موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (167-170)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

تَأَذَّنَ: أي: أعْلَمَ، وهو من آذَنْتُك بالأمرِ، والتأذُّنُ: مِن قَولِك: لأفعلَنَّ كذا، تريدُ به إيجابَ الفِعلِ، أي: سأفعَلُه لا محالةَ، وأصلُ (أذن): العِلمُ [2016] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 174)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140) ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/77)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 70)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 211)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 120). .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ: أي: جاءَ بَعدَهم، والخَلْف: الرَّدِيءُ مِن النَّاسِ ومِنَ الكلامِ، وأصلُ (خلف): مجيءُ شيءٍ بعدَ شيءٍ يقومُ مقامَه [2017] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 174)، (( مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (1/294)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 120)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 211). .
عَرَضَ هذا الْأَدْنَى: أي: ما يَعرِضُ لهم مِنَ الدُّنيا، وقيل: الرِّشوةُ في الحُكمِ، والعَرَضُ: ما لا يكونُ له ثباتٌ، والْأَدْنَى الأمرُ الأقربُ، وهي الدُّنيا [2018] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 560)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 211)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 120)، ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 659). .
مِيثَاقُ: الميثاقُ: عَقدٌ مُؤكَّدٌ بِيَمينٍ وعَهدٍ، أو العَهدُ المُحكَم، وأصله: العَقدُ والإحكامُ [2019] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (1/853). .
وَدَرَسُوا: أي: قَرَؤُوا، وأصلُه مِن: دَرَس العِلمَ، أي: تناوَلَ أثَرَه بالحِفظِ، ولَمَّا كان تناوُلُ ذلك بمداومةِ القِراءةِ، عبَّرَ عن إدامةِ القِراءةِ بالدَّرسِ [2020] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/268)، ((المفردات)) للراغب (1/311)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 196). .
يُمَسِّكُونَ: أي: يسْتَمْسكون ويعملونَ بِه، أو: يعتصمونَ به ويَقتَدونَ بأوامِرِه، ويتركونَ زواجِرَه، وأصلُ (مسك) يدلُّ على حَبسِ الشَّيءِ أو تحبُّسِه [2021] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/542)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/320)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 88). .

المعنى الإجمالي:

واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين أعلمَ ربُّك اليهودَ بما قَضاه عليهم، مِمَّا هو واقِعٌ بهم لا محالةَ، وذلك أنَّه سيُسَلِّطُ عليهم مَن يُذيقُهم أشَدَّ العذابِ، إنَّ ربَّك لَسريعُ العِقابِ، وإنَّه لغفورٌ رَحيمٌ.
ويخبِرُ تعالى أنَّه مَزَّقَ بني إسرائيلَ، فجَعَلَهم أمَمًا متفرِّقةً في أنحاءِ الأرضِ، منهم الصَّالحونَ، ومنهم دونَ ذلك، واختبَرَهم بالأحوالِ الحَسَنةِ والأحوالِ السيِّئةِ؛ لعلَّهم يرجعونَ، فجاء مِن بَعدِهم جيلُ سُوءٍ لا خيرَ فيهم، وَرِثُوا الكتابَ عَمَّن تقَدَّمَهم، يأخذونَ المالَ الحرامَ، وأضاعوا العملَ بالتَّوراة، ويقولونَ اغترارًا: سيَغفِرُ اللهُ لنا، وإن يأتِهم كَسْبٌ حرامٌ مِثلُ الأوَّلِ، يأخُذوه أيضًا؛ إصرارًا منهم على ذُنوبِهم، ألم يأخُذِ اللهُ على هؤلاءِ العَهدَ المؤكَّدَ في التَّوراةِ، بألَّا يَقولُوا على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وقَرَءُوا ما فيها وفَهِموها، والدَّارُ الآخرةُ خَيرٌ للَّذينَ يتَّقونَ، أفلا يعقِلُ هؤلاء الذينَ يأخُذونَ الحَرامَ، ويُخالِفونَ كِتابَ اللهِ.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الذين يعتصِمونَ بكتابِ اللهِ، ويَعملونَ بما فيه، وأقاموا الصَّلاةَ، هم مِن المُصلحين، واللهُ تعالى لن يُضِيعَ أجرَ المُصلحينَ.

تفسير الآيات:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قُبحَ فِعالِهم، واستعصاءَهم؛ أخبَرَ تعالى أنَّه حكَمَ عليهم بالذُّلِّ والصَّغارِ إلى يومِ القِيامةِ [2022] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/206). ، فقال تعالى:
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ
أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- حين أعلَمَ ربُّك اليهودَ بما قضاه عليهم، ممَّا هو واقعٌ بهم لا محالةَ [2023] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/529)، ((تفسير ابن كثير)) (3/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/154)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/290). .
كما قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء: 4- 8] .
لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
أي: أعلَمَهم مُؤكِّدًا لهم بأنَّه سيُرسِلُ ويُسَلِّطُ عليهم في الدُّنيا إلى يومِ القِيامةِ مَن يُذيقُهم [2024] قال القرطبي: (قيل: المرادُ بُختنصَّر. وقيل: العرب. وقيل: أمَّةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أظهَرُ؛ فإنَّهم الباقونَ إلى يومِ القيامةِ. والله أعلم). ((تفسير القرطبي)) (7/309). وقال ابنُ عطية: (الصَّحيحُ أنَّها عامَّةٌ في كلِّ مَن حالُ اليَهودِ معه هذه الحالُ). ((تفسير ابن عطية)) (2/471). وقال ابنُ كثيرٍ: (يقالُ: إنَّ موسى- عليه السَّلامُ- ضرَبَ عليهم الخَراجَ سَبْعَ سِنينَ. وقيل: ثلاثَ عَشرةَ سَنةً، وكان أوَّلَ مَن ضرَبَ الخَراجَ. ثم كانوا في قَهرِ الملوكِ مِن اليُونانيِّينَ والكشدانيِّينَ والكلدانيِّينَ، ثم صاروا إلى قَهرِ النَّصارى، وإذلالِهم إيَّاهم، وأخذِهم منهم الجزيةَ والخَراجَ، ثم جاء الإسلامُ ومحمَّدٌ- عليه أفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ- فكانوا تحت قَهرِه وذِمَّتِه يؤدُّونَ الخَراجَ والجزيةَ... ثم آخِرُ أمرِهم أنَّهم يَخرُجونَ أنصارًا للدَّجَّالِ، فيقتُلُهم المسلمونَ مع عيسى ابنِ مريمَ- عليه السَّلامُ- وذلك آخِرَ الزَّمانِ). ((تفسير ابن كثير)) (3/448). أشدَّ العَذابِ [2025] ذهَبَ بعضُ المُفَسِّرينَ إلى أنَّ العذابَ المذكورَ هنا مرادٌ به: الجزيةُ والإذلالُ. منهم: ابنُ عطيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/471). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/422). وممَّن رُوي عنه هذا القَولُ مِنَ السَّلَفِ ابنُ عَبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والسُّدِّي، ومجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1604)، ((تفسير ابن جرير)) (10/530)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/592). بسبَبِ كُفرِهم وعِصيانِهم، واحتيالِهم على المَحارِمِ [2026] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/530)، ((تفسير الزمخشري)) (2/173)، ((تفسير ابن كثير)) (3/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/156)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/290). قال ابن عاشور: (ومعنى البَعثِ الإرسالُ، .. وهو يُؤذِنُ بأنَّ ذلك في أوقاتٍ مُختلفةٍ، وليس ذلك مُستمِرًّا يومًا فَيومًا، ولذلك اختِيرَ فِعل: لَيَبْعَثَنَّ دون نحو: (لَيُلزِمنَّهم)، وضُمِّن معنى التَّسليط فعُدِّي بعلى؛ كقوله: بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء: 5] ، وقَولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ [الأعراف: 133] . وإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ غايةٌ لِما في القَسَمِ مِن معنى الاستقبالِ... أي: أنَّ اللهَ يُسَلِّطُ عليهم ذلك في خِلالِ المُستقبَلِ كُلِّه، والبَعثُ مُطلَقٌ لا عامٌّ... والآيةُ تُشيرُ إلى وَعيدِ اللهِ إيَّاهم بأن يُسَلِّطَ عليهم عَدُوَّهم كلَّما نقَضُوا ميثاقَ اللهِ تعالى، وقد تكرَّر هذا الوعيدُ مِن عَهدِ موسى عليه السَّلامُ إلى هلمَّ جَرًّا ... وأوَّلُ مَن سُلِّط عليهم بختنصَّر ملك بابل، ثم توالت عليهم المصائِبُ، فكان أعظَمَها خرابُ (أورشليم)... ولم تَزَل المصائِبُ تنتابهم، ويُنَفَّسُ عليهم في فَتَراتٍ معروفةٍ في التَّاريخِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/155 - 156). وقال الشنقيطيُّ: (وفي هذه الآيةِ مِن سورة الأعراف تأذَّنَ اللهُ وأعلَمَ أنَّه سَلَّط عليهم مَن يَسومُهم سُوءَ العَذابِ، إلَّا أنَّهم يَرُدُّ اللهُ لهم الكرَّةَ حتى يجتمِعُوا ويكونوا أمَّةً؛ لأنَّهم لو بَقُوا مُقَطَّعينَ في الأرضِ، لن تقومَ لهم قائمةٌ -كما قال: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا [الأعراف: آية 168]- ولم يكُنِ العذابُ والهلاكُ، ولم يجِدْ مَوقعًا يقَعُ عليه، فصار مِن عادةِ اللهِ أن يرُدَّ لهم الكرَّةَ، ويجعَلَهم أمَّةً حتى يكونوا أمَّةً فيُسَلِّطَ عليهم مَن يُعَذِّبُهم؛ ليكونَ العَذابُ واقعًا مَوقِعَه). ((العذب النمير)) (4/292). .
كما قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران: 112].
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ
أي: إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- يعاقِبُ الكُفَّارَ والعصاةَ بلا تأخيرٍ، إذا حلَّ وقتُ عَذابِهم [2027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/533)، ((الوسيط)) للواحدي (2/422)، ((تفسير ابن كثير)) (3/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/156)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/292). .
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: وإنَّ ربَّك كثيرُ المغفرةِ لِعبادِه التَّائبينَ، فيستُرُ ذُنوبَهم، ولا يعاقِبُهم بها، رحيمٌ بهم؛ إذ يَقبَلُ توبَتَهم، ويتقَبَّل طاعاتِهم، ويُثيبُهم عليها [2028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/533)، ((تفسير ابن كثير)) (3/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/156-157)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/293). .
كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ الله تعالى بالتأذُّنِ، كان كأنَّه قيل: (فأسرَعْنا في عقابِهم بذنوبِهم، وبعثْنا عليهم مَن سامَهم سوءَ العذابِ بالقتل والسبيِ)، فعَطَف عليه قولَه: وَقَطَّعْنَاهُمْ- أي: بسبَبِ ما حصل لهم مِن السَّبيِ المترتِّبِ على العذابِ- تقطيعًا كثيرًا، بأنْ أكثَرْنا تَفريقَهم [2029] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/145). .
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا
أي: ومزَّقْنا بني إسرائيلَ في أقطارِ الأرضِ، إلى جماعاتٍ مُتفَرِّقةٍ؛ بحيثُ لا تَخلو ناحيةٌ من الأرضِ مِنهم [2030] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/533)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/157)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/293). .
مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ
أي: مِن بني إسرائيلَ الصَّالحونَ الذين يُؤمِنونَ باللهِ ورُسُلِه، ومنهم مَن انحطَّت رُتبَتُهم عن مَرتبةِ الصَّلاحِ، فكانوا عُصاةً مُذنبينَ، أو كَفرةً مُجرمينَ [2031] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/534)، ((تفسير ابن عطية)) (2/471)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/158)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/295). قال ابنُ جريرٍ: (وإنَّما وَصَفَهم اللهُ جلَّ ثناؤه بأنَّهم كانوا كذلك، قبلَ ارتدادِهم عن دِينِهم وقبلَ كُفرِهم برَبِّهم، وذلك قبلَ أن يُبعَثَ فيهم عيسى بنُ مريمَ صَلواتُ اللهِ عليه). ((تفسير ابن جرير)) (10/534). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/471). وقال الشنقيطي: (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ منهم قَومٌ صالِحونَ مُطيعونَ للهِ، وهمُ الذين كانوا على  شَرعِ موسى بنِ عِمران، لم يُغَيِّروا ولم يُبَدِّلوا حتى ماتوا على ذلك، أو أدرَكُوا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلم فآمَنُوا به، كعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ). ((العذب النمير)) (4/293). .
كما قال تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66] .
وقال سبحانه: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 113-114] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 52-54] .
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
أي: واختبَرْنا بني إسرائيلَ بالأحوالِ الحَسَنةِ؛ كالرَّخاءِ والخِصبِ والعافيةِ تارةً، وبالأحوالِ السيِّئةِ؛ كالشِّدَّةِ والجَدْبِ والأمراضِ تارةً أخرى [2032] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/534)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/158)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/295 - 296). قال ابن عاشور: (أي أظهَرْنا مختَلِفَ حالِ بني إسرائيلَ في الصَّبرِ والشُّكرِ، أو في الجَزَع والكُفر؛ بسبَبِ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/158). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 94-95] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] .
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
أي: اختبَرْنا بني إسرائيلَ بالخَيرِ والشَّرِّ؛ ليتُوبُوا ويَرجِعوا عن مَعصيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى طاعَتِه [2033] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/534)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/158)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/296 - 297). .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ
أي: فجاء بعد أولئكَ القَومِ- الَّذينَ كان منهم صالِحونَ، ومِنهم دونَ ذلك- جيلُ سُوءٍ لا خير فيه، قد أخَذُوا التَّوراةَ مِن أسلافِهم، وعَلِمُوا ما فيها مِن الأحكامِ [2034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/534)، ((تفسير الرازي)) (15/395)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/296-297). ظاهِرُ كلامِ ابنِ جَريرٍ، واختيارُ ابن كثير؛ أنَّ المرادَ بِقَولِه تعالى: مِنْ بَعْدِهِمْ أي: مِن بعدِ الجِيلِ الذينَ منهم الصَّالحون، ومنهم دونَ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/534)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498). وقيل بل المرادُ: مِن بَعدِ القَومِ الصَّالحينَ مِن بني إسرائيلَ، وهذا اختيارُ الرازي، والشنقيطيِّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/395)، ((العذب النمير)) (4/297). .
يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
أي: إنَّ خَلْفَ السُّوءِ- الَّذين وَرِثُوا التَّوراة- يأخذونَ المالَ الحَرامَ؛ مِن الرِّشوةِ وغَيرِها مِن مَتاعِ الدُّنيا الزَّائل، وأضاعوا العَمَل بالتَّوراةِ [2035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/536)، ((تفسير ابن عطية)) (2/472)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/298-299). قال ابنُ عاشورٍ: (والعَرَض- بفتح العين وفتح الراء- الأمرُ الذي يَزولُ ولا يدومُ، ويُرادُ به المالُ، ويُراد به أيضًا ما يَعرِضُ للمرءِ مِن الشَّهواتِ والمنافِعِ، والأدنى: الأقرَبُ مِن المكانِ، والمرادُ به هنا الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (9/161). .
كما قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 79-80] .
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا  
أي: ويقولُ هؤلاءِ الَّذينَ يأخُذونَ المالَ الحَرامَ، ويُخالِفونَ كِتابَ اللهِ تعالى، يقولونَ- اغترارًا وتمنِّيًا على اللهِ الباطِلَ-: سيغفِرُ اللهُ لنا ذُنوبَنا هذه [2036] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/535)، ((تفسير ابن عطية)) (2/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/301). قال السَّعدي: (هذا قولٌ خالٍ مِن الحقيقةِ؛ فإنَّه ليس استغفارًا وطلبًا للمَغفرةِ على الحقيقةِ. فلو كان ذلك لنَدِموا على ما فَعَلوا، وعَزَموا على ألَّا يعودوا، ولكنَّهم- إذا أتاهم عَرَضٌ آخَرُ، ورِشوةٌ أخرى- يأخذونَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 307). .
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ
أي: وإن جاء أولئك اليهودَ كَسبٌ حرامٌ مِن متاعِ الدُّنيا الزائِلِ، مِثل الكَسبِ السَّابِقِ؛ استَحَلُّوه، وتناوَلُوه مَرَّةً ثانيةً؛ إصرارًا منهم على ذُنوبِهم، فهم مُنهَمِكونَ في أخذِ الحَرامِ، ومع هذا يزعُمونَ أنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُ لهم [2037] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/536)، ((تفسير أبي حيان)) (5/215)، ((تفسير ابن كثير)) (3/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/301). !
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
أي: ألم يأخُذِ اللهُ على أولئك اليَهودِ- الذينَ وَرِثُوا التَّوراةَ، وأكلوا تلك المكاسِبَ الخبيثةَ- العهدَ المؤكَّدَ في التَّوراةِ بأن يُبَيِّنوا الحقَّ للنَّاسِ، ولا يَكذِبوا على اللهِ سُبحانَه [2038] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/540)، ((تفسير ابن كثير)) (3/499)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/162 - 163)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/303)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/42). ؟!
كما قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران: 187] .
وَدَرَسُوا مَا فِيهِ
أي: والحالُ [2039] هذا اختيارُ الشَّوكاني والسَّعدي؛ أنَّ الجملةَ حاليَّةٌ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307). وذهب الزمخشريُّ، وابنُ عطية، وابنُ عاشور إلى أنَّ قولَه تعالى: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ معطوفٌ على يُؤْخَذْ مِن قَولِه تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ، فيكون المعنى: ألم يؤخَذْ عليهم... وألم يَدرُسوا ما فيه. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/174)، ((تفسير ابن عطية)) (2/472)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/163). ويُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (3/488). وقال ابنُ جرير: (وأمَّا قَولُه: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ فإنَّه مَعطوفٌ على قَولِه: وَرِثُوا الْكِتَابَ ومعناه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ، وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). ((تفسير ابن جرير)) (10/540). قال ابنُ عطيَّةَ مُعَقِّبًا: (وفي هذا نظَرٌ؛ لِبُعدِ المعطوفِ عليه؛ لأنَّه قوله: وَدَرَسُوا يزولُ منه معنى إقامةِ الحُجَّةِ بالتقديرِ الذي في قَولِه: أَلَمْ). ((تفسير ابن عطية)) (2/473). أنَّهم قد قَرَؤوا كتابَ اللهِ، وعَلِموا ما فيه، وفَهِموا معانِيَه [2040] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/540)، ((تفسير البغوي)) (2/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/303). .
وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
أي: وما أعدَّه اللهُ تعالى في الآخرةِ مِن ثوابٍ ونعيمٍ، خيرٌ للَّذين يمتَثِلونَ ما أمرَ اللهُ تعالى به، ويجتنبونَ ما نهى عنه، من هذا الحُطامِ الدُّنيويِّ الفاني، أفلا يكونُ لكم عَقلٌ- يا من تأخُذونَ الحرامَ، وتُخالِفونَ كِتابَ الله- تنظرونَ به إلى العَواقِبِ، فتعلمونَ أنَّ ما عِندَ الله خيرٌ مِن هذا العَرَضِ القَليلِ الزَّائلِ الذي تستعجِلونَه في الدُّنيا، وترتَدِعونَ به عن التَّهافُتِ على هذا الكَسبِ الحَرامِ المُورِث لخزي الدُّنيا والآخرةِ [2041] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/541)، ((تفسير أبي حيان)) (5/211)، ((تفسير ابن كثير)) (3/499)، ((تفسير الشوكاني)) (2/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307). قال ابنُ عاشور: (وجملةُ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ حاليَّةٌ مِن ضميرِ يَأْخُذُونَ أي: يأخذونَ ذلك، ويَكذِبونَ على اللهِ، ويُصِرُّونَ على الذَّنبِ، ويَنبِذونَ مِيثاقَ الكِتابِ، على علمٍ، في حالِ أنَّ الدَّارَ الآخرةَ خَيرٌ مِمَّا تعجَّلوه). ((تفسير ابن عاشور)) (9/163). ؟!
كما قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] .
وقال سبحانَه: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17] .
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
وقعَت جملةُ: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ... إلى آخِرِها عقِبَ التي قَبلَها؛ لأنَّ مَضمونَها مُقابِلُ حُكمِ التي قَبلَها؛ إذ حصل مِن التي قَبلَها أنَّ هؤلاءِ الخَلْفَ الذين أخَذُوا عَرَض الأدنى، قد فرَّطوا في مِيثاقِ الكِتابِ، ولم يكونوا مِن المتَّقينَ، فعقَّبَ ذلك ببشارةِ مَن كانوا ضِدَّ أعمالِهم، وهم الآخِذونَ بمِيثاقِ الكِتابِ، والعامِلونَ ببِشارَتِه بالرُّسُل، وآمَنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأولئك يستكملِونَ أجرَهم؛ لأنَّهم مُصلِحونَ [2042] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/164). .
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ
أي: والَّذينَ يعتَصِمونَ بكِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَعملونَ بما فيه [2043] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/542)، ((تفسير ابن كثير)) (3/499)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307). قال السمعاني: (قيل: هذا في أمَّة مُحَمَّد. وَقيل: هو فيمَن أسلَمَ من اليَهودِ، يُمَسِّكونَ بالقرآنِ، وأقاموا الصَّلاةَ). ((تفسير السمعاني)) (2/229). وقال ابنُ عاشور: (فالمرادُ مِن هؤلاءِ هم مَن آمَنَ مِن اليهودِ بعيسى في الجُملةِ، وإن لم يتَّبِعوا النَّصرانيَّة؛ لأنَّهم وجدوها مُبدَّلةً مُحرَّفةً، فبَقُوا في انتظارِ الرَّسولِ المُخَلِّص الذي بشَّرَت به التوراةُ والإنجيلُ، ثمَّ آمنوا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين بُعث: مثل عبد الله بن سَلَام، ويحتمِلُ أنَّ المرادَ بالَّذين يُمسِّكونَ بالكِتابِ: المسلمونَ؛ ثناءً عليهم بأنَّهم الفائزونَ في الآخِرةِ، وتبشيرًا لهم بأنَّهم لا يَسلُكونَ بكِتابِهم مَسلَك اليَهودِ بكِتابِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (9/164 - 165). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/297). .
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
أي: وحافَظُوا على الصَّلاةِ، وأقامُوها بحدُودِها [2044] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/303). .
  إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
أي: فمَن تمسَّك بالكِتابِ، وأقام الصَّلاةَ، فهو مِن المُصلحينَ، الذين يُصلِحونَ أنفُسَهم وأعمالَهم، ويُصلِحونَ غَيرَهم، ونحنُ لا نُضيعُ ثوابَهم [2045] يُنظر: ((المصادر السابقة)). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] .
وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29-30] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قلَّما ذكَرَ اللهُ عذابَ الفاسِقينَ المُفسدينَ، إلَّا وقَرَنه بذِكرِ المغفرةِ والرَّحمةِ للتَّائبينَ المُحسنينَ، حتى لا ييأسَ صالحٌ مُصلِحٌ مِن رَحمَتِه بذَنبٍ عَمِلَه بجهالةٍ، ولا يأمَنَ مُفسِدٌ مِن عِقابِه؛ اغترارًا بِكَرمِه وعَفوِه، وهو مُصِرٌّ على ذَنبِه [2046] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/322). .
2- قال الله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَكلُّ واحدٍ مِن الحَسَناتِ والسيِّئاتِ يدعو إلى الطَّاعةِ، أمَّا النِّعَمُ فلأجْلِ التَّرغيبِ، وأمَّا النِّقَمُ فلأجلِ التَّرهيبِ [2048] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/395). .
3- ما أعَدَّه اللهُ في الآخرةِ للَّذينَ يتَّقونَ الرَّذائِلَ والمعاصيَ، خيرٌ مِن الحُطامِ الفاني مِن عَرَضِ الدُّنيا؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [2049] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/323). .
4- قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى هذه الآيةُ وإن كانَت في اليهودِ، فكُلُّ مَن فَعَل فِعلَهم فهو أخُوهم، ينالُه مِن وَعيدِها وعذابِها ما نالَهم، فيجِبُ على المُسلمِ إذا كان في مَنصِبٍ يُوصَلُ فيه الحقُّ لصاحِبِه بإنابةِ مَن بَسَط اللهُ يَدَه، ألَّا يُغَيِّرَ أحكامَ اللهِ، ويأخُذَ الرِّشا بدلًا منها؛ فإنَّه إن أخذَ الرِّشوةَ وغَيَّرَ وبدَّلَ، فهو أخو اليَهودِ، وهو مِن هذا الخَلْفِ السَّيِّئِ القبيحِ [2050] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/299). .
5- إذا ما وُجدَ مُسلِمٌ أو من يَدَّعي أنَّه مُسلِمٌ، ينتَهِكُ حُرُماتِ اللهِ، ويُصِرُّ ويثِقُ بالمغفرةِ؛ فاعلَمْ أنَّه مغرورٌ، وأنَّه أخو اليهودِ؛ قال تعالى عنهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [2051] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/301). .
6- قولُ اللهِ تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَد عُلِمَ من الآيةِ أنَّ الطَّمَعَ في متاعِ الدُّنيا هو الذي استحوَذَ على بني إسرائيلَ، فأفسَدَ عليهم أمْرَهم، ولا يزالُ هذا التَّفاني فيه أخَصَّ صفاتِهم، وقد سرى شيءٌ كثيرٌ مِن هذا الفَسادِ إلى المُسلمينَ، حتى  أولئك الذين وَرِثُوا الكتابَ الكَريمَ، والقرآنَ الحَكيمَ، ودَرَسوا ما فيه، غَلَب على كثيرٍ منهم الطَّمَعُ في حُطامِ الدُّنيا القليلِ، وعَرَضِها الدَّنيءِ، والغُرورُ بالنِّسبةِ إلى الإسلامِ والتَّحلِّي بلَقَبِه، والتعَلُّلُ بأماني المغفرةِ، مع الإصرارِ على الذَّنبِ، والاتِّكالِ على المُكَفِّراتِ والشَّفاعات، وهم يَقرَؤونَ ما في الكتابِ مِن النَّهيِ عن الأمانيِّ والأوهامِ، ومِن نَوْطِ الجزاءِ بالأعمالِ، والمغفرةِ بالتَّوبةِ والإصلاحِ، وكَونِ الشَّفاعةِ لا تقَعُ إلَّا بإذنِ اللهِ لِمَن رَضِيَ عنه، بل ما قَصَّ اللهُ علينا مِثلَ هذه الآياتِ مِن أخبارِ بني إسرائيلَ إلَّا لنَعتبِرَ بأحوالِهم، ونتَّقِيَ الذُّنوبَ التي أخَذَهم بها، ولكِنَّنا مع هذا كُلِّه اتَّبَعْنا سُنَنَهم شبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذِراعٍ [2052] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/323). .
7- قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي: يُمسِكونَ إمساكًا شديدًا يتجَدَّدُ على وجهِ الاستمرارِ، وهو إشارةٌ إلى أنَّ التمَسُّكَ بالسُّنَّةِ في غاية الصعوبةِ، لا سيَّما عند ظُهورِ الفَسادِ [2054] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/149). .
8- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ يدلُّ على أنَّ اللهَ بعَثَ رُسُلَه- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- بالصَّلاحِ لا بالفَسادِ، وبالمنافِعِ لا بالمضارِّ، وأنَّهم بُعِثوا بصلاحِ الدَّارَينِ، فكلُّ من كان أصلَحَ، كان أقرَبَ إلى اتِّباعِهم [2055] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:307). .
9- فى التعبيرِ بقولِه: الْمُصْلِحِينَ إشارةٌ إلى أنَّ تَمْسيكَهم للكتابِ يتجاوزُ الإمساكَ إلى الدعوةِ إليه [2056] يُنظر: ((زهرة التفاسير)) لأبي زهرة (6/3001). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا ... المقصودُ هو ذَمُّ الخَلْفِ بأنَّهم يأخُذُونَ عَرَضَ الأدنى، ويقولونَ سيُغفَرُ لنا، ومَهَّدَ لذلك بأنَّهم وَرِثُوا الكتابَ؛ ليَدُلَّ على أنَّهم يفعلونَ ذلك عَن عِلمٍ لا عَن جهلٍ، وذلك أشَدُّ مَذمَّةً [2057] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/160). .
قولُ اللهِ تعالى: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا لَمَّا كان النَّافِعُ الغفرانَ مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى مُعيَّنٍ، بنَوُا الفِعلَ للمَفعولِ، ومن غيرِ شَكٍّ [2058] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/147). .
قولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ بنى الفِعلَ للمَفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّ العَهدَ يَجِبُ الوفاءُ به على كلِّ حالٍ [2059] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/148). .
قولُ اللهِ تعالى: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ لَمَّا كان مِن تَمسيكِهم بالكتابِ عند نُزولِ هذا الكلامِ انتقالُهم عن دِينِهم إلى الإسلامِ؛ عَبَّرَ عن إقامةِ الصَّلاةِ المعهودةِ لهم بلَفظِ الماضي دونَ المُضارعِ؛ لِئلَّا يَجعلُوه حجَّةً في الثَّباتِ على دينِهم، فيُفيدَ ضِدَّ المرادِ [2060] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/149). .

بلاغة الآيات:

قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
قوله: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى استئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ ما يَصنَعونَ بالكِتابِ بَعدَ وِراثَتِهم إيَّاه، أي: يأخُذونَ حُطامَ هذا الشَّيءِ الأدنى، أي: الدُّنيا [2061] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/288).  .
قَولُه: عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى في اسمِ الإشارةِ إيماءٌ إلى تَحقيرِ هذا العَرَضِ الذي رَغِبُوا فيه [2062] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/161). .
قوله: وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا معطوفةٌ على جُملةِ يَأْخُذُونَ لأنَّ كِلَا الخَبَرينِ يُوجِبُ الذَّمَّ، واجتماعُهما أشَدُّ في ذلك [2063] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/162). .
قَولُه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ الاستفهامُ للتَّقريرِ المقصودِ منه التَّوبيخُ [2064] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/162). .
قوله: وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ كنايةٌ عَن كَونِهم خَسِروا خيرَ الآخرةِ بأخذِهم عَرَضَ الدُّنيا بتلك الكيفيَّةِ؛ لأنَّ كَونَ الدَّارِ الآخرةِ خَيرًا مِمَّا أخَذُوه، يستلزِمُ أن يكونَ ما أخَذُوه قد أفات عليهم خَيرَ الآخرةِ [2065] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/163، 164). .
وفي جَعْلِ الآخرةِ خيرًا للمُتَّقينَ كنايةٌ عن كَونِ الذين أخَذُوا عَرَضَ الدُّنيا بتلك الكيفيَّةِ لم يكونوا مِن المتَّقينَ؛ لأنَّ الكنايةَ عَن خسرانِهم خَيرَ الآخرةِ، مع إثباتِ كَونِ خَيرِ الآخرةِ للمُتَّقينَ، تستلزِمُ أنَّ الذينَ أضاعوا خَيرَ الآخرةِ لَيسُوا من المتَّقينَ [2066] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/163، 164). .
قَولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ الاستفهامُ هنا إنكاريٌّ، وفي (تَعْقِلُونَ) التفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخطابِ؛ ليكونَ أوقَعَ في توجيهِ التَّوبيخِ إليهم مُواجهةً [2067] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/163). .
قولُه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ خصَّ الصَّلاةَ بالذِّكرِ، مع دُخُولِها فيما قبلهَا، فالتمسُّكُ بالكتابِ يشتَمِلُ على كلِّ عبادةٍ، ومنها إقامةُ الصَّلاةِ؛ إظهارًا لعُلُوِّ مَرتَبَتِها؛ لكونِها عمادَ الدِّينِ، وأعظَمَ العباداتِ بعد الإيمانِ، وناهيةً عن الفحشاءِ والمُنكَرِ، ولِكَونِها ميزانَ الإيمانِ، وإقامَتِها داعيةً لإقامةِ غَيرِها مِن العِباداتِ [2068] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/175)، ((تفسير الرازي)) (15/396-397)،  ((فتح الرحمن))للأنصاري (1/210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 307). .
قوله: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ خبرٌ عن الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ، والمُصلِحونَ هم، والتقديرُ: إنَّا لا نُضيعُ أجرَهم؛ لأنَّهم مُصلِحونَ، فطُوِيَ ذِكرُهم؛ اكتفاءً بشُمولِ الوَصفِ لهم، وثناءً عليهم، على طريقةِ الإيجازِ البَديعِ [2069] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/164). .