موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن الصَّحابةِ حَمَلةِ العِلمِ النَّبويِّ رضِي اللهُ تعالى عنهم


كان موقِفُ المُعتَزِلةِ مِن الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم خاليًا مِن كُلِّ رُوحٍ دينيٍّ؛ فهُم يَعرِضونَهم على مَشرَحةِ انتِقادِهم دونَ أن يتورَّعوا عن إلصاقِ كُلِّ تُهمةٍ بهم، وهي تُهَمٌ مُتعسَّفةٌ تُثبِتُ لأصحابِها سوءَ الطَّويَّةِ أكثَرَ ممَّا تُثبِتُه مِن حُبِّ البحثِ عن الحقيقةِ.
وممَّا يَلفِتُ الانتِباهَ أنَّ بعضَ المُعتَزِلةِ يَعيبُ على الصَّحابةِ اجتِهادَ الرَّأيِ، هذا الذي جعَل منه المُعتَزِلةُ عُنوانًا لهم، والذي قدَّموه على القرآنِ نَفسِه كما أسلَفْنا، فحينَ يُطبِّقُه الصَّحابةُ يُصبِحُ عندَ المُعتَزِلةِ مِن العُيوبِ التي لا تُغتفَرُ، والتي يُؤاخَذُ بها أصحابُها [1273] يُنظر أمثلة على ذلك في: ((المُعتزِلة بين القديم والحديث)) للعبده وعبد الحليم (ص: 97) وما بعدها. .
قال النَّظَّامُ: (إنَّ الذين حكَموا بالرَّأيِ مِن الصَّحابةِ إمَّا أن يكونوا قد ظنُّوا أنَّ ذلك جائِزٌ لهم وجهِلوا تحريمَ الحُكمِ بالرَّأيِ في الفُتيا عليهم، وإمَّا أنَّهم أرادوا أن يُذكَروا بالخلافِ، وأن يكونوا رُؤَساءَ في المذاهِبِ؛ فاختاروا لذلك القولَ بالرَّأيِ) [1274] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 148). ، وبذلك نسَبهم كما يقولُ (إلى إيثارِ الهوى على الدِّينِ) [1275] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/58). .
وحينَ يُفاضِلُ العُلَماءُ بَينَ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ حسَب إجماعِ الأمَّةِ على مُبايَعتِهم على الخِلافةِ الأوَّلَ فالأوَّلَ نجِدُ أبا عليٍّ الجُبَّائيَّ لا يبُتُّ في أيِّهم أفضَلُ [1276] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/147). ؛ إمعانًا في مُخالَفةِ إجماعِ الأمَّةِ.
ولإثارةِ الشُّبَهِ وتعميقِ الحَزازاتِ يُميِّعونَ القولَ في حقيقةِ مَقتَلِ عُثمانَ؛ فهذا أبو الهُذَيلِ يقولُ: (لا ندري قُتِل عُثمانُ ظالِمًا أو مظلومًا؟) [1277] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/143). ، وقَبلَه يُعلِنُ واصِلُ بنُ عطاءٍ أنَّه لا يعرِفُ: هل كان عُثمانُ هو المُخطِئَ أم قاتِلوهُ؟ [1278] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 147). .
حتَّى إذا ما وصَل الأمرُ إلى النَّظرِ في أصحابِ الجَمَلِ وصِفِّينَ نجِدُهم ينسُبونَ الصَّحابةَ إلى الفِسقِ، جلَّت أقدارُهم وعلَت عن ذلك عُلوًّا كبيرًا؛ فهذا واصِلُ بنُ عطاءٍ يجعَلُ أحدَ الفريقَينِ المُتخاصِمَينِ في الجَملِ وفي صِفِّينَ مُخطِئًا وفاسِقًا لا محالةَ، ولا تُقبَلُ شَهادتُهما كما لا تُقبَلُ شَهادةُ المُتلاعِنينَ [1279] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/49). .
وبناءً على هذا فإنَّه لم يحكُمْ بشهادةِ رجُلَينِ أحدُهما مِن أصحابِ عليٍّ والآخَرُ مِن أصحابِ الجَملِ، فهو يقولُ: (لو شهِدَت عندي عائِشةُ وعليٌّ وطَلحةُ على باقةِ بَقلٍ لم أحكُمْ بشهادتِهم) [1280] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (4/329). ويُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 120)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/49). ، وقبِل شهادةَ رجُلَينِ مِن أصحابِ عليٍّ، وشهادةَ رجُلَينِ مِن أصحابِ طَلحةَ والزُّبَيرِ [1281] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 120). ؛ إذ قد يكونُ أحدُ الفريقَينِ عَدلًا وعلى صوابٍ، وهو رأيٌ تبنَّاه بَعدَ ذلك ضِرارُ بنُ عمرٍو، وأبو الهُذَيلِ، ومَعمَرُ بنُ عبَّادٍ السُّلَميُّ؛ حيثُ قالوا جميعًا: (نحن نتولَّى كُلَّ واحِدٍ مِن الفريقَينِ على انفِرادٍ) [1282] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/145). .
وهكذا يكونونَ قد شكُّوا في عدالةِ عليٍّ وطَلحةَ والزُّبَيرِ معَ شهادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهؤلاء الثَّلاثةِ بالجنَّةِ، ومعَ دُخولِهم في بَيعةِ الرِّضوانِ وفي جُملةِ الذين قال اللهُ تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
وتقدَّم عَمرُو بنُ عُبَيدٍ خُطوةً أخرى في تفسيقِ أصحابِ الجَملِ؛ فقطَع بفِسقِ الطَّرفَينِ المُتحارِبَينِ جميعًا، وقال: (لا أقبَلُ شهادةَ الجماعةِ منهم سواءٌ كانوا مِن أحدِ الفريقَينِ أو كان بعضُهم مِن حزبِ عليٍّ وبعضُهم مِن حزبِ الجَملِ) [1283] ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 121). .
وبلغَ به الأمرُ في امتِهانِهم إلى القولِ: (لو شهِد عندي عليٌّ وطَلحةُ والزُّبَيرُ وعُثمانُ على شِراكِ نَعلٍ ما أجزْتُ شهادتَهم) [1284] ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/275). ، وهذا منه مُتساوِقٌ معَ ما جُبِل عليه مِن كراهتِهم وشَتمِهم [1285] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/274). .
أمَّا إبراهيمُ النَّظَّامُ وبِشرُ بنُ المُعتمِرِ وبعضُ المُعتَزِلةِ فإنَّهم صوَّبوا عليًّا في حروبِه، وخطَّؤوا مَن قاتَله، فنسَبوا طَلحةَ والزُّبَيرَ وعائِشةَ ومُعاوِيةَ إلى الخطأِ [1286] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/145). وانتِفاءِ العدالةِ عنهم.
وقولُهم هذا لا شكَّ باطِلٌ مرذولٌ ومردودٌ؛ فقد قال اللهُ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [ الحجرات: 9] ؛ فسمَّاهم مُؤمِنينَ معَ الاقتِتالِ [1287] يُنظر: ((الباعث الحثيث)) لشاكر (ص: 182). .
وعديدونَ هم الصَّحابةُ الذين طالَتهم ألسِنةُ المُعتَزِلةِ وأقلامُهم بالقَدحِ والتَّجريحِ؛ فهذا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ ثاني اثنَينِ إذ هُما في الغارِ، وأوَّلُ مَن أسلَم مِن الرِّجالِ، وصَديقُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحبيبُه ينالُ منه النَّظَّامُ فيتَّهِمُه بالتَّضارُبِ في أقوالِه، وذلك حينَ امتنَع عن القولِ في شيءٍ مِن مُتشابِهِ القرآنِ الذي لا يعلَمُ تأويلَه إلَّا اللهُ [1288] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 20، 24)، ((فضل الاعتزال)) للبَلْخي وعبد الجبار والجُشَمي (ص: 147)، ((ضحى الإسلام)) لأمين (3/88 – 89). ...، وكان عُمرُ هدفًا لتهجُّماتِ النَّظَّامِ وطعناتِه؛ فقد زعَم أنَّه شكَّ يومَ الحُدَيبيَةِ في دينِه، وذلك لمَّا سأل الرَّسولَ: ألسْنا على الحقِّ؟ أليسوا على الباطِلِ؟ فقال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَم، قال عُمرُ: فلِمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دينِنا؟ [1289] أخرجه البُخاريُّ (2731، 2732) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَروانَ بنِ الحَكَمِ رَضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه البُخاريُّ (3182)، ومسلمٌ (1785) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ سَهلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ اللهُ عنه. فغَيرةُ عُمرَ على الدِّينِ ورغبتُه المُخلِصةُ في نُصرتِه اعتبَرها النَّظَّامُ تردُّدًا وشكًّا!
وآمَن النَّظَّامُ بفِريةِ الشِّيعةِ في الوصيَّةِ بالخلافةِ لعليٍّ، وهي البِدعةُ التي اختلَقها عبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ اليهوديُّ، الذي أسلَم ليكونَ رأسَ الفِتنةِ، واتَّهم النَّظَّامُ عُمرَ بأنَّه كتَمها وبادَر بمُبايَعةِ أبي بكرٍ ليحرِمَ آلَ البيتِ، بل إنَّ عُمرَ -كما يزعُمُ النَّظَّامُ- ضرَب يومَ البَيعةِ بطنَ فاطِمةَ حتَّى ألقَت الجنينَ مِن بَطنِها، وكان يصيحُ: أحرِقوا دارَها بمَن فيها، وما كان في الدَّارِ غَيرُ عليٍّ وفاطِمةَ والحَسنِ والحُسَينِ، بل حتَّى نَفيُ عُمرَ لشاعِرِ المدينةِ الوسيمِ نَصرِ بنِ حجَّاجٍ إلى البَصرةِ مخافةَ فِتنةِ النِّساءِ اعتبَره النَّظَّامُ مِن مطاعِنِ عُمرَ، كما أخَذ عليه جَلدَه في الخَمرِ ثمانينَ جَلدةً، وعدَّ إحياءَه لسُنَّةِ التَراويحِ بِدعةً تُذكَرُ له بالذَّمِّ، ثُمَّ اتَّهَمه بما اتَّهَم به أبا بكرٍ رضِي اللهُ عنه مِن التَّناقُضِ في أقوالِه،... ثُمَّ ذكَر أنَّه قضى في الجَدِّ مائةَ قضيَّةٍ مُختلِفةٍ [1290] أخرجه البيهقي (12784) عن محمَّد عن عُبَيدة قال: (حَفِظتُ عن عُمَرَ مائةَ قَضيَّةٍ في الجَدِّ..). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (12/22). .
ولم يَسلَمْ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ مِن طَعنِ النَّظَّامِ؛ فقد عاب عليه إعمالَه الرَّأيَ في الفُتيا، وتجرَّأ على نِسبتِه إلى الكذِبِ، وردَّ عددًا كبيرًا مِن أحاديثِه؛ كحديثِ ((السَّعيدُ مَن سَعِد في بَطنِ أمِّه)) [1291] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2631) واللَّفظُ له، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (1597) موقوفًا على عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وحديثِ ((انشِقاقِ القَمرِ)) [1292] ولفظُه: عن ابنِ مسعودٍ قال: انشَقَّ القَمَرُ على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِرقَتَينِ؛ فِرقةً فوق الجَبَلِ، وفِرقةً دونَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشْهَدوا)). أخرجه البُخاريُّ (4864) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2800). وغَيِرهما.
فقد قال عن حديثِ انشِقاقِ القَمرِ: (هذا مِن الكذِبِ الذي لا خفاءَ به؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يشُقُّ القَمرَ له وحدَه، ولا لآخَرَ معَه، وإنَّما يشُقُّه ليكونَ آيةً للعالَمينَ...، فكيف لم يعرِفْ بذلك العامَّةُ؟ وكم يُؤرِّخُ النَّاسُ بذلك العامِ، ولم يذكُرْه شاعِرٌ، ولم يُسلِمْ عندَه كافِرٌ، ولم يحتجَّ به مُسلِمٌ على مُلحِدٍ؟!).
وقال عن الحديثِ الأوَّلِ: (ولو كان ابنُ مسعودٍ بدَّل نَظرَه في الفُتيا؛ نظَر في الشَّقيِّ: كيف يَشقى، والسَّعيدِ: كيف يسعَدُ، حتَّى لا يُفحِشَ قولَه على اللهِ تعالى، ولا يشتدَّ غَلطُه، لكان أَولى به).
وللنَّظَّامِ في ثَلبِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضِي اللهُ عنه الباعُ الطَّويلُ؛ فقد عاب عليه ما يلي:
1- إيواؤُه الحَكمَ بنَ أميَّةَ إلى المدينةِ وهو طريدُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
2- نَفيُه أبا ذَرٍّ الغِفاريَّ رضِي اللهُ عنه إلى الرَّبَذةِ، وهو صديقُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
3- استِعمالُه الوليدَ بنَ عُقبةَ على الكوفةِ وهو مِن أفسَدِ النَّاسِ؛ حتَّى إنَّه صلَّى بالنَّاسِ وهو سَكرانُ.
4- أعان سعيدَ بنَ العاصِ بأربعينَ ألفَ دِرهَمٍ على نِكاحِ عَقدِه.
5- تزويجُه ابنتَه مَروانَ بنَ الحَكمِ.
ونال النَّظَّامُ أيضًا مِن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رضِي اللهُ عنه أمينِ سرِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المُنافِقينَ الذين لم يُعلِمْهم أحدًا غَيرَه، فشتَمه واتَّهَمه بالكذِبِ، وزعَم أنَّه حلَف لعُثمانَ على أشياءَ ما قالها، وقد سمِعوه قالها) [1293] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 22). .
وحينَ أفتى عليٌّ برأيِه قال عنه النَّظَّامُ: (مَن هو حتَّى يقضِيَ برأيِه [1294] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 148، 319). ؟!).
ولم يتورَّعْ عن الطَّعنِ في أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه والقولِ بأنَّه (كان أكذَبَ النَّاسِ!) [1295] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 147). ، وادَّعى أنَّ عُمرَ وعُثمانَ وعليًّا وعائِشةَ رضِي اللهُ عنهم أكذَبوه [1296] يُنظر: ((تأويل مختلف الحديث)) لابن قُتَيبة (ص: 22). .
وقد خطَّأ بعضُ المُعتَزِلةِ مُعاوِيةَ رضِي اللهُ عنه ولم يقولوا بإمامتِه [1297] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (2/145). ، وكان عُرضةً لتهجُّمِ القاضي عبدِ الجبَّارِ؛ حيثُ وسَم أعمالَه بالباطِلِ [1298] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (143). .
 ولم يسلَمْ سَمُرةُ بنُ جُندُبٍ مِن شَتمِ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ؛ فقد سأله أحدُهم عن حديثٍ لسَمُرةَ، فقال له: (ما تصنَعُ بسَمُرةَ؟ قبَّح اللهُ سَمُرةَ) [1299] يُنظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/274). .
وموقِفُ المُعتَزِلةِ مِن صَحابةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُمومًا يتراوَحُ بَينَ شاكٍّ في عدالتِهم منذُ عَهدِ الفِتنةِ، كما فعَل واصِلٌ، وبَينَ مُفسِّقٍ لهم جميعًا كعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، وبَينَ طاعِنٍ في أعلامِهم مُتَّهِمٍ لهم بالكذِبِ والجَهلِ والنِّفاقِ كالنَّظَّامِ، وذلك يوجِبُ ردَّهم للأحاديثِ التي جاءت عن طريقِ هؤلاء الصَّحابةِ بناءً على رأيِ واصِلٍ وعَمرٍو ومَن تبِعهما [1300] يُنظر: ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) للسباعي (208). .
وما ذهب إليه المُعتَزِلةُ كما يقولُ ابنُ كَثيرٍ: (باطِلٌ مرذولٌ ومردودٌ) [1301] ((الباعث الحثيث)) لشاكر (ص: 182). ، وهو مُخالِفٌ للسُّنَّةِ مُخالَفةً صريحةً؛ ذلك أنَّ مِن الذين كفَّروهم مَن شهِد لهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ؛ كأبي بكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعليٍّ وطَلحةَ والزُّبَيرِ [1302] يُنظر: ((الباعث الحثيث)) لشاكر (ص: 184- هامش رقم 1). ، كما كان العديدُ مِن الصَّحابةِ الذين نسَبوهم إلى الكذِبِ والضَّلالِ ضِمنَ أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ الذين أشاد اللهُ تعالى بذِكرِهم.
وممَّا يُؤيِّدُ مُنافاةَ طَعنِهم على الصَّحابةِ للسُّنَّةِ الصَّحيحةِ ما جاء عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خيرُ أمَّتي قَرني، ثُمَّ الذين يلونَهم، ثُمَّ الذين يلونَهم )) [1303] أخرجه البُخاريُّ (3650) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2535). ،
قال ابنُ حجرٍ: (المُرادُ بقَرنِ النَّبيِّ في هذا الحديثِ: الصَّحابةُ) [1304] ((فتح الباري)) (8/6). .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تسبُّوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدَكم أنفَق مِثلَ أحُدٍ ذَهبًا ما بلَغ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه )) [1305] أخرجه البُخاريُّ (3673) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2541) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال الغَزاليُّ: (فأيُّ تعديلٍ أصَحُّ مِن تعديلِ علَّامِ الغُيوبِ سُبحانَه، وتعديلِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ كيف ولو لم يَرِدِ الثَّناءُ؟ لكان فيما اشتَهر وتواتَر عن حالِهم في الهِجرةِ والجِهادِ وبَذلِ المُهَجِ والأموالِ، وقَتلِ الآباءِ والأهلِ في مُوالاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُصرتِه كِفايةٌ في القَطعِ بعَدمِ التُّهَمِ) [1306] ((المستصفى)) (1/164). .
وقد أجمَع سلفُ الأمَّةِ وجماهيرُ الخَلفِ على عدالةِ الصَّحابةِ بما فيهم مَن لابَسَ الفِتنَ [1307] يُنظر: ((التقييد والإيضاح)) للعراقي (ص: 301). .
وصار استِنقاصُهم آيةً مِن آياتِ الزَّندقةِ والمُروقِ عن الإسلامِ.
قال أبو زُرْعةَ: (إذا رأَيتَ الرَّجلُ ينتقِصُ أحدًا مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاعلَمْ أنَّه زِنديقٌ) [1308] ((الكفاية)) للبغدادي (ص: 97). .
ذلك أنَّ طَعنَهم وتنقُّصَهم لا يعدو كونَه هَذَيانًا بلا دليلٍ إلَّا مُجرَّدَ (رأيٍ فاسِدٍ عن ذِهنٍ بارِدٍ، وهوًى مُتَّبَعٍ، وهو أقَلُّ مِن أن يُرَدَّ عليه، والبُرهانُ على خِلافِه أظهَرُ وأشهَرُ؛ ممَّا عُلِم مِن امتِثالِهم أوامِرَه بَعدَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفَتحِهم الأقاليمَ والآفاقَ، وتبليغِهم عنه الكتابَ والسُّنَّةَ، وهدايتِهم النَّاسَ إلى طريقِ الجنَّةِ، ومُواظبتِهم على الصَّلواتِ والزَّكواتِ وأنواعِ القُرُباتِ في سائِرِ الأحيانِ والأوقاتِ، معَ الشَّجاعةِ والبَراعةِ، والكَرمِ والإيثارِ، والأخلاقِ الجميلةِ التي لم تكُنْ في أمَّةٍ مِن الأمَمِ المُتقدِّمةِ) [1309] يُنظر: ((الباعث الحثيث)) لشاكر (ص: 182). .

انظر أيضا: