موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: مِن مباحِثِ المُعتَزِلةِ المُجافِيةِ للعقلِ والمُخالِفةِ للسُّنَّةِ


حينَ يُذكَرُ اسمُ المُعتَزِلةِ يتبادَرُ إلى الذِّهنِ أنَّهم القومُ الذين يُمجِّدونَ العقلَ، ومِن ثمَّ يَرْبَؤون به وبأنفُسِهم عن الخَوضِ في مسائِلَ لا تمُتُّ إلى العَقلِ بصِلةٍ، إلَّا أنَّ تاريخَ المُعتَزِلةِ يُثبِتُ خِلافَ ذلك؛ حينَ تناوَل بعضُهم بحثَ مسائِلَ يُمكِنُ وَصفُها بأنَّها لا تستحِقُّ كُلَّ هذا العَناءِ والجِدالِ؛ لذا نستعرِضُ في هذا الفصلِ على سبيلِ الاختِصارِ صُوَرًا مِن مُجافاةِ السُّنَّةِ والعقلِ معًا إلى غَيرِ ذلك.
ومِن ذلك مَثلًا:
1- بحثُهم في مصيرِ اليدِ المقطوعةِ لرجُلٍ مُؤمِنٍ كفَر بَعدَ القَطعِ، أو لرجُلٍ كافِرٍ آمَن بَعدَ القَطعِ [1502] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/317). .
2- وبحثُهم في عِوَضِ البهائِمِ، وقد انقسَموا إلى خمسةِ أقوالٍ؛ منها:
- قولُ قومٍ: إنَّ اللهَ سُبحانَه يُعوِّضُها في المَعادِ، وإنَّها تُنَعَّمُ في الجنَّةِ، وتُصوَّرُ في أحسَنِ الصُّوَرِ؛ فيكونُ نعيمُها لا انقِطاعَ له.
- وقال جَعفَرُ بنُ حربٍ والإسكافيُّ: قد يجوزُ أن تكونَ الحيَّاتُ والعقارِبُ وما أشبَهَها مِن الهوامِّ والسِّباعِ تُعوَّضُ في الدُّنيا أو في الموقِفِ، ثُمَّ تدخُلُ جَهنَّمَ، فتكونُ عذابًا على الكافِرينَ، ولا ينالُهم مِن ألمِ جَهنَّمَ شيءٌ، كما لا ينالُ خَزَنةَ جَهنَّمَ.
3- نظَروا في عُقولِ هذه البَهائِمِ: هل سيُكلِّمُها اللهُ أم تبقى على حالِها في الدُّنيا؟! وبحَثوا مسألةَ اقتِصاصِ اللهِ مِن بعضِها لبعضٍ يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/319)
4- نظَر الخابِطيَّةُ أصحابُ أحمَدَ بنِ خابِطٍ (ت 332هـ) والحَدَثيَّةُ أصحابُ الفَضلِ الحَدَثيِّ (ت 257هـ) في أصنافِ الحيواناتِ؛ فأقرُّوا أنَّ كُلَّ صِنفٍ مِن الحيواناتِ أمَّةٌ على حِدةٍ، ولها رسولٌ [1504] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/63). .
5- بحَثوا في عِقابِ الأطفالِ؛ فقال أكثَرُ المُعتَزِلةِ: إنَّ اللهَ سُبحانَه يُؤلِمُهم عِبرةً للبالِغينَ، ثُمَّ يُعوِّضُهم، ولولا أنَّه يُعوِّضُهم لكان إيلامُه إيَّاهم ظُلمًا، إلَّا أنَّ إجماعَهم يذهَبُ إلى أنَّه لا يجوزُ أن يُؤلِمَ اللهُ سُبحانَه الأطفالَ في الآخِرةِ، ولا يجوزُ أن يُعذِّبَهم [1505] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/319). .
6- نَظرُهم في الصَّلاحِ والأصلَحِ، فجعَل النَّظَّامُ يحُدُّ مِن قُدرةِ اللهِ؛ حيث قال: إنَّ اللهَ لا يقدِرُ أن يَزيدَ في عذابِ أهلِ النَّارِ ذرَّةً، ولا أن يَنقُصَ مِن نعيمِ أهلِ الجنَّةِ شيئًا [1506] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 133)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/54). ، وهو رأيٌ يتَنافى معَ أبسَطِ قواعِدِ العقلِ والشَّرعِ التي أثبتَت للهِ تعالى القُدرةَ المُطلَقةَ [1507] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/69). .
في حينِ ينفي أبو الهُذَيلِ العلَّافُ عن اللهِ القُدرةَ على رُؤيةِ بعضِ الأجزاءِ التي لا تتجزَّأُ [1508] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 130). .
وقرَّر بعضُ المُعتَزِلةِ أنَّه لا يجوزُ إطلاقُ اسمِ شيءٍ على الشَّيءِ حتَّى يوجَدَ ويُخلَقَ؛ فهذا هشامُ بنُ عَمرٍو الفُوَطيُّ يرى أنَّ (الأشياءَ قَبلَ كونِها معدومةٌ، والمعدومُ ليس بشيءٍ)، وعليه لا يجوزُ عندَه أن تكونَ هذه المعدوماتُ معلومةً للهِ تعالى [1509] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 72). .
وفي الحقيقةِ: فإنَّ عِلمَ اللهِ وسِع كُلَّ شيءٍ؛ ما خُلِق وما سيُخلَقُ؛ فقد جاء قولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أحدَكم يُجمَعُ في بَطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثُمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثُمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك، ثُمَّ يبعَثُ اللهُ إليه ملَكًا بأربعِ كَلِماتٍ، فيُكتَبُ عَمَلُه وأجَلُه ورِزقُه، وشقِيٌّ أو سعيدٌ )) [1510] أخرجه البُخاريُّ (3332) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2643) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وفي هذا الحديثِ قال ابنُ حجرٍ: (إنَّ اللهَ يعلَمُ الجُزئيَّاتِ كما يعلَمُ الكُلِّيَّاتِ؛ لتصريحِ الخبرِ بأنَّه يأمرُ بكتابةِ أحوالِ الشَّخصِ مُفصَّلةً) [1511] ((فتح الباري)) (14/291). .

انظر أيضا: