موسوعة الفرق

تمهيد: إهمالُ النَّصِّ الصَّحيحِ وإقامةِ العقلِ مَقَامَهُ


نستعرِضُ في هذا الفصلِ موقِفَ المُعتَزِلةِ مِن السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وأثرَ أُصولِهم الخمسةِ في ذلك، وموقِفَهم مِن نَقَلةِ السُّنَّةِ، وهُم أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وموقِفَهم مِن السُّنَّةِ المُتواتِرةِ والآحادِ وغَيرِ ذلك [1260] يُنظر: ((موقف المُعتزِلة من السنة النبوية)) لأبي لبابة (ص: 73). .
لقد آمَن المُعتَزِلةُ بأُصولِهم الخمسةِ وما تفرَّع عنها مِن آراءٍ، وجعَلوا منها القاعِدةَ والأساسَ الذي تنطلِقُ منه كُلُّ مُحاوَراتِهم ومُعاملاتِهم معَ النُّصوصِ؛ سواءٌ كانت قرآنًا أو سنَّةً، فكان ما يُعارِضُ مبادِئَهم (مِن آياتٍ يُؤوِّلونَها، وما يُعارِضُها مِن أحاديثَ يُنكِرونَها...؛ ولذلك فإنَّ موقِفَهم مِن الحديثِ كثيرًا ما يكونُ موقِفَ المُتشكِّكِ في صحَّتِه، وأحيانًا موقِفَ المُنكِرِ له؛ لأنَّهم يُحكِّمونَ العقلَ في الحديثِ لا الحديثَ في العقلِ) [1261] ((ضحى الإسلام)) لأمين (3/85). .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ في حديثِه عن الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ وتصنيفِها: (أوَّلُها العقلُ؛ لأنَّ به يُميَّزُ بَينَ الحُسنِ والقُبحِ، ولأنَّ به يُعرَفُ أنَّ الكتابَ حُجَّةٌ، وكذلك السُّنَّةُ والإجماعُ)، وقال: (ربَّما تعجَّب مِن هذا التَّرتيبِ بعضُهم، فيظُنُّ أنَّ الأدلَّةَ هي الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ فقط، أو يظُنُّ أنَّ العقلَ إذا كان يدُلُّ على أمورٍ فهو مُؤخَّرٌ، وليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يُخاطِبْ إلَّا أهلَ العقلِ) [1262] ((فضل الاعتزال)) (ص: 139). .
ويُواصِلُ تمجيدَ العقلِ، فيُبيِّنُ أنَّه إنَّما يتوصَّلُ النَّاسُ إلى معرفةِ اللهِ وإدراكِ حِكمتِه بالعقلِ، وهكذا فهُم أوَّلُ مَن حكَّم العقلَ في النَّصِّ، لدرجةٍ سمَح معَها إبراهيمُ النَّظَّامُ لنَفسِه أن يقولَ: (إنَّ جهةَ حُجَّةِ العقلِ قد تنسَخُ الأخبارَ) [1263] ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 43). !
كما أنَّ عَمرَو بنَ عُبَيدٍ ذُكِرَ له ذاتَ يومٍ حديثُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (لو سمِعْتُ الأعمَشَ يقولُ هذا لكذَّبْتُه، ولو سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ هذا لرددْتُه، ولو سمِعْتُ اللهَ يقولُ هذا لقُلْتُ: ليس على هذا أخذْتَ ميثاقَنا) [1264] ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/278). .
وبذلك أهمَلوا قُدسيَّةَ النَّصِّ الصَّحيحِ قرآنًا وسُنةً، وأقاموا العقلَ حَكمًا لا تُرَدُّ كَلِمتُه، وحمَّلوه بالإضافةِ إلى مُهمَّةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ مسؤوليَّةَ (معرفةِ اللهِ تعالى بجميعِ أحكامِه وصفاتِه قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ) [1265] ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/70). .
حتَّى إنَّ الجاحِظَ يُقرِّرُ أنَّه لا يجوزُ للعبدِ أن يَبلُغَ وهو لا يعرِفُ اللهَ [1266] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 73). ؛ ذلك أنَّ أُصولَ المعرفةِ عندَهم واجِبةٌ وضروريَّةٌ، ويُمكِنُ إدراكُها بالعقلِ قَبلَ وُرودِ السَّمعِ [1267] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/45). .
ويُضيفُ ثُمامةُ بنُ الأشرَسِ إلى هذا أنَّ مَن لم يُضطَرَّ إليها فهو سُخرةٌ للعِبادِ كسائِرِ الحيواناتِ غَيرِ المُكلَّفةِ [1268] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 73). .
بل وذهَب ثُمامةُ وتلميذُه الجاحِظُ إلى القولِ: إنَّ المعارِفَ كُلَّها طِباعٌ رَغمَ كونِها أفعالًا للعِبادِ، فهي تصدُرُ عنهم دونَ أن يكونَ لهم فيها أثرٌ ولا اختِيارٌ؛ إذ لا يملِكونَ إلَّا الإرادةَ [1269] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 175)، ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 73). .
ممَّا جعَل البغداديَّ يُلزِمُهما بأنَّ أفعالَ العِبادِ مِن أوامِرَ ونواهٍ لا توجِبُ ثوابًا ولا عقابًا؛ لأنَّها طِباعٌ ليست كَسبًا [1270] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 176). .
ورَغمَ هذا فقد جلَب مسلَكُهم المُمالِئُ للعقلِ على حسابِ القرآنِ والسُّنَّةِ عَطفَ الكثيرِ مِن نُقَّادِ الغربِ؛ فكالوا لهم شَهاداتِ الاستِحسانِ والإكبارِ؛ فهذا شتايْنِر أطلَق عليهم اسمَ: "المُفكِّرونَ الأحرارُ في الإسلامِ"، وجعَل مِن هذا اللَّقبِ عُنوانَ كتابِه عنهم.
ووصَفهم آدم مِيز وهامِلْتون بأنَّهم دُعاةُ الحُرِّيَّةِ الفِكريَّةِ والاستِنارةِ.
أمَّا جُولْد زِيهَر فوصَفهم بأنَّهم (وسَّعوا مَعينَ المعرفةِ الدِّينيَّةِ بأن أدخَلوا فيها عُنصرًا مُهمًّا آخَرَ قيِّمًا، وهو العقلُ الذي كان حتَّى ذلك الحينِ مُبعَدًا بشِدَّةٍ عن هذه النَّاحِيةِ) [1271] ((أدب المُعتزِلة)) لبليغ (ص: 172). .
هكذا يتجاسَرُ جُولْد زِيهَر على قلبِ الحقائِقِ مُسقِطًا الواقِعَ الذي يُثبِتُ اجتِهادَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ والتَّابِعينَ، رَغمَ أنَّ كُتبَ السُّنَّةِ والسِّيرةِ والتَّاريخِ والفِقهِ والخِلافِ والمُقارَناتِ الفِقهيَّةِ حافِلةٌ بما يُؤيِّدُ اجتِهادَهم وتعويلَهم على العقلِ الذي لم يكنْ في انتِظارِ المُعتَزِلةِ ليكتسِبَ فعاليَّتَه.
والمُعتَزِلةُ رَغمَ ارتِمائِهم في أحضانِ العقلِ بدونِ ترَوٍّ، ورَغمَ مُجافاتِهم للكثيرِ مِن نُصوصِ الحديثِ، وتعسُّفِهم في تأويلِ العديدِ مِن آيِ الذِّكرِ الحكيمِ؛ فإنَّهم لا يرتاحونَ حينَ يتَّهِمُهم خُصومُهم بأنَّ كُتبَهم ومباحِثَهم خاليةٌ مِن سُنَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ هم يدَّعونَ لأنفُسِهم التَّمسُّكَ بالسُّنَّةِ وبالجماعةِ، وكثيرًا ما ينقلِبونَ على مُناوِئيهم باللَّائِمةِ؛ فيتَّهِمونَهم بأنَّهم لا يعرِفونَ حقيقةَ السُّنَّةِ [1272] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 185). .

انظر أيضا: