إشكالَ أيضًا؛ لأنَّ قَولَه: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أي: في ذلك الزَّمانِ؛ لأنَّ هذه صيغةُ خبرٍ ماضٍ، فلا ينفي وقوعَه فيما يُستقبَلُ بإذنِ اللهِ لهم في ذلك قَدَرًا، وتسليطَهم عليه بالتدريجِ قليلًا قليلًا، حتى يتِمَّ الأجَلُ وينقضيَ الأمَدُ المقدورُ، فيَخرُجون، كما قال الله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [1475] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (2/557).   [الأنبياء: 96] .
10- قولُه: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فيه إيذانٌ بأنَّه ليس مِن قَبيلِ الآثارِ الحاصِلةِ بمُباشَرةِ الخلقِ عادَةً، بل هو إحسانٌ إلهيٌّ محضٌ، وإن ظهَر بمُباشَرتي [1476] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/246).   .
11- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ فيه بيانٌ لعِظَمِ قُدرتِه عزَّ وجلَّ بعدَ بيانِ سَعةِ رَحمتِه [1477] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/246-247).   .
12- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا فيه خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ قُرْبَ السَّاعةِ [1478] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: ١٧٢).   .
13- مِن المناسباتِ الصُّوريَّةِ بين قِصَّةِ ذي القرنين وموسى مع الخَضِرِ: أنَّ في قِصَّةِ كلٍّ منهما ثلاثةَ أشياءَ آخِرُها بناءُ جِدارٍ لا سَقْفَ له، وإنَّما هو لأجلِ حِفظِ ما يُهتَمُّ به خَوفَ المُفسِدِ [1479] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/128).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا فيه إطلاقُ السَّدِّ على الجبلِ؛ لأنَّه سَدٌّ في الجُملة، أو لكونِه مُلاصِقًا للسدِّ [1480] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/26).   .
2- قوله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
     -  فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا الاستفهامُ مُستعمَلٌ في العَرْضِ [1481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/34).   ، والفاءُ لِتَفريعِ العَرضِ على إفسادِهم في الأرضِ [1482] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/245).   ، وهو استِدْعاءٌ منهم قَبولَ ما يَبذُلونه ممَّا يُعينُه على ما طلَبوا على جِهَةِ حُسنِ الأدَبِ؛ إذْ سأَلوه ذلك [1483] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/226).   .
3- قوله تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
     - قولُه: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ الفاءُ لِتَفريعِ الأمرِ بالإعانةِ على خيريَّةِ ما مَكَّنه اللهُ تعالى فيه مِن مالِهم، أو على عدَمِ قَبولِ خَرْجِهم [1484] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/245).   .
     - قولُه: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فيه تقديمُ إضافةِ الظَّرفِ إلى ضَميرِ المخاطَبينَ بَيْنَكُمْ على إضافتِه إلى ضَميرِ يَأْجوجَ ومأجوجَ: وَبَيْنَهُمْ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايَةِ بمَصالِحِهم كما راعَوْه في قولِهم: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ [1485] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/245).   .
4- قوله تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا
     - قولُه: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ لَعلَّ تَخصيصَ الأمرِ بالإيتاءِ بها دونَ سائرِ الآلاتِ مِن الصُّخورِ والحطَبِ ونَحوِهما؛ لأنَّ الحاجَةَ إليها أمَسُّ؛ إذْ هي الرُّكنُ في السَّدِّ، ووُجودُها أعَزُّ [1486] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/245).   .
     - قولُه: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ، و: سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، و: جَعَلَهُ نَارًا و: أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فيه إسنادُ ذلك إلى ذي القرنَين مع أنَّه فِعلُ العُمَّال؛ للتَّنبيهِ على أنَّه العمدةُ في ذلك، وهم بمَنزِلةِ الآلةِ [1487] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/246).   .
     - قولُه: جَعَلَهُ نَارًا تَشبيهُ بليغٌ، أي: كالنَّارِ في الحرارةِ وشِدَّةِ الاحْمِرارِ؛ حُذِفَت أداةُ التَّشبيهِ ووَجهُ الشَّبهِ، فأصبَح بَليغًا [1488] يُنظر: ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (16/255).   .
     - قولُه: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيث إنَّ تقديرَ الكلامِ: فآتَوْه زُبَرَ الحديدِ فنَضَدَها وبَناها، حتَّى إذا جعَل ما بينَ الصَّدَفَين مُساوِيًا لعُلوِّ الصَّدَفين [1489] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/227)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/37).   .
     - وحذَف مُتعلَّقَ انْفُخُوا؛ لِظُهورِه مِن كَونِ العمَلِ في صُنعِ الحديدِ. والتَّقديرُ: انفُخوا في الكِيران [1490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/37). والكِيران: جمْعُ كُور، ومعناه هنا: مِجْمَرةُ الحَدَّادِ المَبْنِيَّةُ مِن الطِّينِ الَّتِي تُوقَد فِيهَا النارُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/810)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 472).   .
     - قولُه: قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فيه إيجازٌ بحَذْفِ المفعولِ به للفِعْلِ آتُونِي، وتقديرُه: آتوني قِطْرًا أُفرِغْ عليه قِطْرًا؛ فحُذِفَ الأوَّلُ؛ لِدَلالةِ الثَّاني عليه [1491] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/748)، ((تفسير البيضاوي)) (3/293)، ((تفسير أبي حيان)) (7/227)، ((تفسير أبي السعود)) (5/246).   .
5- قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
     - فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ جاء قولُه: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ هنا بتَخْفِيفِ (اسْتَطَاعُوا) من غيرِ تاءٍ، ثُمَّ قال: وَمَا اسْتَطَاعُوا بالتاء؛ ووجه ذلك: أنَّ مِن خَصائصِ مُخالَفةِ مُقْتضى الظَّاهرِ هنا إيثارَ فِعْلٍ ذي زِيادةٍ في المبْنَى بمَوْقِعٍ فيه زِيادةُ المعنى؛ لأنَّ استِطاعةَ نَقْبِ السَّدِّ أقْوى مِن استِطاعةِ تَسلُّقِه، فهذا مِن مَواضِعِ دَلالةِ زِيادةِ المبنى على زيادةٍ في المعنى [1492] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/38).   ؛ فجِيءَ أوَّلًا بالفِعْلِ مُخفَّفًا عِندَ إرادةِ نَفْيِ قُدرتِهم على الظُّهورِ على السَّدِّ، والصُّعودِ فوقَه، ثمَّ جِيءَ بأصلِ الفِعلِ مُستَوْفَى الحُروفِ عندَ نفْيِ قُدرتِهم على نَقْبِه وخَرْقِه، ولا شكَّ أنَّ الظُّهورَ أيسَرُ مِن النَّقْبِ، والنَّقْبُ أشَدُّ عليهِم وأثقَلُ، فجِيءَ بالفِعلِ مُخفَّفًا معَ الأخَفِّ، وجيءَ به تامًّا مستوفًى مع الأثقَلِ، فتَناسَب، ولو قُدِّر بالعَكسِ لَما تَناسَب. وأيضًا فإنَّ الثَّانيَ في مَحلِّ التَّأكيدِ لِنَفيِ قُدرتِهم على الاسْتيلاءِ على السَّدِّ وتَمكُّنِهم منه؛ فناسَب ذلك الإطالةَ، واللهُ سبحانه أعلمُ بما أراد [1493] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/323-324). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (5/197)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/138)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الكهف)) (ص: 135). وذكر ابنُ رجبٍ عن الوزيرِ ابنِ هبيرةَ أنَّه قال: («التاءُ» من حروف الشِّدَّةِ، تقولُ في الشَّيءِ القَريبِ الأمرِ: ما اسْطَعتُه، وفي الشَّديدِ: ما استطَعْتُه، فالمعنى: ما أطاقوا ظهورَه لِضَعفِهم، وما قَدَروا على نَقْبِه لقوَّتِه وشِدَّتِه). ((ذيل طبقات الحنابلة)) (2/141، 143).   . وقيل: لأنَّ الثَّانيةَ تعدَّت إلى اسمٍ، وهو قولُه عزَّ وجلَّ: نَقْبًا فخَفَّ مُتعلَّقُها، فاحتمَلَتْ بأن يَتِمَّ لَفظُها، وأمَّا الأُولى فإنَّها تَعلَّقَ مَكانُ مفعولِها بـ (أنْ) والفِعْلِ بعدَها، وهي أربعةُ أشياءَ: أنْ، والفِعلُ، والفاعِلُ، والمفعولُ الَّذي هو الهاءُ، فثَقُلَ لفظُ اسْتَطَاعُوا، وكان يَجوزُ تَحقيقُه حيث لا يُقارِنُه ما يَزيدُه ثِقلًا، فلمَّا اجتمَع الثقلانِ، واحتَمَل الأوَّلُ التَّخفيفَ، ألزمَ في الأوَّلِ دونَ الثَّاني الَّذي خفَّ مُتعلَّقُه [1494] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 883-884)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 171)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/323-324)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 346).   .
6- قوله تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
     - قولُه: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي قيل: في الكلامِ حَذْفٌ، وتَقديرُه: فلَمَّا أكمَل بِناءَ السَّدِّ واستَوى واستَحْكَم قال: هذا رحمةٌ مِن ربِّي [1495] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/228).   .
     - جملةُ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه لما آذَن الكلامُ بانْتِهاءِ حكايةِ وصْفِ الرَّدْمِ كان ذلك مُثيرًا سُؤالَ مَن يَسأَلُ: ماذا صدَر مِن ذي القَرْنَين حين أتَمَّ هذا العمَلَ العظيمَ؟ فيُجابُ بجُملةِ: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، وجُعِلَت الرَّحمةُ مِن اللهِ؛ لأنَّ اللهَ ألْهمَه لذلك ويَسَّر له ما هو صعبٌ [1496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/39).   ، وفي التَّعرُّضِ لِوَصفِ الرُّبوبيَّةِ تَربيةُ مَعْنى الرَّحمةِ [1497] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/246).   .
     - قولُه: دَكَّاءَ الدَّكَّاءُ: بمَعْنى المفعولِ؛ للمُبالَغةِ، أي: جعَله مَدْكوكًا، أي: مُسوًّى بالأرضِ بعدَ ارتِفاعٍ [1498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/39).   .
     - قولُه: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا تذييلٌ للعِلْمِ بأنَّه لا بُدَّ له مِن أجَلٍ يَنْتهي إليه، وكان تأجيلُ اللهِ الأشياءَ حقًّا ثابِتًا لا يتَخلَّفُ؛ فهذه الجملةُ بعُمومِها وما فيها مِن حِكمةٍ كانت تَذْييلًا بَديعًا [1499] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/40).   .