موسوعة الفرق

المبحَثُ الثَّاني: الرَّدُّ على مذهَبِ الأشاعِرةِ في مسألةِ التَّحسينِ والتَّقبيحِ


قال ابنُ تيميَّةَ: (العُقلاءُ متَّفِقونَ على أنَّ كونَ بعضِ الأفعالِ مُلائِمًا للإنسانِ وبعضَها منافيًا له إذا قيل: هذا حسَنٌ وهذا قبيحٌ، فهذا الحُسنُ والقُبحُ ممَّا يُعلَمُ بالعقلِ باتِّفاقِ العُقَلاءِ، وتنازعوا في الحُسنِ والقُبحِ بمعنى كونِ الفِعلِ سَببًا للذَّمِّ والعقابِ: هل يُعلَمُ بالعَقلِ أم لا يُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ؟ وكان من أسبابِ النِّزاعِ أنَّهم ظنُّوا أنَّ هذا القِسمَ مُغايِرٌ للأوَّلِ، وليس هذا خارِجًا عنه؛ فليس في الوُجودِ حَسَنٌ إلَّا بمعنى المُلائِمِ، ولا قبيحٌ إلَّا بمعنى المُنافي، والمَدحُ والثَّوابُ مُلائِمٌ، والذَّمُّ والعِقابُ مُنافٍ، فهذا نوعٌ من المُلائِمِ والمُنافي، يبقى الكلامُ في بعضِ أنواعِ الحَسَنِ والقبيحِ لا في جميعِه، ولا رَيبَ أنَّ من أنواعِه ما لا يُعلَمُ إلَّا بالشَّرعِ، ولكِنَّ النِّزاعَ فيما قُبحُه معلومٌ لعُمومِ الخَلقِ كالظُّلمِ والكَذِبِ ونَحوِ ذلك، النِّزاعُ في أمورٍ: منها هل للفِعلِ صِفةٌ صار بها حَسَنًا وقبيحًا، وأنَّ الحُسنَ العَقليَّ هو كَونُه مُوافِقًا لمصلحةِ العالَمِ، والقُبحَ العَقليَّ بخِلافِه؟ فهل في الشَّرعِ زيادةٌ على ذلك؟ وفي أنَّ العقابَ في الدُّنيا والآخرةِ هل يُعلَمُ بمجرَّدِ العَقلِ؟ ومن النَّاسِ مَن أثبَت قِسمًا ثالثًا للحُسنِ والقُبحِ وادَّعى الاتِّفاقَ عليه: وهو كَونُ الفِعلِ صِفةَ كَمالٍ أو صِفةَ نَقصٍ، وهذا القِسمُ لم يذكُرْه عامَّةُ المتقَدِّمينَ المتكَلِّمينَ في هذه المسألةِ؛ ولكِنْ ذكَره بعضُ المُتأخِّرينَ كالرَّازي، وأخَذه عن الفلاسفةِ، والتَّحقيقُ أنَّ هذا القِسمَ لا يخالِفُ الأوَّلَ؛ فإنَّ الكمالَ الذي يحصُلُ للإنسانِ ببَعضِ الأفعالِ هو يعودُ إلى المُوافقةِ والمُخالفةِ، وهو اللَّذَّةُ أو الألمُ، فالنَّفسُ تلتَذُّ بما هو كمالٌ لها، وتتألَّمُ بالنَّقصِ، فيعودُ الكمالُ والنَّقصُ إلى الملائِمِ والمُنافي، والمقصودُ هنا: أنَّ الفَرقَ بَينَ الأفعالِ الحَسَنةِ التي يحصُلُ لصاحِبِها بها لذَّةٌ وبَينَ السَّيِّئةِ التي يحصُلُ له بها ألمٌ: أمرٌ حِسِّيٌّ يَعرِفُه جميعُ الحيوانِ) [931] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 309). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (تحقيقُ الأمرِ أنَّ الأحكامَ للأفعالِ ليست من الصِّفاتِ اللَّازِمةِ، بل هي من العارضةِ للأفعالِ بحسَبِ مُلاءمتِها ومُنافرتِها، فالحُسنُ والقُبحُ بمعنى كونِ الشَّيءِ محبوبًا ومكروهًا ونافعًا وضارًّا، ومُلائِمًا ومُنافِرًا، وهذه صفةٌ ثبوتيَّةٌ للموصوفِ، لكنَّها تتنوَّعُ بتنوُّعِ أحوالِه، فليست لازمةً له، ومن قال: إنَّ الأفعالَ ليس فيها صفاتٌ تقتضي الحُسنَ والقُبحَ، فهو بمنزلةِ قَولِه: ليس في الأجسامِ صِفاتٌ تقتضي التَّسخينَ والتَّبريدَ والإشباعَ والإرواءَ! فسَلْبُ صفاتِ الأعيانِ المُقتَضيةِ للآثارِ كسَلبِ صِفاتِ الأفعالِ المُقتَضيةِ للآثارِ) [932] ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 178). .
وقال أيضًا: (اتَّفق المُسلِمونَ وسائِرُ أهلِ المِلَلِ على أنَّ اللهَ تعالى عَدلٌ قائِمٌ بالقِسطِ لا يَظلِمُ شيئًا، بل هو مُنزَّهٌ عن الظُّلمِ، ثمَّ لمَّا خاضوا في القَدَرِ تنازعوا في معنى كونِه عدلًا في الظُّلمِ الذي هو مُنَزَّهٌ عنه، فقالت طائفةٌ: الظُّلمُ ليس بمُمكنِ الوجودِ، بل كُلُّ مُمكِنٍ إذا قُدِّرَ وجودُه منه فإنَّه عدلٌ، والظُّلمُ هو المُمتنِعُ، مِثلُ الجَمعِ بَينَ الضِّدَّينِ، وكونِ الشَّيءِ موجودًا معدومًا، فإنَّ الظُّلمَ إمَّا التصَرُّفُ في مِلكِ الغيرِ، وكُلُّ ما سِواه مِلكُه، وإمَّا مخالفةُ الآمرِ الذي تجِبُ طاعتُه، وليس فوقَ اللهِ تعالى آمِرٌ تجِبُ عليه طاعتُه، وهؤلاء يقولونَ: مهما تُصُوِّر وجودُه وقُدِّرَ وجودُه فهو عَدلٌ، وإذا قالوا: كلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكُلُّ نقمةٍ منه عَدلٌ، فهذا أمرٌ أُوهِمَ، وهذا قولُ المُجَبِّرةِ مِثلُ جَهمٍ ومن اتَّبَعه، وهو قَولُ الأشعريِّ وأمثالِه من أهلِ الكلامِ، وقَولُ من وافَقهم من الفُقَهاءِ وأهلِ الحديثِ والصُّوفيَّةِ،... والقَولُ الثَّاني: أنَّه عَدلٌ لا يَظلِمُ؛ لأنَّه لم يَرِدْ وُجودُ شَيءٍ من الذُّنوبِ، لا الكُفرِ ولا الفُسوقِ ولا العِصيانِ، بل العِبادُ فعَلوا ذلك بغيرِ مشيئتِه، كما فعلوه عاصينَ لأمرِه، وهو لم يخلُقْ شيئًا من أفعالِ العِبادِ، لا خيرًا ولا شَرًّا، بل هم أحدَثوا أفعالَهم، فلمَّا أحدثوا معاصيَهم استحقُّوا العقوبةَ عليها، فعاقبَهم بأفعالِهم لم يظلِمْهم، هذا قَولُ القَدَريَّةِ من المُعتَزِلةِ وغيرِهم، وهؤلاء عِندَهم لا يتِمُّ تنزيهُه عن الظُّلمِ إن لم يُجعَلْ غَيرَ خالِقٍ لشَيءٍ من أفعالِ العِبادِ، بل ولا قادِرٍ على ذلك، وإن لم يُجعَلْ غيرَ شاءٍ لجَميعِ الكائناتِ، بل يشاءُ ما لا يكونُ، ويكونُ ما لا يشاءُ؛ إذ المشيئةُ عِندَهم بمعنى الأمرِ، وهؤلاء والذين قَبلَهم يتناقضونَ تناقُضًا عظيمًا، ولكُلٍّ من الطَّائفتينِ مباحِثُ ومُصنَّفاتٌ في الرَّدِّ على الأُخرى، وكُلٌّ من الطَّائفتَينِ تُسمِّي الأخرى القَدَريَّةَ، وقد رُويَ عن طائفةٍ من التَّابعينَ مُوافَقةُ هؤلاء.
والقَولُ الثَّالثُ: أنَّ الظُّلمَ وَضعُ الشَّيءِ في غيرِ موضِعِه، والعَدلُ وَضعُ كُلِّ شَيءٍ في موضِعِه، وهو سُبحانَه حكَمٌ عَدلٌ يضَعُ الأشياءَ مواضِعَها، ولا يضَعُ شيئًا إلَّا في مَوضِعِه الذي يناسِبُه، وتقتضيه الحِكمةُ والعَدلُ، ولا يُفرِّقُ بَينَ متماثِلَينِ، ولا يُسوِّي بَينَ مُختلِفَينِ، ولا يُعاقِبُ إلَّا مَن يستحِقُّ العُقوبةَ، فيضَعُها موضِعَها؛ لِما في ذلك من الحِكمةِ والعَدلِ.
وأمَّا أهلُ البِرِّ والتقوى فلا يعاقِبُهم البتَّةَ، قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35-36] ) [933] ((جامع الرسائل)) (1/ 121 - 124) باختصارٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ عن تنازُعِ المُتكَلِّمينَ من مُثبِتةِ القَدَرِ ونُفاتِه في استطاعةِ العبدِ، وهي قُدرتُه وطاقتُه، هل يجِبُ أن تكونَ مع الفِعلِ أو يجِبُ أن تكونَ مُتقَدِّمةً على الفِعلِ: (من قال بالأوَّلِ لَزِمه أن يكونَ كُلُّ عَبدٍ لم يفعَلْ ما أُمِرَ به قد كُلِّف ما لا يُطيقُه، إذا لم يكُنْ عِندَه قُدرةٌ إلَّا مع الفِعلِ؛ ولهذا كان الصَّوابُ الذي عليه مُحقِّقو المُتكلِّمينَ وأهلُ الفِقهِ والحديثِ والتصوُّفِ وغَيرُهم ما دَلَّ عليه القُرآنُ، وهو أنَّ الاستطاعةَ التي هي مَناطُ الأمرِ والنَّهيِ، وهي المُصحِّحةُ للفعلِ لا يجِبُ أن تقارِنَ الفِعلَ، وأمَّا الاستطاعةُ التي يجِبُ معها وُجودُ الفِعلِ فهي مُقارِنةٌ له، فالأوَّلُ: كقَولِه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعِمرانَ بنِ الحُصَينِ: ((صَلِّ قائمًا، فإن لم تستَطِعْ فقاعِدًا، فإن لم تستطِعْ فعلى جَنبٍ ))، ومعلومٌ أنَّ الحَجَّ والصَّلاةَ يجِبُ على المُستطيعِ سواءٌ فَعَل أو لم يفعَلْ، فعُلِمَ أنَّ هذه الاستطاعةَ لا تجِبُ أن تكونَ مع الفِعلِ.
والثَّانيةُ: كقَولِه تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وقَولِه تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 100-101] ، وهذه حالُ من صَدَّه هواه ورأيُه الفاسِدُ عن استماعِ كُتُبِ اللهِ المُنزَّلةِ واتباعِها، فقد أخبر أنَّه لا يستطيعُ ذلك، وهذه الاستطاعةُ هي المقارِنةُ للفِعلِ المُوجِبةُ له. وأمَّا الأُولى فلولا وُجودُها لم يَثبُتِ التَّكليفُ بقَولِه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وقَولِه تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأعراف: 42] ، وأمثالِ ذلك، فهؤلاء المُفَرِّطون والمُعتَدون في أصولِ الدِّينِ إذا لم يَستطيعوا سَمعَ ما أُنزِل إلى الرَّسولِ، فهم مِن هذا القِسمِ.
وكذلك أيضًا تنازُعُهم في المأمورِ به الذي علِمَ اللهُ أنَّه لا يكونُ، أو أخبر مع ذلك أنَّه لا يكونُ؛ فمن النَّاسِ من يقولُ: إنَّ هذا غيرُ مقدورٍ عليه، كما أنَّ غاليةَ القَدَريَّةِ يمنعونَ أن يتقَدَّمَ عِلمُ اللهِ وخَبَرُه وكتابُه بأنَّه لا يكونُ، وذلك لاتِّفاقِ الفريقينِ على أنَّ خِلافَ المعلومِ لا يكونُ ممكِنًا ولا مقدورًا عليه، وقد خالفهم في ذلك جمهورُ النَّاسِ، وقالوا: هذا منقوضٌ عليهم بقُدرةِ اللهِ تعالى، وقالوا: إنَّ اللهَ يعلمُه على ما هو عليه، فيَعلمُه ممكِنًا مقدورًا للعبدِ، غيرَ واقِعٍ ولا كائنٍ لعَدَمِ إرادةِ العَبدِ له أو لبُغضِه إيَّاه ونحِو ذلك، لا لعَجزِه عنه، وهذا النِّزاعُ يزولُ بتنويعِ القُدرةِ كما تقدَّم، فإنَّه غيرُ مقدورٍ القُدرةَ المقارِنةَ للفِعلِ، وإن كان مقدورًا القُدرةَ المُصَحِّحةَ للفِعلِ التي هي مناطُ الأمرِ والنَّهيِ.
وأمَّا العاجِزُ عن الفِعلِ لا يُطيقُه، كما لا يُطيقُ الأعمى والأقطَعُ والزَّمِنُ نَقْطَ المُصحَفِ وكتابتَه، والطَّيرانَ، فمِثلُ هذا النَّوعِ قد اتَّفقوا على أنَّه غيرُ واقعٍ في الشَّريعةِ، وإنَّما تنازعوا في جوازِ الأمرِ به عقلًا، حتَّى نازع بعضُهم في المُمتنِعِ لذاتِه، كالجمعِ بَينَ الضِّدَّينِ والنَّقيضينِ، هل يجوزُ الأمرُ به من جهةِ العَقلِ، مع أنَّ ذلك لم يَرِدْ في الشَّريعةِ؟ ومن غالى فزَعَم وقوعَ هذا الضَّربِ في الشَّريعةِ كمن يزعُمُ أنَّ أبا لهبٍ كُلِّف بأن يُؤمِنَ بأنَّه لا يُؤمِنُ، فهو مُبطِلٌ في ذلك عِندَ عامَّةِ أهلِ القِبلةِ من جميعِ الطَّوائِفِ، بل إذا قُدِّر أنَّه أُخبِر بصِلِيِّه النَّارَ المُستلزِمِ لموتِه على الكُفرِ، وأنَّه أُسمِع هذا الخِطابَ، ففي هذا الحالِ انقَطع تكليفُه، ولم ينفَعْه الإيمانُ حينَئذٍ، كإيمانِ من يؤمِنُ بَعدَ مُعاينةِ العذابِ؛ قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 85] ، وقال تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: 91] .
والمقصودُ هنا التَّنبيهُ على أنَّ النِّزاعَ في هذا الأصلِ يتنوَّعُ تارةً إلى الفِعلِ المأمورِ به، وتارةً إلى جوازِ الأمرِ، ومن هنا شبَّه من شبَّهَ من المتكَلِّمينَ على النَّاسِ؛ حيثُ جَعَل القِسمَينِ قِسمًا واحِدًا، وادَّعى تكليفَ ما لا يُطاقُ مُطلَقًا؛ لوُقوعِ بَعضِ الأقسامِ التي لا يجعَلُها عامَّةُ المُسلِمينَ من بابِ ما لا يُطاقُ، والنِّزاعُ فيها لا يتعَلَّقُ بمسائِلِ الأمرِ والنَّهيِ، وإنَّما يتعَلَّقُ بمسائِلِ القضاءِ والقَدَرِ.
ثمَّ إنَّه جعَل جوازَ هذا القِسمِ مُستلزِمًا لجوازِ القِسمِ الذي اتَّفق المُسلِمون على أنَّه غيرُ مقدورٍ عليه، وقاس أحدَ النَّوعينِ بالآخَرِ، وذلك من الأقيسةِ التي اتَّفق المُسلِمونَ بل وسائِرُ أهلِ المِلَلِ بل وسائِرُ العُقَلاءِ على بُطلانِها؛ فإنَّ من قاس الصَّحيحَ المأمورَ بالأفعالِ لقَولِه: إنَّ القُدرةَ مع الفِعلِ، أو إنَّ اللهَ عَلِم أنَّه لا يفعَلُ، على العاجِزِ الذي لو أراد الفِعلَ لم يقدِرْ عليه؛ فقد جمَع بَينَ ما عُلِم الفَرقُ بينهما بالاضطرارِ عَقلًا ودينًا، وذلك من مِثلِ الأهواءِ بَينَ القَدَريَّةِ وإخوانِهم الجَبريَّةِ، وإذا عُرِف هذا فإطلاقُ القَولِ بتكليفِ ما لا يُطاقُ من البِدَعِ الحادثةِ في الإسلامِ، كإطلاقِ القَولِ بأنَّ النَّاسَ مجبورون على أفعالِهم، وقد اتَّفق سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها على إنكارِ ذلك وذَمِّ من يُطلِقُه، وإن قَصَد به الرَّدَّ على القَدَريَّةِ الذين لا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالِقُ أفعالِ العِبادِ، ولا بأنَّه شاء الكائناتِ، وقالوا: هذا رَدُّ بدعةٍ ببدعةٍ، وقابَلَ الفاسِدَ والباطِلَ بالباطِلِ) [934] ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 146 - 149) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (ذهب طائفةٌ من أهلِ الكلامِ إلى أنَّ تكليفَ المُمتَنِعِ لذاتِه واقِعٌ في الشَّريعةِ، وهذا قَولُ الرَّازيِّ، وطائفةٍ قَبلَه، وزعموا أنَّ تكليفَ أبي لهبٍ وغَيرِه من هذا البابِ، حيثُ كُلِّف أن يُصدِّقَ بالأخبارِ التي من جملتِها الإخبارُ بأنَّه لا يُؤمِنُ، وهذا غلَطٌ؛ فإنَّه مَن أخبر اللهُ أنَّه لا يؤمِنُ، وأنَّه يَصلى النَّارَ بَعدَ دعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له إلى الإيمانِ؛ فقد حَقَّت عليه كَلِمةُ العذابِ،كالذي يُعاينُ الملائكةَ وَقتَ الموتِ، لم يَبقَ بَعدَ هذا مخاطَبًا من جِهةِ الرَّسولِ بهذَينِ الأمرَينِ المتناقِضَينِ، وكذلك من قال: تكليفُ العاجِزِ واقعٌ محتَّمٌ بقولِه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] فإنَّه يناقِضُ هذا الإجماعَ، ومضمونُ الإجماعِ نفيُ وُقوعِ ذلك في الشَّريعةِ، وأيضًا فإنَّ مِثلَ هذا الخطابِ إنَّما هو خطابُ تعجيزٍ على وَجهِ العقوبةِ لهم لتركِهم السُّجودَ وهم سالِمون، يُعاقَبون على تَركِ العِبادةِ في حالِ قُدرتِهم بأن أُمِروا بها حالَ عَجزِهم على سبيلِ العقوبةِ لهم، وخِطابُ العُقوبةِ والجزاءِ من جِنسِ خِطابِ التكوينِ، لا يُشتَرَطُ فيه قُدرةُ المخاطَبِ؛ إذ ليس المطلوبُ فِعلَه، وإذا تبيَّنت الأنواعُ والأقسامُ زال الاشتِباهُ والإبهامُ) [935] ((مجموع الفتاوى)) (8/ 302). .
وقال ابنُ القيِّمِ: (تحقيقُ القولِ في هذا الأصلِ العظيمِ أنَّ القُبحَ ثابِتٌ للفِعلِ في نفسِه، وأنَّه لا يُعذِّبُ اللهُ عليه إلَّا بَعدَ إقامةِ الحُجَّةِ بالرِّسالةِ) [936] ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 7). .
وقال أيضًا: (الحَقُّ الذي لا يجِدُ التناقُضُ إليه السَّبيلَ أنَّه لا تلازُمَ بينهما، وأنَّ الأفعالَ في نَفسِها حَسَنةٌ وقبيحةٌ، كما أنَّها نافِعةٌ وضارَّةٌ، والفَرقُ بينهما كالفَرقِ بَينَ المطعوماتِ والمشموماتِ والمَرئيَّاتِ، ولكِنْ لا يترتَّبُ عليهما ثوابٌ ولا عقابٌ إلَّا بالأمرِ والنَّهيِ، وقبلَ ورودِ الأمرِ والنَّهيِ لا يكونُ قبيحًا مُوجِبًا للعقابِ مع قُبحِه في نَفسِه، بل هو في غايةِ القُبحِ، واللهُ لا يعاقِبُ عليه إلَّا بَعدَ إرسالِ الرُّسُلِ؛ فالسُّجودُ للشَّيطانِ والأوثانِ، والكَذِبُ والزِّنا، والظُّلمُ والفواحِشُ، كُلُّها قبيحةٌ في ذاتِها، والعِقابُ عليها مشروطٌ بالشَّرعِ. فالنُّفاةُ يقولونَ: ليست في ذاتها قبيحةً، وقُبحُها والعقابُ عليها إنَّما ينشَأُ بالشَّرعِ، والمُعتَزِلةُ تقولُ: قُبحُها والعِقابُ عليها ثابتانِ بالعَقلِ) [937] ((مدارج السالكين)) (1/ 247). .

انظر أيضا: