موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن أخبارِ الآحادِ


خبرُ الآحادِ هو ما رواه واحِدٌ أو اثنانِ أو ثلاثةٌ فأكثَرُ دونَ بُلوغِ عددِ التَّواتُرِ، أو بلَغَه ولكِنْ فقَد شرطًا مِن شُروطِ التَّواتُرِ، وقد اشترَط العُلماءُ في راويه لقَبولِه: العدالةَ والضَّبطَ [1317] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/360). .
ومتى توفَّرَت فيه شُروطُ القَبولِ يُصبِحُ حُجَّةً معمولًا به وُجوبًا على رأيِ الجُمهورِ، سواءٌ كان خبرُ الآحادِ صحيحًا لذاتِه أو صحيحًا لغَيرِه، حَسنًا لذاتِه أو حسنًا لغَيرِه [1318] يُنظر: ((تيسير علوم الحديث والرد على أعداء السنة)) لندا (ص: 83). .
وخالَف المُعتَزِلةُ ما ذهَب إليه جُمهورُ العُلماءِ، وردُّوا خبرَ الواحِدِ مُشترِطينَ التَّعدُّدَ؛ فأبو الحَسنِ الخيَّاطُ أنكَر حُجَّةَ أخبارِ الآحادِ [1319] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 180). ، وأبو عليٍّ الجُبَّائيُّ -كما نقَله عنه المازَرِيُّ وغَيرُه [1320] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/360). - لا يَقبَلُ الخبرَ إذا رواه العدلُ الواحِدُ إلَّا:
إذا عضَّده ظاهِرُ خبرٍ آخَرَ، أو مُوافَقةُ ظاهِرِ الكتابِ.
أو نُسِب إليه خبرُ عدلٍ آخَرَ.
أو عَمِل به بعضُ الصَّحابةِ.
بل قد نُسِب إلى الجُبَّائيِّ أنَّه لا يقبَلُ الخبرَ إلَّا إذا رواه أربعةٌ [1321] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/360)، ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/73). .
وللمُعتَزِلةِ في ردِّ خبرِ الواحِدِ حُجَجٌ؛ منها:
1- قصَّةُ ذي اليدَينِ، وكونُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم توقَّف في خبرِه حتَّى تابَعه عليه غَيرُه [1322] لفظُ الحديثِ: عن أبي هُريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انصَرَف من اثنتَينِ، فقال له ذو اليدَينِ: أقصُرَت الصَّلاةُ أم نَسِيتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أصَدَق ذو اليدَينِ؟)). فقال النَّاسُ: نعَمْ أخرجه البُخاريُّ (714) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (573). .
2- قصَّةُ عُمرَ حينَ توقَّف في خبرِ أبي موسى في الاستِئذانِ، حتَّى تابَعه أبو سعيدٍ الخُدْريُّ [1323] لَفظُه: عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ يقولُ: كُنَّا في مجلِسٍ عندَ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، فأتى أبو موسى الأشعَريُّ مُغضَبًا حتَّى وقَف. فقال: أَنشُدُكم اللهَ هل سمِعَ أحدٌ منكم رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: الاستئذانُ ثلاثٌ. فإن أُذِنَ لك، وإلَّا فارجِعْ؟ قال أُبَيٌّ: وما ذاك؟ قال: استأذَنْتُ على عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أمسِ ثلاثَ مرَّاتٍ، فلم يؤذَنْ لي فرجَعْتُ، ثُمَّ جِئتُه اليومَ فدخَلتُ عليه، فأخبَرْتُه أني جئتُ أمسِ فسَلَّمتُ ثلاثًا ثُمَّ انصرَفْتُ. قال: قد سَمِعْناك ونحن حينَئذٍ على شُغلٍ، فلو ما استأذَنتَ حتَّى يؤذَنَ لك؟ قال: استأذَنْتُ كما سَمِعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فواللهِ لأوجِعَنَّ ظَهْرَك وبَطْنَك، أو لتَأتِيَنَّ بمن يشهَدُ لك على هذا! فقال أُبَيُّ بنُ كعبٍ: فواللهِ لا يقومُ معك إلَّا أحدَثُنا سِنًّا. قُمْ يا أبا سعيدٍ. فقُمتُ حتَّى أتيتُ عُمَرَ، فقُلتُ: قد سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ هذا. أخرجه البُخاريُّ (6245)، ومُسلمٌ (2153) واللَّفظُ له. .
وقد تناوَل عُلماءُ السُّنَّةِ التَّدليلَ على حُجِّيَّةِ خبرِ الواحِدِ؛ فعقَد الإمامُ الشَّافعيُّ بابًا بهذا العُنوانِ في رسالتِه [1324] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 159). .
كما أنَّ البُخاريَّ عقَد في جامِعِه الصَّحيحِ بابًا لهذا الغَرضِ ترجَم له بقولِه: (بابُ ما جاء في إجازةِ خبرِ الواحِدِ الصَّدوقِ)، ولا يكادُ كتابٌ مِن كُتبِ المُصطلَحِ يخلو مِن إثباتِ حُجِّيَّةِ خبرِ الواحِدِ، ودَحضِ الشُّبَهِ التي تحومُ حَولَه، وقد تولَّى ابنُ حجرٍ الرَّدَّ على حُجَجِ المُعتَزِلةِ في خبرِ الآحادِ، فبيَّن أنَّ توقُّفَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَبولِ خبرِ ذي اليدَينِ لا حُجَّةَ فيه للمُعتَزِلةِ؛ لأنَّ سُؤالَ ذي اليدَينِ عارَض عِلمَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلُّ خبرِ واحِدٍ إذا عارَض العِلمَ لم يُقبَلْ [1325] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/362). .
وانفِرادُ ذي اليدَينِ بمُراجَعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ المُصلِّينَ جميعًا على كثرتِهم وأهميَّتِهم ممَّا يدعو الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى استِبعادِ حِفظِ ذي اليدَينِ، وتجويزِ الخطأِ عليه [1326] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/365). .
وقد طفحَت كُتبُ الآثارِ بأمثلةٍ عديدةٍ تُؤيِّدُ اعتِبارَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لخبرِ الواحِدِ حُجَّةً؛ فقد (بعَث رُسلَه واحِدًا واحِدًا إلى المُلوكِ، ووفَد عليه الآحادُ مِن القبائِلِ، فأرسَلهم إلى قبائِلِهم، وكانت الحُجَّةُ قائِمةً بإخبارِهم عنه معَ عَدمِ اشتِراطِ التَّعدُّدِ) [1327] ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/73). .
أمَّا عن قصَّةِ توقُّفِ أبي بكرٍ في خبرِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ في ميراثِ الجدَّةِ؛ فهذا ليس منه مُطَّرِدًا، فهو يطلُبُ مزيدًا مِن التَّثبُّتِ والتَّحوُّطِ لا اتِّهامًا للمُغيرةِ باعتِبارِه راويًا فَردًا، وقد قبِل أبو بكرٍ أخبارَ آحادٍ كثيرةً [1328] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/367)، ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/73). .
وأمَّا قصَّةُ عُمرَ فإنَّ أبا موسى أخبَره بذلك الحديثِ بَعدَ أن أنكَر عليه رُجوعَه بَعدَ الاستِئذانِ ثلاثًا، وتوعَّده، فأراد عُمرُ أن يتثبَّت خَشيةَ أن يكونَ أبو موسى إنَّما أورَد الحديثَ دَفعًا عن نَفسِه [1329] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (16/367)، ((تدريب الراوي)) للسيوطي (1/73). .
وغايةُ ما يُؤخَذُ مِن الحديثِ -على حدِّ تعبيرِ ابنِ بطَّالٍ- (التَّثبُّتُ في خبرِ الواحِدِ لِما يجوزُ عليه مِن السَّهوِ وغَيرِه) [1330] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/267)، ((الرسالة)) للشافعي (ص: 188). لا سيَّما وجاء في إحدى الرِّواياتِ أنَّ عُمرَ قال لأبي موسى: (إنِّي لم أتَّهِمْك، ولكنَّ الحديثَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شديدٌ) [1331] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (5183) واللَّفظُ له، ومالك (2/964) وابن حبان (5806). صحَّحه ابنُ حبان، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5183)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5806). .
وقد قَبِل عُمرُ كثيرًا مِن أخبارِ الآحادِ العُدولِ:
فقد قَبِل خبرَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ وحدَه في أخذِ الجِزيةِ مِن المجوسِ [1332] لفظُه: عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كنتُ جالسًا مع جابرِ بنِ زيدٍ وعَمرِو بنِ أوسٍ، فحدَّثهما بَجالةُ سنةَ سبعينَ -عامَ حَجَّ مُصعَبُ بنُ الزُّبَيرِ بأهلِ البَصرةِ عندَ دَرَجِ زَمزَمَ-، قال: كنتُ كاتبًا لجَزْءِ بنِ معاويةَ عَمِّ الأحنَفِ، فأتانا كتابُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ قَبلَ موتِه بسنةٍ: فَرِّقُوا بَينَ كُلِّ ذي مَحْرَمٍ من المجوسِ، ولم يكُنْ عُمَرُ أخذ الجِزيةَ من المجوسِ حتَّى شَهِد عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذَها من مجوسِ هَجَر. أخرجه البُخاريُّ (3156، 3157). .
كما قَبِل خبرَه في الرُّجوعِ عن البلدِ الذي فيه الطَّاعونُ [1333] لفظُه: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه خرج إلى الشَّأمِ، فلمَّا جاء بسَرْغَ بلَغَه أنَّ الوباءَ وقع بالشَّأمِ، فأخبَرَه عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إذا سمِعتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرُجوا فرارًا منه، فرجع عُمَرُ من سَرْغَ). أخرجه البُخاريُّ (6973) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2219). .
وقَبِل خبرَ الضَّحَّاكِ بنِ سُفيانَ في توريثِ امرأةِ أشيَمَ مِن دِيَةِ زَوجِها [1334] لَفظُه: (كان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يقولُ: الدِّيَةُ للعاقِلةِ، ولا تَرِثُ المرأةَ من ديةِ زَوجِها شيئًا، حتَّى قال له الضَّحَّاكُ بنُ سُفيانَ: كَتَب إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أُوَرِّثَ امرأةَ أشيَمَ الضَّبَابيِّ من دِيَةِ زَوجِها، فرجع عُمَرُ). أخرجه أبو داود (2927) واللَّفظُ له، والترمذي (2110)، وابن ماجه (2642). صحَّحه الترمذي، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (12/117)، والنووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (1/250)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/455). .
كما قَبِل خبرَ عَمرِو بنِ حَزمٍ في أنَّ دِيَةَ الأصابِعِ سواءٌ [1335] لَفظُه: عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ (أنَّ عُمَرَ جعَل في الإبهامِ خَمسَ عَشْرةَ، وفي السَّبَّابةِ عَشرًا، وفي الوُسطى عشرًا، وفي البِنصَرِ تِسعًا، وفي الخِنصَرِ سِتًّا، حتَّى وجَدْنا كتابًا عندَ آلِ حزمٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنَّ الأصابعَ كُلَّها سواءٌ، فأخَذَ به). أخرجه عبد الرزاق (17698) واللَّفظُ له، والخطيب في ((الفقيه والمتفقه)) (1/364). وثَّق رجالَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (1/293)، وقال ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/277): صحيحٌ إلى سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، ثُمَّ قد رُوِي لأفرادِ هذا الحديثِ شواهِدُ أُخَرُ من أحاديثَ متعَدِّدةٍ. .
وقَبِل أيضًا خبرَ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ في المسحِ على الخُفَّينِ [1336] لَفظُه: عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه مسَح على الخُفَّينِ، وأنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ سأل عُمَرَ عن ذلك، فقال: نعَمْ، إذا حدَّثَك شيئًا سعدٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلا تسأَلْ عنه غيرَه. أخرجه البُخاريُّ (202). .
وقد يُضطرُّ المُعتَزِلةُ أحيانًا لقَبولِ خبرِ الواحِدِ [1337] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 71). لسببٍ أو لآخَرَ؛ إلَّا أنَّهم حينَ يُضطرُّونَ إليه فلا يروونَه بصيغةِ الجزمِ، وإنَّما يروونَه بصيغةِ التَّمريضِ [1338] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 186). .
وردُّهم لخبرِ الآحادِ يُفسِّرُ هدفَهم الرَّاميَ إلى إنكارِ أكثَرِ أحكامِ الشَّريعةِ؛ لأنَّ أغلَبَ الفُروضِ والمسائِلِ الشَّرعيَّةِ قائِمةٌ على أخبارِ الآحادِ [1339] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 180). .

انظر أيضا: