موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن الحديثِ المُتواتِرِ


يُعتبَرُ حديثُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأصلَ الثَّانيَ للتَّشريعِ الإسلاميِّ بإجماعِ عُلَماءِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، وتنقسِمُ السُّنَّةُ باعتِبارِ عددِ رُواتِها إلى مُتواتِرٍ وآحادٍ.
وعرَّف علماءُ المُصطلَحِ المُتواتِرَ بقولِهم: (هو ما رواه جَمعٌ كثيرٌ عن جَمعٍ كثيرٍ يُحيلُ العَقلُ تَواطُؤَهم على الكذِبِ عادةً، أو صُدورَه منهم اتِّفاقًا، وأن يكونَ مُستنَدَ انتهائِهم الحِسُّ، ويُصيبَ خَبرُهم إفادةَ العِلمِ بنَفسِه لسامِعِه) [1310] يُنظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) للتازي (2/7) وما بعدها. .
وعرَّفه ابنُ عبدِ البَرِّ بأنَّه (إجماعٌ تنقُلُه الكافَّةُ عن الكافَّةِ، وهو مِن الحُجَجِ القاطِعةِ للأعذارِ إذا لم يوجَدْ هناك خِلافٌ، ومَن ردَّ إجماعَهم فقد ردَّ نصًّا مِن نُصوصِ اللهِ، يجِبُ استِتابتُه عليه، وإراقةُ دَمِه إن لم يتُبْ؛ لخُروجِه ممَّا أجمَع عليه المُسلِمونَ، وسُلوكِه غَيرَ سبيلِ جميعِهم) [1311] ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/41). ، وإن لم ينعقِدِ الإجماعُ على تواتِرِه، بل وقَع الخِلافُ فيه، يكونُ مُنكِرُه مِن الفاسِقينَ [1312] يُنظر: ((محاضرات في علوم الحديث)) للتازي (2/25). .
ودرَج المُعتَزِلةُ على مُخالَفةِ إجماعِ الأمَّةِ على إفادةِ المُتواتِرِ القَطعَ، وذهَب النَّظَّامُ إلى جَوازِ وُقوعِ الكذِبِ في الخبرِ المُتواتِرِ رَغمَ خُروجِ ناقِليه عندَ سامِعِ الخَبرِ عن الحَصرِ [1313] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 143). ، بناءً على ما يعتقِدُه مِن أنَّ الحُجَّةَ العقليَّةَ جديرةٌ وقادِرةٌ على نَسخِ الأخبارِ [1314] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 43). ! ولا يُستغرَبُ إنكارُه للمُتواتِرِ ما دام يُنكِرُ حُجِّيَّةَ الإجماعِ كما سنرى، ويُجَوِّزُ اجتِماعَ الأمَّةِ على الضَّلالةِ [1315] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 328). !
ويرى أبو الهُذَيلِ أنَّ (الحُجَّةَ لا تقومُ فيما غاب عن الحواسِّ مِن آياتِ الأنبِياءِ عليهم السَّلامُ وفيما سِواها، إلَّا بخَبرِ عِشرينَ فيهم واحِدٌ مِن أهلِ الجنَّةِ أو أكثَرُ، ولا تخلو الأرضُ عن جماعةٍ هم أولياءُ اللهِ معصومونَ لا يكذِبونَ، ولا يرتكِبونَ الكبائِرَ، فهُم الحُجَّةُ، لا المُتواتِرُ؛ إذ يجوزُ أن يكذِبَ جماعةٌ ممَّن لا يُحصَونَ عددًا إذا لم يكونوا أولياءَ اللهِ، ولم يكنْ فيهم واحِدٌ معصومٌ) [1316] ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 128)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/53). .
وفي إنكارِهم للمُتواتِرِ واشتِراطِهم لثُبوتِ الخَبرِ أن يكونَ أحدُ رُواتِه مِن أهلِ الجنَّةِ: تعطيلٌ للأخبارِ الوارِدةِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وبذلك يَنقُصونَ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، ويتحلَّلونَ مِن الشَّريعةِ تمامًا.

انظر أيضا: