موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: الأسبابُ التي دعَت المُعتَزِلةَ إلى تحكيمِ العقلِ تحكيمًا مُطلَقًا


تطوَّر أمرُ العقلِ عندَ المُعتَزِلةِ، حتَّى ضاهَوا الشَّرعَ بعُقولِهم، وجعَلوه حاكِمًا على النُّصوصِ لا محكومًا لها [1490] يُنظر: ((نقض أصول العقلانيين)) للخراشي (نشرة إلكترونية). .
وقد أنكَروا حقائِقَ كثيرةً أثبَتها أهلُ السُّنَّةِ استِنادًا إلى النُّصوصِ، فأنكَرها المُعتَزِلةُ استِنادًا إلى العقلِ المُجرَّدِ منها.
فمِن ذلك تمرُّدُ بعضِ أعلامِ المُعتَزِلةِ كالنَّظَّامِ على الاعتِقادِ بوُجودِ الجِنِّ [1491] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/ 58). .
وثار الزَّمَخشَريُّ ضدَّ مَن يقولُ بأنَّ للجِنِّ قوَّةَ تأثيرٍ في الإنسانِ معَ اعتِرافِه بوُجودِهم، وأنكَروا أيضًا أنَّ للسِّحرِ حقيقةً، وأنَّه لا تأثيرَ له إلَّا إذا كان ثَمَّ إطعامُ شيءٍ ضارٍّ أو سَقيُه أو إشمامُه أو مُباشَرةُ المسحورِ به على بعضِ الوُجوهِ، ولكنْ قد يُجري اللهُ ذلك على سبيلِ الامتِحانِ؛ فيَنسُبُه الرَّعاعُ إلى السَّاحِراتِ ونَفثِهنَّ [1492] ((الكشاف)) (4/301). .
(جاء أوَّلُ المائةِ الثَّالثةِ، وولِي على النَّاسِ عبدُ اللهِ المأمونُ، وكان يُحبُّ أنواعَ العُلومِ، وكان مَجلِسُه عامِرًا بأنواعِ المُتكلِّمينَ في العُلومِ، فغلَب عليه حُبُّ المعقولاتِ؛ فأمَر بتعريبِ كُتبِ اليونانِ، وأقدَم لها المُترجِمينَ مِن البِلادِ، فعُرِّبت له، واشتغَل بها النَّاسُ، والمَلِكُ سُوقٌ ما سُوِّقَ فيه جُلِب إليه، فغلَب على مَجلِسِه جماعةٌ مِن الجَهميَّةِ ممَّن كان أبوه الرَّشيدُ قد أقصاهم وتتبَّعهم بالحَبسِ والقَتلِ، فحَشَوا بِدعةَ التَّجهُّمِ في أذُنِه وقلبِه، فقبِلها واستحسَنها، ودعا النَّاسَ إليها، وعاقَبهم عليها) [1493] ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1069). .
ومنذُ ذلك الحينِ تميَّزَت فِرقةُ أهلِ الاعتِزالِ بمُغالاتِها في العقلِ ومقاييسِه، وتقديمِه على ما يُظَنُّ مُخالِفًا له مِن النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وعُرِفَت بذلك بَينَ فِرَقِ الإسلامِ المُختلِفةِ.
والذي دعاهم إلى هذا الالتِفافِ حولَ العقلِ أمورٌ كثيرةٌ؛ منها:
أوَّلًا: أخْذُهم مِن تُراثِ الأوَّلينَ مِن فلاسِفةِ اليونانِ ممَّن لم ينعَموا بمُصاحَبةِ وَحيٍ إلهيٍّ يقودُ مسيرتَهم، فصاروا يقضونَ في شُؤونِهم كُلِّها بهذا العقلِ الذي زادوا مِن سُلطانِه وانفِرادِه؛ فكانت مُصنَّفاتُ أولئك الفلاسِفةِ تضمُّ المقاييسَ العقليَّةَ في شكلِ مَنطِقٍ يُتَحاكَمُ إليه في القضايا العقليَّةِ، فتابَعهم في ذلك المُتكلِّمونَ والمُعتَزِلةُ مِن أهلِ الإسلامِ، وأُعجِبوا بصنيعِهم ذلك، وكُلُّ هذا بفَضلِ جُهودِ التَّرجمةِ التي قام بها بعضُ الخُلَفاءِ، فأوقَعوا الأمَّةَ في هذه المصائِبِ المُتتاليةِ مِن حيثُ ظنُّوا أنَّهم يُحسِنونَ صُنعًا بها، ويشهَدُ لذلك: أنَّ المُعتَزِلةَ لم يَعلُ صيتُهم وتظهَرْ عقلانيَّتُهم واضِحةً إلَّا في عهدِ الخليفةِ المأمونِ الذي مهَّد السَّبيلَ للاقتِباسِ مِن كُتبِ اليونانِ وأعانهم عليها، حتَّى أحدثَت الفلسفةُ في حياتِهم انقِلابًا خطيرًا، وفي تفكيرِهم ثورةً عنيفةً؛ لأنَّهم بَعدَ أن وقَفوا على مواضيعها وتعمَّقوا فيها أحبُّوها لذاتِها وتعلَّقوا بها؛ فنتَج عن ذلك أمرانِ:
أنَّهم صاروا يُعظِّمونَ فلاسِفةَ اليونانِ، وينظُرونَ إليهم نظرةً أسمى وأقدَسَ مِن نظرتِنا إليهم اليومَ، ويضعونَهم في مَرتَبةٍ تقرُبُ مِن عَتبةِ النُّبوَّةِ، ثُمَّ آمَنوا بأقوالِهم واعتبَروها -كما يقولُ أُولِيري- "مُكمِّلةً لتعاليمِ دينِهم"! وانهَمكوا لذلك في إظهارِ الاتِّفاقِ الجوهَريِّ بَينَها، فبدأ عَملُ المُعتَزِلةِ الآخَرُ المُهمُّ؛ ألا وهو التَّوفيقُ بَينَ الدِّينِ الإسلاميِّ وبَينَ الفلسفةِ اليونانيَّةِ؛ ذلك العَملُ الذي ترَكوه لمَن خَلفَهم مِن الفلاسِفةِ المُسلِمينَ؛ كابنِ رُشدٍ، والفارابيِّ، والكِنديِّ، الذين قاموا بنَصيبِهم فيه، وكانوا لا يَقِلُّونَ عنهم عِنايةً به وتحمُّسًا له.
إنَّ المُعتَزِلةَ أخَذوا يبتعِدونَ عن أهدافِهم الدِّينيَّةِ، ويُهمِلونَ تدريجيًّا عقائِدَهم اللَّاهوتيَّةَ، ويزدادونَ انصِرافًا إلى المسائِلِ الفلسفيَّةِ، حتَّى جاء وقتٌ كادت جُهودُهم فيه تقتصِرُ على البَحثِ في مواضيعِ الفلسفةِ البَحتةِ؛ كالحركةِ والسُّكونِ، والجوهَرِ والعَرَضِ، والموجودِ والمعدومِ، والجُزءِ الذي لا يتجزَّأُ.
إنَّ اشتِغالَ المُعتَزِلةِ بالتَّوفيقِ بَينَ الدِّينِ والفلسفةِ، وشَغَفَهم بالأبحاثِ الفلسفيَّةِ، وتعمُّقَهم فيها؛ جعَلهم يتأثَّرونَ بالفلسفةِ كثيرًا، ويَصبُغونَ بها مُعظَمَ أقوالِهم، ولهذا قال شتينـز: (إنَّ الاعتِزالَ في تطوُّراتِه الأخيرةِ كان أكثَرُه مُتأثِّرًا بالفلسفةِ اليونانيَّةِ) [1494] ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 49). .
قال ابنُ صاعِدٍ في "طَبَقاتِ الأمَمِ": (لمَّا أفضَت الخلافةُ إلى المأمونِ تمَّم ما بدأ به جدُّه المنصورُ، فأقبَل على طَلبِ العِلمِ مِن مواطِنِه، واستِخراجِه مِن معادِنِه بفَضلِ همَّتِه الشَّريفةِ، وقوَّةِ نَفسِه الفاضِلةِ، فداخَل مُلوكَ الرُّومِ وأتحَفهم، وسألهم صِلتَه بما لديهم مِن كُتبِ الفلاسِفةِ، فبعَثوا إليه بما حضَرهم مِن كُتبِ أفلاطونَ وأَرِسطو وبُقراطَ…، وغَيرِهم مِن الفلاسِفةِ، فاختار لها مَهَرةَ التَّراجِمةِ، وكلَّفهم إحكامَ ترجمتِها، فتُرجِمَت له على غايةِ ما يُمكِنُ، ثُمَّ حضَّ النَّاسَ على قراءتِها، ورغَّبهم في تعليمِها) [1495] ((الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي)) للبهي (ص: 169). .
والذي دعاه إلى هذه الهِمَّةِ في التَّرجمةِ تشرُّبُه بمبدَأِ الاعتِزالِ القائِمِ على العقلِ ومقاييسِه، واستِصغارُه لنُصوصِ الوَحيِ -لا سيَّما الحديثِ- أن تفيَ بحاجاتِ الأمَّةِ، إضافةً إلى جُلَساءِ السُّوءِ مِن رموزِ الاعتِزالِ، وما يُذكَرُ عنه مِن حُبِّه للاطِّلاعِ والاستِزادةِ مِن ثقافاتِ الآخَرينَ.
ثانيًا: ممَّا جعَلهم يَنحُونَ هذا الاتِّجاهَ العَقلانيَّ ضَعفُهم في مجالِ الرِّوايةِ، وجَهلُهم بعِلمِ الحديثِ النَّبويِّ، واقتصارُهم على بعضِ آياتِ القرآنِ، وبعضِ الأحاديثِ التي رأَوا أنَّها تُؤيِّدُ أقوالَهم، فهذا الضَّعفُ في عِلمِ الحديثِ قد ألجَأهم إلى المعقولاتِ؛ ليُعوِّضوا بها ما عندَهم مِن نقصٍ، ويسُدُّوا به ثَغَراتِ مذهَبِهم.
وهذا مِصداقُ ما رُوِي عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه قال: (إنَّ أصحابَ الرَّأيِ أعداءُ السُّنَّةِ أعيَتهم الأحاديثُ أن يحفَظوها، وتفلَّتَت منهم فلم يَعوها، واستحيَوا حينَ سُئِلوا أن يقولوا: لا عِلمَ لنا؛ فعارَضوا السُّنَّةَ برأيِهم، إيَّاك وإيَّاهم) [1496] أورده قوام السنة في ((الحجة في بيان المحجة)) (1/195) .
وممَّا صدَّ كثيرًا منهم عن طَلبِ الحديثِ والسَّعيِ وراءَ حَلَقاتِه ما رأَوه مِن كثرةِ الوضعِ وانتِشارِ الأحاديثِ الضَّعيفةِ بَينَ رُواةِ الحديثِ، واختِلاطِها بالصَّحيحِ منه، وكان مِن تلك الأحاديثِ ما يُعارِضُ المعقولَ؛ فظنُّوا لجَهلِهم أنْ لا ضابِطَ يُفرِّقُ بَينَ الصَّحيحِ والسَّقيمِ منها، وإن زعَم ذلك أهلُ الحديثِ، فرأَوا أنَّ الرَّأيَ الصَّائِبَ أن يَدَعوا صحيحَها وسقيمَها، وأن يقتصِروا على ما يُوافِقُ بِدَعَهم وآراءَهم منها.
ولا يخفى على دارِسٍ أنَّ الأحاديثَ قد دُسَّ في جُملتِها -لأغراضٍ شتَّى- الموضوعاتُ والمكذوباتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى راجَت على بعضِ العُلماءِ؛ فاحتجُّوا بها لا في الفِقهِ وحدَه، بل في أمورِ العقيدةِ، خاصَّةً مسائِلَ الصِّفاتِ؛ ولذا أنكَر بعضُ المُحقِّقينَ كابنِ قُدامةَ تلك الأحاديثَ الضَّعيفةَ والموضوعةَ، وروايتَها ضمنَ عقائِدِ السَّلفِ.
قال ابنُ قُدامةَ: (ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ الأخبارَ الصَّحيحةَ التي ثبتَت بها صفاتُ اللهِ تعالى هي الأخبارُ الصَّحيحةُ الثَّابِتةُ بنَقلِ العُدولِ الثِّقاتِ التي قبِلها السَّلفُ ونقلوها، ولم يُنكِروها ولا تكلَّموا فيها.
وأمَّا الأحاديثُ الموضوعةُ التي وضَعَتها الزَّنادقةُ ليَلبِسوا بها على أهلِ الإسلامِ، أو الأحاديثُ الضَّعيفةُ إمَّا لضَعفِ رُواتِها أو جهالتِهم أو لعلَّةٍ فيها- فلا يجوزُ أن يُقالَ بها، ولا اعتِقادُ ما فيها، بل وُجودُها كعَدمِها، وما وضعَته الزَّنادِقةُ فهو كقولِهم الذي أضافوه إلى أنفُسِهم؛ فمَن كان مِن أهلِ المعرفةِ بذلك وجَب عليه اتِّباعُ الصَّحيحِ، واطِّراحُ ما سِواه، ومَن كان عامِّيًّا ففَرضُه تقليدُ العُلماءِ وسُؤالُهم؛ لقولِ اللهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] .
وإن أشكَل عليه عِلمُ ذلك، ولم يجِدْ مَن يسألُه، فلْيقِفْ وليقُلْ: آمَنْتُ بما قاله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يُثبِتْ بها شيئًا، فإن كان هذا ممَّا قاله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد آمَن به، وإن لم يكنْ منه فما آمَن به) [1497] ((ذم التأويل)) (ص: 47). .
وقال ابنُ تيميَّةَ مُنكِرًا على أبي يَعلى رِوايتَه لبعضِ تلك الأحاديثِ الضَّعيفةِ في الصِّفاتِ: (المقصودُ هنا أنَّ ما لم يكنْ ثابِتًا عن الرَّسولِ لا نحتاجُ أن نُدخِلَه في هذا البابِ؛ سواءٌ احتيجَ إلى تأويلٍ أو لم يُحتَجْ) [1498] ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/239). .
لكنْ لا يعني رَواجُ تلك الأحاديثِ على قلَّةٍ مِن العُلماءِ غَيرِ المُحدِّثينَ، اجتَهدوا في إدخالِها ضمنَ عقائِدِ السَّلفِ، أن ندَعَ الحديثَ جُملةً، ونفِرَّ منه إلى غَيرِه، فهل هذا إلَّا توليةٌ للأدبارِ عن الدِّينِ كُلِّه؟ بل كان الأَولى بهؤلاء أن يجتهِدوا في معرفةِ الأحاديثِ الصَّحيحةِ التي لا تُعارِضُ المعقولَ أبدًا، ويُميِّزوا بَينَها وبَينَ ضعيفِ الحديثِ، كما فعَل جهابِذةُ الحديثِ ونُقَّادُه الذي اصطفاهم اللهُ لذلك.
ثالثًا: ممَّا صَرَف بَعضَهم عن المأثوراتِ إلى تلك المعقولاتِ حُبُّ التَّمايُزِ على الآخرينَ، وشَهوةُ الانفِرادِ بشيءٍ غَيرِ معروفٍ عندَ عامَّةِ النَّاسِ؛ ليُذكَروا به، ولا يكونوا كغَيرِهم مِن جُملةِ أهلِ الحديثِ، وهذا السَّببُ لم يزَلْ في النَّاسِ قديمًا وحديثًا، فلو تدبَّرْتَ حالَ كثيرٍ مِن أهلِ البِدَعِ لوجدْتَ النَّشأةَ الأولى لهم هذه الشَّهوةَ الخفيَّةَ عندَ بعضِهم. واللهُ تعالى أعلَمُ.
قال أبو القاسِمِ الأصبَهانيُّ واصِفًا حالَ هؤلاء العَقلانيِّينَ: (إنِّي تدبَّرْتُ هذا الشَّأنَ، فوجدْتُ عُظْمَ السَّببِ فيه أنَّ الشَّيطانَ صار بلطيفِ حيلتِه يسوِّلُ لكُلِّ مَن أحسَّ مِن نَفسِه بفَضلِ ذكاءٍ وذِهنٍ؛ يوهِمُه أنَّه إن رضِي في عِلمِه ومذهَبِه بظاهِرِ السُّنَّةِ، واقتصَر على واضِحِ بيانٍ منها؛ كان أُسوةَ العامَّةِ، وعُدَّ واحِدًا مِن الجُمهورِ والكافَّةِ، فحرَّكهم بذلك على التَّنطُّعِ في النَّظرِ، والتَّبدُّعِ بمُخالَفةِ السُّنَّةِ والأثرِ؛ ليَبِينوا بذلك عن طبقةِ الدَّهماءِ، ويتميَّزوا في الرُّتبةِ عمَّن يرَونَه دونَهم في الفَهمِ والذَّكاءِ، واختَدَعهم بهذه المُقدِّمةِ حتَّى استزلَّهم عن واضِحِ المَحجَّةِ، وأورَطهم في شُبُهاتٍ تعلَّقوا بزخارِفِها، وتاهوا في حقائِقِها، ولم يخلُصوا منها إلى شِفاءِ نفسٍ، ولا قَبِلوها بيقينِ عِلمٍ، ولمَّا رأَوا كتابَ اللهِ تعالى ينطِقُ بخِلافِ ما انتَحَلوه، ويشهَدُ عليهم بباطِلِ ما اعتقَدوه؛ ضرَبوا بعضَ آياتِه ببعضٍ، وتأوَّلوها على ما سنَح لهم في عُقولِهم، واستوى عندَهم على ما وضَعوه مِن أُصولِهم، ونصَبوا العَداوةَ لأخبارِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولسُنَنِه المأثورةِ عنه، وردُّوها على وُجوهِها، وأساؤوا في نَقَلتِها القالةَ، ووجَّهوا عليهم الظُّنونَ، ورمَوهم بالتَّزيُّدِ، ونسبوهم إلى ضَعفِ المُنَّةِ، وسوءِ المعرفةِ بمعاني ما يروونَه مِن الحديثِ، والجَهلِ بتأويلِه، ولو سلَكوا سبيلَ القَصدِ ووقَفوا عندَ ما انتهى بهم التَّوقيفُ؛ لوجَدوا بَردَ اليقينِ ورَوحَ القُلوبِ، ولكثُرَت البرَكةُ وتضاعَف النَّماءُ، وانشرَحَت الصُّدورُ، ولأضاءت فيها مصابيحُ النُّورِ، واللهُ يَهدي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ) [1499] ((الحجة)) (1/372). .
هذه الأسبابُ الثَّلاثةُ: تأثُّرُهم بالعِلمِ الوافِدِ، وضَعفُهم في عِلمِ الحديثِ، وشهوةُ التَّفاضُلِ على الغَيرِ- لعلَّها مِن أهَمِّ الأسبابِ التي أدارَت وُجوهَ القومِ إلى العقلِ والعقلانيَّةِ، وألجأَتهم إليها.
إذًا هذا هو حالُ العقلانيِّينَ الأوائِلِ في هذه الأمَّةِ؛ فِرقةٌ سادت قليلًا ثُمَّ بادت.
وقد اندثَر حِزبُهم كمذهَبٍ قائِمٍ بذاتِه؛ فلم نَعُدْ في عَصرِنا الحديثِ نسمَعُ عن الواصليَّةِ أو الهُذَيليَّةِ أو النَّظَّاميَّةِ أو الجاحِظيَّةِ أو البِشريَّةِ أو الجُبَّائيَّةِ، إلى غَيرِ ذلك مِن المدارِسِ الاعتزاليَّةِ الفَرعيَّةِ، وإنَّما ذاب المذهَبُ الاعتِزاليُّ في تعاليمِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ والشِّيعةِ الزَّيديَّةِ [1500] يُنظر: ((إسلام بلا مذاهب)) للشكعة (ص: 619). .
وبقِيَ مِن أُصولِها الفِكريَّةِ الأصلُ الذي يُغالي في دَورِ العقلِ في أمورِ الشَّريعةِ، وأصبَح منارًا يَهدي العقلانيِّينَ إلى سبيلِ الرَّشادِ، ويدفَعُهم عن طريقِ الفسادِ.
ثُمَّ جاء بَعدَ المُعتَزِلةِ آحادُ الفلاسِفةِ الإسلاميِّينَ المُفترقِينَ مكانًا وزمانًا؛ فزادوا في المَيلِ إلى تلك المعقولاتِ؛ فكانت هي رأسَ مالِهم .
ولقد كانوا كما قال أحمَد أمين: (فلاسِفةً أوَّلًا ودينيِّينَ آخِرًا، لا ينظُرونَ إلى الدِّينِ إلَّا عندَما تتعارَضُ نظريَّةٌ فلسفيَّةٌ معَ الدِّينِ؛ فيَجِدُّون للتَّوفيقِ بَينَهما) [1501] ((ضحى الإسلام)) (3/204). .
فلذا لم يُؤثِّروا في حياةِ المُسلِمينَ كتأثيرِ المُعتَزِلةِ الذي خلَطوا الدِّينَ بالكلامِ، وموَّهوا على المُسلِمينَ بنُصرةِ دينِهم، وإنَّما اندَثَرَت أفكارُهم النَّظريَّةُ بموتِهم؛ فلم تبنِ مُجتمَعًا، ولم تَقُمْ على سُلطةٍ، ولكنَّهم تلازَموا وإيَّاهم في تعظيمِ (العقلِ)؛ لأنَّه بِضاعتُهم الوحيدةُ، فهذا الرَّازيُّ يتحدَّثُ كثيرًا عن العقلِ في كُتبِه، ويأتي بَعدَه ابنُ سينا، فيغلو في العقلِ إلى أن أطلَقه على اللهِ تبارَك وتعالى، وأقرَبُهم مودَّةً إلى العَقلانيِّينَ فيلسوفُ المغرِبِ ابنُ رُشدٍ.
إذن بَعدَ موتِ المُعتَزِلةِ لم تَقُمْ فِرقةٌ واحِدةٌ تدعو إلى إعلاءِ العقلِ على حِسابِ غَيرِه، وإنَّما لم تَخْلُ الأمَّةُ مِن أفرادٍ يرفَعونَ أصواتَهم بَينَ الحينِ والآخَرِ مُطالِبينَ بتلك الفِكرةِ لأسبابٍ مُتنوِّعةٍ.

انظر أيضا: