موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (101-104)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

بَصَائِرَ:أي: حُجَجًا، وبَراهِينَ واضِحةً تقودُ إلى العِلمِ والحَقِّ، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على وُضوحِ الشَّيءِ، وظهورِه، وبيانِه [1298] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253)، ((البسيط)) للواحدي (13/496)، ((الغريبين)) للهروي (1/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/227).   .
مَثْبُورًا: أي: مُهلَكًا، وأصلُ (ثبر): يدُلُّ على هَلاكٍ [1299] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 261)، ((تفسير ابن جرير)) (15/108)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/400)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 209)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878).   .
يَسْتَفِزَّهُمْ: أي: يُزعجَهم، أو يستخفَّهم حتى يَخْرجوا، وأصلُ (فزز): يدلُّ على خِفَّةٍ وما قاربَها [1300] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 262)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/439)، ((المفردات)) للراغب (ص: 635)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 209).   .
لَفِيفًا: أي: جَميعًا، وأصلُ (لفف): يَدُلُّ على تَلَوِّي شَيءٍ على شَيءٍ [1301] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 262)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 402)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/207)، ((المفردات)) للراغب (ص: 743)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 269).   .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى أنَّه قد أعطَى موسَى عليه السلامُ مِن المعجزاتِ ما يشهدُ بصدقِه، ولكنَّ فرعونَ وأتباعَه لم تزِدْهم تلك المعجزاتُ إلا كفرًا وعنادًا، فيقولُ تعالى: ولقد آتَينا موسى تِسعَ مُعجِزاتٍ واضِحاتٍ تُبيِّنُ صِدْقَ نُبُوَّتِه، فاسألْ -يا مُحَمَّدُ- اليَهودَ حين جاءهم مُوسى بمُعجِزاتِه الواضِحاتِ، فقال له فِرعونُ: إنِّي لأظُنُّك -يا موسى- قد سُحِرتَ وغُلِبتَ على عَقلِك، فأنت تهذي بكَلامٍ مختَلٍّ.
فقال له موسى: لقد تيقَّنتَ -يا فِرعونُ- أنَّه ما أنزَلَ تلك المُعجِزاتِ التِّسعَ إلَّا رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لِتَكونَ حُجَجًا واضِحةً على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وقُدرتِه، وإنِّي لأظُنُّك -يا فِرعونُ- هالِكًا مَغلوبًا، فأراد فِرعونُ أن يُخرِجَ بني إسرائيلَ مِن الأرض، فأغرَقْناه وجنودَه أجمعينَ، وقُلْنا لبني إسرائيلَ مِن بَعدِ هلاكِ فِرعونَ وجُندِه: اسكُنوا الأرضَ، فإذا جاء يومُ القيامةِ جِئْنا بكم جَميعًا مِن قُبورِكم إلى مَوقِفِ القيامةِ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
وجهُ اتِّصالِ هذه الآيةِ بما قبلَها أنَّ المعجزاتِ المذكورةَ كأنَّها مساوِيَةٌ لتلك الأمورِ الَّتي اقْتَرَحها كفَّارُ قُريشٍ، بلْ أقوَى منها، فليسَ عدمُ الاستجابَةِ لما طَلَبوه مِنَ الآياتِ إلَّا لعدمِ المصلحةِ في استئصالِهم إنْ لم يُؤْمِنوا بها [1302] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/311).   .
وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن قُرَيشٍ ما حكى مِن تعَنُّتِهم في اقتراحِهم وعِنادِهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سلَّاه تعالى بما جرى لِموسى مع فِرعَونَ ومع قَومِه، وسَكَّنَ قَلْبَه، ونَبَّه على أنَّ عاقِبَتَهم الدَّمارُ والهلاكُ، كما جرى لفِرعونَ إذ أهلَكَه اللهُ ومَن معه [1303] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/119). قال الواحدي: (وجهُ اتصالِ معنى هذه الآيةِ بما قبلَها: أنَّه ذكَر في هذه الآيةِ إنكارَ فرعونَ آياتِ موسى مع وضوحِها، فيكونُ في ذلك تشبيهٌ لحالِ هؤلاء المشركينَ بحالِه، وتسليةٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((البسيط)) (13/493).   .
وأيضًا فإنَّه قد بَقِيَ قَولُ الكافرينَ: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء: 92] غيرَ مَردودٍ عليهم؛ لأنَّ له مُخالفةً لبَقيَّةِ ما اقتَرَحوه بأنَّه اقتِراحُ آيةِ عَذابٍ ورُعبٍ، فهو مِن قَبيلِ آياتِ مُوسى -عليه السَّلامُ- التِّسعِ، فكان ذِكرُ ما آتاه اللهُ موسى مِن الآياتِ، وعَدَمِ إجداءِ ذلك في فِرعَونَ وقَومِه تَنظيرًا لِما سألَه المُشرِكونَ، ففي هذا مَثَلٌ للمُعانِدينَ وتسليةٌ للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم [1304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/224).   .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
أي: ولقد آتَينا موسَى تِسعَ مُعجِزاتٍ واضِحاتٍ، ودلائِلَ قاطِعاتٍ، تُبَيِّنُ صِدْقَه، وصِحَّةَ نُبُوَّتِه؛ فلم يُؤمِنْ فرعونُ ولا قومُه برسالةِ موسى، معَ كثرةِ هذه المعجزاتِ التي أُوتِيَها، ووضُوحِها، فكذلك لو أجَبْنا هؤلاء الذين سألوك -يا مُحَمَّدُ- تلك الآياتِ المقترحةَ لما استجابوا ولا آمنوا إلَّا أن يشاءَ الله، فلَسْتَ بأوَّلِ رَسولٍ كذَّبَه النَّاسُ، رغمَ تأييدِه بالمعجزاتِ [1305] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/99)، ((البسيط)) للواحدي (13/493)، ((تفسير ابن كثير)) (5/124-125)، ((تفسير الألوسي)) (8/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 468)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/224، 225). قال ابن عطية: (قَولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ اتَّفَق المتأوِّلونَ والرُّواةُ أنَّ الآياتِ الخَمسَ التي في سورةِ الأعرافِ هي مِن هذه التِّسعِ، وهي: الطُّوفانُ، والجَرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ، واختلفوا في الأربَعِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/488). قال الشوكاني: (قال أَكثرُ المفسرينَ: الآياتُ التِّسعُ: هي الطُّوفانُ، والجرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ، والعصا، واليدُ، والسِّنينَ، ونقصُ الثَّمَراتِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/311). وقال ابنُ كثير: (يخبِرُ تعالى أنَّه بعَث موسى بتِسعِ آياتٍ بَيِّناتٍ، وهي الدَّلائِلُ القاطِعةُ على صِحَّةِ نُبُوَّتِه وصِدقِه فيما أخبَرَ به عمَّن أرسَلَه إلى فِرعونَ، وهي: العصا، واليَدُ، والسِّنونَ، والبَحرُ، والطُّوفانُ، والجرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادِعُ، والدَّمُ؛ آياتٌ مُفَصَّلاتٌ. قاله ابنُ عباس. وقال محمدُ ابنُ كعبٍ: هي اليدُ، والعصا، والخمسُ في الأعرافِ، والطمسةُ والحجرُ. وقال ابنُ عباسٍ أيضًا، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، والشعبيُّ، وقتادةُ: هي يدُه، وعصاه، والسِّنين، ونقصُ الثمراتِ، والطوفانُ، والجرادُ، والقمَّلُ، والضفادعُ، والدمُ. وهذا القولُ ظاهرٌ جليٌّ، حسنٌ قويٌّ. وجعَل الحسنُ البصريُّ «السنينَ ونقصَ الثمراتِ» واحدةً، وعندَه أنَّ التاسعةَ هي: تلقفُ العصا ما يَأْفِكون... فهذه الآياتُ التِّسعُ التي ذكَرَها هؤلاء الأئمَّةُ، هي المرادةُ هاهنا، وهي المَعنيَّةُ في قَولِه تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [النمل: 10 - 12] فذَكَرَ هاتينِ الآيتَينِ: العصا واليَدَ، وبَيَّنَ الآياتِ الباقياتِ في «سورة الأعراف» وفصَّلَها. وقد أُوتيَ موسى عليه السَّلامُ آياتٍ أُخَرَ كثيرةً، منها: ضَرْبُه الحَجَرَ بالعصا، وخروجُ الأنهارِ منه، ومنها تظليلُهم بالغَمامِ، وإنزالُ المَنِّ والسَّلوى، وغيرُ ذلك ممَّا أُوتيه بنو إسرائيلَ بعد مُفارقتِهم بلادَ مِصرَ، ولكِنْ ذَكَر هاهنا التِّسعَ الآياتِ التي شاهَدَها فِرعَونُ وقَومُه مِن أهلِ مِصرَ، وكانت حُجَّةً عليهم، فخالفوها وعانَدوها كُفرًا وجُحودًا). ((تفسير ابن كثير)) (5/124-125). !
كما قال تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النمل: 10 - 13] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 130] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف: 133] .
فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ.
أي: فاسألْ -يا مُحمَّدُ- اليَهودَ المُعاصِرينَ لك حينَ جاءهم مُوسَى بالهُدى والآياتِ البَيِّناتِ [1306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/105)، ((البسيط)) للواحدي (13/495)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/57)، ((تفسير ابن عطية)) (3/488)، ((تفسير الشوكاني)) (3/312). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالمسؤولينَ مِن اليهودِ المعاصرينَ لمحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلم: الذين أسلَموا منهم، كعبد اللهِ بنِ سَلامٍ رَضِيَ الله عنه: ابنُ الجوزي، وابنُ عطية، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/57)، ((تفسير ابن عطية)) (3/488)، ((تفسير الشوكاني)) (3/312). وذكر ابن عطية قولًا آخرَ في بيانِ المعنَى: (إِذْ جَاءَهُمْ يريدُ آباءَهم، وأدخَلهم في الضميرِ؛ إذ هم منهم. ويَحتَمِلُ أن يريدَ: فاسألْ بني إسرائيلَ الأوَّلينَ الذين جاءَهم موسى، وتكونُ إحالتُه إيَّاه على سُؤالِهم بطَلَبِ أخبارِهم، والنَّظَرِ في أحوالِهم وما في كُتُبِهم، نحوُ قَولِه تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف: 45] ). ((تفسير ابن عطية)) (3/488، 489). وقال الرسعني: (المعنى: اسْأَلْهم عن الآياتِ؛ ليزدادوا طُمأنينةً ويقينًا، وليظهرَ لعامةِ اليهودِ بقولِ علمائِهم صدقُ ما أتيتَ به، فيكونَ حُجَّة عليهم. وقوله: إِذْ جَاءَهُمْ متعلقٌ بـ آتَيْنَا، أو بإضمارِ «اذكُر»، على معنى: «إذ جاءهم». وقيل: المعنى: ولقد آتينا موسى تسعَ آياتٍ بيِّناتٍ، فقُلْنا له: اسألْ بني إسرائيل، أي: سلْهم مِن فرعَون ليرسِلَهم معك، [واسْأَلْهم] عن إيمانِهم وحالِ دينِهم، وهل هم على ما كان عليه آباؤُهم الكرامُ مِن دين التوحيدِ، أو غيَّرهم الأمَّةُ الباغيةُ والدولةُ الطاغيةُ. أو يكون المعنى: سَلْ بني إسرائيل المعاضَدةَ والمناصَرةَ). ((تفسير الرسعني)) (4/227). .
فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا.
أي: فقال فرعَونُ لِمُوسى عليه السَّلامُ عِنادًا ومُكابَرةً: إنِّي لأظُنُّك [1307] قال ابنُ عاشور: (وكأنَّ فِرعَونَ تعَلَّقَ ظَنُّه بحَقيقةِ ما أظهَرَ مِن الآياتِ، فرَجَحَ عنده أنَّها سِحرٌ، أو تعَلَّقَ ظَنُّه بحَقيقةِ حالِ موسى فرجَحَ عنده أنَّه أصابه سِحرٌ؛ لأنَّ الظَّنَّ دُونَ اليقينِ؛ قال تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيقِنِينَ [الجاثية: 32]. وقد يُستعمَلُ الظَّنُّ بمعنى العِلمِ اليَقينِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/226).   -يا موسى- قد سُحِرتَ فتأثَّرَ عقلُك وفَسَدَ، وصِرْتَ تَهذِي، وتأتي بكَلامٍ مُختَلٍّ [1308] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/553)، ((تفسير الزمخشري)) (2/698)، ((تفسير ابن عطية)) (3/489)، ((تفسير ابن جزي)) (1/456)، ((تفسير أبي حيان)) (7/120)، ((اللباب)) لابن عادل (12/401)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 377)، ((تفسير أبي السعود)) (5/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/226). وممَّن قال بأنَّ مَسْحُورًا على ظاهِرِها- أي: أنَّه مُتأثِّرٌ بالسِّحرِ، فاختلط عَقلُه وصار يَهذي: مقاتِلُ بن سليمان، والزمخشريُّ، وابنُ عطية، وابنُ جزي، وأبو حيان، وابنُ عادل الحنبلي، والسيوطي، وأبو السعود، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ السائب. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/57). وقيل: مَسْحُورًا هنا: اسمُ مَفعولٍ بمعنى فاعلٍ، أي: ساحِرٌ، مثلُ مَشؤوم ومَيمون. أي: فقال فِرعونُ لموسى: إنِّي لأظنُّك -يا موسى- ساحِرًا؛ ولذلك تأتي بالأفعالِ الغَريبةِ. كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [القصص: 36] . وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23- 24] . وذهب إليه الواحدي، والقرطبي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 649)، ((تفسير القرطبي)) (10/336). .
كما قال تعالى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] .
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: عَلِمْتَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ عَلِمْتُ بضَمِّ التاءِ: على معنى إخبارِ موسى عن نَفسِه بأنَّه عالِمٌ بذلك [1309] قرأ بها الكسائي. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/309). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 221)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/101-102)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 411).   .
2- قِراءةُ عَلِمْتَ بفَتحِ التَّاءِ: على معنى إخبارِ موسى عن فِرعَونَ بأنَّه عالِمٌ بذلك [1310] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/309). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 221)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/101-102)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 411).   .
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ.
أي: قال موسى لفِرعَونَ: لقد استيقنْتَ -يا فِرعَونُ- أنَّ هذه الآياتِ التِّسْعَ ما أنزَلَها إلَّا اللهُ ربُّ السَّمَواتِ والأرضِ، الذي لا يَقدِرُ على الإتيانِ بها أحَدٌ سِواه؛ أنزَلَها حُجَجًا واضِحةً تدلُّ النَّاسَ على قُدرةِ اللهِ ووحدانيَّتِه، وصِدْقِ رِسالتي [1311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/106- 108)، ((تفسير القرطبي)) (10/336)، ((تفسير ابن كثير)) (5/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 468)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/226، 227)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/187).   .
كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 12- 14] .
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا.
أي: وإنِّي لأظُنُّك -يا فِرعَونُ- هالِكًا [1312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/108)، ((تفسير القرطبي)) (10/337)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/90)، ((تفسير ابن كثير)) (5/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 468).   .
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103).
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
أي: فأراد فِرعَونُ أن يُخرِجَ بني إسرائيلَ مِن الأرضِ [1313] قيل: المرادُ بها أرضُ مصرَ. وممن ذهب إلى ذلك: الواحدي، وابنُ عطية، وابنُ الجوزي، والقرطبي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/499)، ((تفسير ابن عطية)) (3/490)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/58)، ((تفسير القرطبي)) (10/338)، ((تفسير الشوكاني)) (3/312)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/228). قال ابنُ عطية: (متى ذُكِرَت الأرض عمومًا فإنما يُرَاد بها ما يُناسِب القصَّة المتكلَّم فيها، وقد يحسُن عمومُها في بعض القصص). ((تفسير ابن عطية)) (3/490). وقيل: يعني بالأرضِ: مصرَ وفلسطينَ والأردنَّ. وممن قال بهذا: الماوردي. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (3/278). وقال القاسمي: (والْأَرْضِ أرض مصرَ. أو: الأرض التي أذِن لهم بالمسيرِ إليها، وسُكناها، وهي فلسطينُ). ((تفسير القاسمي)) (6/519-520). بالقَتلِ، أو بالطَّردِ والإبعادِ منها [1314] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/111)، ((البسيط)) للواحدي (13/499)، ((تفسير ابن عطية)) (3/490)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/58)، ((تفسير القرطبي)) (10/338)، ((تفسير ابن كثير)) (5/126)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/528).   .
فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا.
أي: فأغرَقْنا فِرعَونَ في البَحرِ ومَن مَعَه مِن الجُنودِ أجمَعينَ [1315] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/553)، ((تفسير ابن جرير)) (15/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/228).   .
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104).
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ.
أي: وقُلْنا -لبني إسرائيلَ- مِن بَعدِ هَلاكِ فِرعَونَ [1316] ممن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ الجوزي، والقرطبي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/111)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/58)، ((تفسير القرطبي)) (10/338)، ((تفسير الشوكاني)) (3/312)، ((تفسير القاسمي)) (6/520). وذهب بعضُ المعاصرين إلى أنَّ المرادَ: من بعد موسى عليه السلام. يُنظر: ((الأساس في التفسير)) لسعيد حوى (6/3044)، ((تفسير الشعراوي)) (14/8366). قال مقاتل: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ يعني: مِن بعدِ فِرعَونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ... اسْكُنُوا الْأَرْضَ  وذلك من بعد موسى، ومن بعدِ يُوشَعَ بنِ نون). ((تفسير مقاتل)) (2/553). : اسكُنوا الأرضَ [1317] قيل: المرادُ بها: أرضُ مِصرَ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: الواحدي، والرازي، والشوكاني. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 650)، ((تفسير الرازي)) (21/416)، ((تفسير الشوكاني)) (3/312). قال الألوسي: (اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يَستَفِزَّكم منها، وهي أرضُ مِصرَ، وهذا ظاهِرٌ إنْ ثَبَت أنَّهم دَخَلوها بعد أن خَرَجوا منها، واتَّبَعَهم فِرعونُ وجنودُه وأُغرِقوا، وإن لم يَثبُتْ فالمرادُ مِن بني إسرائيلَ ذريَّةُ أولئك الذين أراد فِرعَونُ استِفزازَهم). ((تفسير الألوسي)) (8/176). وقيل: المرادُ بها: أرضُ الشَّامِ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، وابنُ جزي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/111)، ((تفسير ابن جزي)) (1/456)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/228). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/58). وقيل: المرادُ بها: أرضُ الشَّامِ ومِصر. وممن اختار ذلك: البغوي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/166)، ((تفسير القرطبي)) (10/338). قال الماتريدي: (وقال بعضُهم: اسْكُنُوا الْأَرْضَ ليس في أرضٍ دونَ أرضٍ، ولكن اسكُنوا أيَّ أرضٍ شئتُم، مشارقَها ومغاربَها، آمنينَ لا خوفٌ عليكم... كقولِه: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا... الآيةَ [الأعراف: 137] ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ رضِي اللَّهُ عنه). ((تفسير الماتريدي)) (7/123). وذهب عَددٌ مِن المُعاصِرينَ إلى أنَّ المرادَ بالأرضِ في هذه الآيةِ مُختَلفُ بِقاعِ العالَمِ التي شتَّتَ اللهُ اليهودَ فيها. يُنظر: ((التفسير القرآني للقرآن)) لعبد الكريم الخطيب (8/456)، ((الأساس في التفسير)) لسعيد حوى (6/3044)، ((القرآن ونقض مطاعن الرهبان)) لصلاح الخالدي (1/144)، ((مباحث في إعجاز القرآن)) لمصطفى مسلم (ص: 284). .
كما قال تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 136، 137].
وقال سُبحانَه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57 - 59].
وقال عزَّ وجلَّ: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [الأعراف: 168] .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا.
أي: فإذا جاء وَقتُ قِيامِ السَّاعةِ، جِئْنا بكم -يا بني إسرائيلَ- وبِعَدُوِّكم [1318] ممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: بنو إسرائيل وعَدُوُّهم: ابنُ كثير، وهو ظاهرُ اختيارِ الألوسي، وابنِ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/127)، ((تفسير الألوسي)) (8/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/229). قال الماتُريدي: (وأمَّا عامَّةُ أهل التأويلِ فإنَّهم قالوا: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ: يومُ القيامةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أي: جميعًا أنتم وفِرعونُ وجنودُه حتى يَرَوا كراماتِكم التي أُكرِمْتُم بها ويَرَوا هوانَهم). ((تفسير الماتريدي)) (7/123). وقيل: المراد: جميعُ الخلق؛ المُسلِمُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجرُ. وممن قال بذلك: الواحدي. يُنظر: ((البسيط)) (13/501). مِن قُبورِكم إلى مَوقِفِ القيامةِ جَماعاتٍ مُختَلِطةً مِن جِهاتٍ وأصنافٍ شتَّى، فنُمَيِّزُ سُعَداءَكم مِن أشقيائِكم، ونُجازي كُلًّا بعَمَلِه [1319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/111)، ((تفسير القرطبي)) (10/338)، ((تفسير ابن كثير)) (5/127)، ((تفسير الألوسي)) (8/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 468)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/229). وهذا المعنى المذكورُ هو في الجملةِ قولُ عامةِ المفسرينَ. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/123). قال القرطبي: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: القيامة. جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أي: من قبورِكم مختلطين مِن كُلِّ موضعٍ، قد اختلط المؤمِنُ بالكافِرِ لا يتعارَفون ولا ينحازُ أحَدٌ منكم إلى قبيلتِه وحَيِّه. وقال ابن عباس وقتادة: جِئنا بكم جميعًا من جهاتٍ شتَّى. والمعنى واحِدٌ... والمعنى: أنهم يخرُجون وقتَ الحشرِ مِن القبورِ كالجرادِ المنتَشِر، مختَلِطين لا يتعارَفون). ((تفسير القرطبي)) (10/338). وقال الماتريدي: (قال بعضُهم: اسْكُنُوا الْأَرْضَ ليس في أرضٍ دونَ أرضٍ، ولكِن اسكُنوا أيَّ أرضٍ شِئتُم... وعلى هذا قال في قَولِه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بعثُ عيسى ابنِ مريم جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أي: جميعًا مجتَمِعين من مشارقِ الأرضِ ومغاربِها على ما تفَرَّقوا. وقال بعضُهم: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني: حياةَ عيسى، ونزولَه من السَّماءِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أي: جميعًا بانتزاعٍ مِن القرى هاهنا وهاهنا لُفُّوا جميعًا، وهو مِثلُ الأول). ((تفسير الماتريدي)) (7/123). وقال الماوَردي: (قولُه عزَّ وجلَّ: ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ فيه ثلاثةُ أقاويل: أحدُها: وعدُ القيامةِ، وهي الكرَّةُ الآخرةُ، قاله مقاتل. الثاني: وعدُ الكرَّةِ الآخرةِ في تحويلِهم إلى أرضِ الشامِ. الثالث: نزولُ عيسى عليه السَّلامُ من السَّماء، قاله قتادة). ((تفسير الماوردي)) (3/278). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/554). .
كما قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 98، 99].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- ذَكَر الله في القرآنِ ستَّ عشْرةَ مُعجزةً لِموسى عليه السَّلامُ، وقال في هذه الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وتخصيصُ التِّسعةِ بالذِّكرِ لا يقدَحُ فيه ثبوتُ الزائدِ عليه؛ لأنَّ تخصيصَ العدَدِ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نفيِ الزائدِ، كما هو ثابتٌ في أصولِ الفِقهِ، وهذه الآيةُ دَليلٌ على هذه المسألةِ [1320] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/414)، ((تفسير ابن عادل)) (12/398).   .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا في الأمرِ بسُؤالِ اليَهودِ تَنبيهٌ على ضَلالِهم، ولعَلَّ منه اقتِباسَ الأئمَّةِ في المُناظَرةِ مُطالبةَ اليَهودِ والنَّصارى ونحوِهم بإثباتِ نُبُوَّةِ أنبيائِهم؛ فكُلُّ طريقٍ يَسلُكونَ يُسلَكُ مِثلُه في تقريرِ نُبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم، وكُلُّ اعتِراضٍ يُورِدونَه يُورَدُ عليهم مِثلُه، وما كان جَوابًا لهم فهو جوابٌ لنا [1321] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/526-527).   .
3- قولُه تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ... فيه بيانُ أنَّ فِرعَونَ عالِمٌ بأنَّ الآياتِ المذكورةَ ما أنزلَها إلَّا ربُّ السَّمواتِ والأرضِ بَصَائِرَ، أي: حُجَجًا واضِحةً، وذلك يدُلُّ على أنَّ قَولَ فِرعَونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] ، وقَولَه: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] كلُّ ذلك منه تجاهُلُ عارفٍ [1322] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/187).   .
4- كان أولًا موسى عليه السلام يتوقَّعُ مِن فرعونَ أذًى، كما قال: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه: 45] ؛ فأُمِر أن يقولَ له قولًا لينًا، فلما قال له الله: لا تخفْ؛ وثِقَ بحمايةِ الله، فصال على فرعونَ صولةَ المحميِّ، وقابَله مِن الكلامِ بما لم يكنْ ليقابلَه به قبلَ ذلك، فقال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [1323] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/122).   .
5- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا هذه الآيةُ وما بَعدَها تَسليةٌ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ قَصَّ عليه -في إِثْرِ ما ذَكَرَ مِن تكذيبِ قَومِه وهَمِّهم بإخراجِه- قِصَّةَ فِرعَونَ، وما هَمَّ به مِن استِفزازِ موسى وبني إسرائيلَ مِن أرضِ مِصرَ، حتى أهلَكَه اللهُ تعالى، وأورَثَهم أرْضَهم ودِيارَهم وأموالَهم؛ لذلك أظهَرَ نَبيَّه مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُشرِكينَ، ورَدَّه إلى مكَّةَ ظاهِرًا عليهم، فأنجَزَ وَعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه [1324] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/499-500).   .
6- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا اقتَضَبَت هذه الآيةُ قَصَصَ موسى معَ فِرعَونَ، وإنَّما ذَكَرَت عُظْمَ الأمرِ وخَطيرَه، وذلك طَرَفاه: أراد فِرعَونُ غلَبَتَهم وقَتْلَهم، وهذا كان بَدءَ الأمرِ، فأغرَقَه اللهُ وأغرَقَ جُنودَه، وهذا كان نهايةَ الأمرِ [1325] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/490).   .
7- قال الله تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ في هذا بِشارةٌ لمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بفَتحِ مَكَّةَ، مع أنَّ السُّورةَ نَزَلَت قبل الهِجرةِ، وكذلك وقَعَ؛ فإنَّ أهلَ مَكَّةَ هَمُّوا بإخراجِ الرَّسولِ منها، كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 76- 77] ؛ ولهذا أورَثَ اللهُ رَسولَه مَكَّةَ، فدخَلَها عَنوةً على أشهَرِ القَولَينِ، وقَهَرَ أهْلَها، ثمَّ أطلَقَهم حِلمًا وكَرَمًا، كما أورَثَ اللهُ القَومَ الذين كانوا يُستَضعَفونَ مِن بني إسرائيلَ مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها، وأورَثَهم بِلادَ فِرعونَ وأموالَهم وزُروعَهم [1326] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/126).   .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا هذا مثَلٌ للمُعاندينَ وتَسليةٌ للرَّسولِ، ثمَّ انتقَلَ من ذلك بطريقةِ التَّفريعِ إلى التَّسجيلِ ببني إسرائيلَ؛ استشهادًا بهم على المُشركين، وإدماجًا للتَّعريضِ بهم بأنَّهم ساوَوُا المُشركينَ في إنكارِ نُبوةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُظاهرتِهم المُشركينَ بالدَّسِّ، وتلْقينِ الشُّبَهِ، تذكيرًا لهم بحالِ فرعونَ وقومِه مع موسى؛ إذ قال له فرعونُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا [1327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/225).   .
- وخصَّ بالذكرِ هاهنا تِسْعَ آيَاتٍ معَ أنَّ مُوسَى عليه السَّلامُ قد أُوتيَ آياتٍ أخرَ كَثِيرَةً؛ لأنَّها الآياتُ التي شاهَدَها فِرعَونُ وقَومُه مِن أهلِ مِصرَ، وكانت حُجَّةً عليهم، فخالفوها وعانَدوها كُفرًا وجُحودًا [1328] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/124-125).   .
- قولُه: فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اعتراضٌ في الكلامِ، والتَّقديرُ: ولقد آتينا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بيِّناتٍ، إذ جاء بني إسرائيلَ، فسَلْهم، وليس المطلوبُ من سُؤالِ بني إسرائيلَ أنْ يستفيدَ هذا العلْمَ منهم، بلِ المقصودُ أنْ يظهَرَ لعامَّةِ اليهودِ صِدْقُ ما ذكَرَه الرَّسولُ عليه السَّلامُ، فيكونُ هذا السُّؤالُ سُؤالَ استشهادٍ [1329] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/120)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/225).   .
2- قوله تعالى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا
- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ... فيه تأكيدُ كلامِ مُوسى عليه السَّلامُ بلامِ القَسمِ، وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ تَحقيقًا لحُصولِ علْمِ فِرعونَ أنَّ تلك الآياتِ لا تكونُ إلَّا بتَسخيرِ اللهِ؛ إذ لا يقدِرُ عليها غيرُ اللهِ [1330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/226).   .
- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث حَسُنَ جدًّا ما جاء به من إسنادِ إنزالِها إلى لفْظِ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ إذ هو لمَّا سأَلَه فرعونُ في أوَّلِ مُحاورتِه فقال له: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: 23- 24] ، يُنبِّهُه على نقْصِه، وأنَّه لا تصرُّفَ له في الوُجودِ؛ فدعواه الرُّبوبيَّةَ دَعوى استحالةٍ، فبكَّتَه وأعلَمَه أنَّه يعلَمُ آياتِ اللهِ ومَن أنزَلَها، ولكنَّه مُكابِرٌ مُعاندٌ؛ فخاطَبَه بذلك على سبيلِ التَّوبيخِ، أي: أنت بحالِ مَن يعلَمُ هذا، وهي من الوُضوحِ بحيث تعلَمُها، وليس خِطابُه على جِهَةِ إخبارِه عن علْمِه [1331] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/121).   . وأيضًا عبَّرَ عن اللهِ سُبحانَه بطريقِ إضافةِ وصْفِ الرَّبِّ للسَّمواتِ والأرضِ؛ تذكيرًا بأنَّ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ هو القادرُ على أنْ يخلُقَ مثْلَ هذه الخوارِقِ [1332] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/227).   .
- قولُه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ في ذكْرِ هذا من قِصَّةِ مُوسى إتمامٌ لتَمثيلِ حالِ مُعاندي الرِّسالةِ المُحمَّديَّةِ بحالِ مَن عانَدَ رسالةَ مُوسى عليه السَّلامُ [1333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/227).   .
- قولُه: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا، هذا نِذارةٌ وتَهديدٌ لفِرعونَ بقُرْبِ هلاكِه. وإنَّما جعَلَه مُوسى (ظنًّا)؛ تأدُّبًا مع اللهِ تعالى، أو لأنَّه علِمَ ذلك باستِقراءٍ تامٍّ أفاده هلاكُ المُعاندينَ للرُّسلِ، ولكنَّه لم يَدْرِ لعلَّ فرعونَ يُقْلِعُ عن ذلك، وكان عنده احتمالًا ضعيفًا؛ فلذلك جعَلَ توقُّعَ هلاكِ فرعونَ ظنًّا. ويجوزُ أنْ يكونَ الظَّنُّ هنا مُستعملًا بمعنى اليَقينِ والعلْمِ، وإنَّما عبَّرَ بالظَّنِّ فقال له: لَأَظُنُّكَ مع أنَّه يعلَمُ أنَّه مَثبورٌ؛ ليُقَابِلَ قَولَ فِرعونَ له: لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، كأنَّه قال: إذا ظَنَنتني مَسحورًا، فأنا أظنُّك مَثبورًا؛ فجاء في جَوابِ مُوسى عليه السَّلامُ لفِرعونَ بمثْلِ ما شافَهَه فِرعونُ به؛ مُقارعةً له، وإظهارًا لكونِه لا يَخافُه، وأنَّه يُعامِلُه مُعاملةَ المِثْلِ [1334] يُنظر: ((فتح الرحمن)) (1/335)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/227).   .
3- قولُه تعالى: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا أكمَلَ قِصَّةَ المثَلِ بما فيه تَعريضٌ بتَمثيلِ الحالينِ؛ إنذارًا للمُشركينَ بأنَّ عاقِبةَ مكْرِهم وكيدِهم ومُحاولاتِهم صائرةٌ إلى ما صار إليه مكْرُ فِرعونَ وكيدُه، ففرَّعَ على تَمثيلِ حاليِ الرِّسالتينِ وحاليِ المُرسَلِ إليهما ذكْرَ عاقِبةِ الحالةِ المُمثَّلِ بها؛ نِذارةً للمُمثَّلينَ بذلك المصيرِ، والاستفزازُ: الاستخفافُ، وهو كِنايةٌ عن الإبعادِ [1335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/228).   .