موسوعة الفرق

الفَصْلُ الثَّاني: خِلافُ الأشاعِرةِ في زِيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِه


النَّاظِرُ في كُتُبِ الأشاعِرةِ يَجِدُ خِلافَ أئِمَّتِهم في مَسألةِ زِيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِه؛ فمِنهم مَن أَثبَتَ الزِّيادةَ والنُّقْصانَ في الإيمانِ، ومِنهم مَن لم يُثبِتْ ذلك، ومِنهم مَن فَصَّلَ في المَسْألةِ، ومِنهم مَن جَعَلَ الخِلافَ لَفْظيًّا.
بعضُ النُّقولِ مِن كُتُبِ الأشاعِرةِ:
1- قالَ أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: (أَجمَعوا على أنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمَعْصيةِ، وليس نُقْصانُه عنْدَنا شَكًّا فيما أُمِرْنا بالتَّصْديقِ به، ولا جَهْلًا به؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ، وإنَّما هو نُقْصانٌ في مَرْتَبةِ العِلمِ وزِيادةِ البَيانِ، كما يَخْتلِفُ وَزْنُ طاعتِنا وطاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كنَّا جَميعًا مُؤَدِّينَ للواجِبِ علينا) [833] ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 155). .
2- قالَ الباقِلَّانيُّ: (اعْلَمْ أنَّا لا نُنكِرُ أن نُطلِقَ القَوْلَ بأنَّ الإيمانَ عَقْدٌ بالقَلْبِ، وإقْرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأرْكانِ، على ما جاءَ في الأثَرِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما أرادَ بذلك أن يُخبِرَ عن حَقيقةِ الإيمانِ الَّذي يَنفَعُ في الدُّنْيا والآخِرةِ؛ لأنَّ مَن أَقَرَّ بلِسانِه، وصَدَّقَ بقَلْبِه، وعَمِلَ أرْكانَه، حَكَمْنا له بالإيمانِ وأحْكامِه في الدُّنْيا مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ ولا شَرْطٍ، وحَكَمْنا له أيضًا بالثَّوابِ في الآخِرةِ وحُسْنِ المُنقَلَبِ، مِن حيثُ شاهِدُ الحالِ، وقَطَعْنا له بذلك في الآخِرةِ، بشَرْطِ أن يكونَ في مَعْلومِ اللهِ تَعالى أنَّه يُحْيِيه على ذلك ويُميتُه عليه، ولو أَقَرَّ بلِسانِه وعَمِلَ بأرْكانِه ولم يُصَدِّقْ بقَلْبِه، نَفَعَه ذلك في أحْكامِ الدُّنْيا، ولم يَنفَعْه في الآخِرةِ، وقد بَيَّنَ ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ قالَ: ((يا مَعشَرَ مَن آمَنَ بلِسانِه، ولمَّا يَدخُلِ الإيمانُ في قَلْبِه )) [834] أخرجه أبو داود (4880)، والترمذيُّ مُعَلَّقًا بعد حديث (2032)، وأحمد (19776) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي بَرْزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4880)، وصحَّحه لغيرِه شُعَيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((سنن أبي داود)) (4880)، وجوَّد إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (2/250). ، وإذا تَأمَّلْتَ هذا التَّحْقيقَ وتَدَبَّرْتَه وَجَدْتَ بحَمْدِ اللهِ تَعالى ومَنِّه أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ ليس فيهما اضْطِرابٌ ولا اخْتِلافٌ، وإنَّما الاضْطِرابُ والاخْتِلالُ والاخْتِلافُ في فَهْمِ مَن سَمِعَ ذلك، وليس له فَهْمٌ صَحيحٌ، نَعوذُ باللهِ مِن ذلك. وكذلك أيضًا: لا نُنكِرُ أن نُطلِقَ أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ كما جاءَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، لكنَّ النَّقْصانَ والزِّيادةَ يَرجِعُ في الإيمانِ إلى أحَدِ أمْرَينِ: إمَّا أن يكونَ ذلك راجِعًا إلى القَوْلِ والعَمَلِ دونَ التَّصْديقِ؛ لأنَّ ذلك يُتَصوَّرُ فيهما معَ بَقاءِ الإيمانِ، فأمَّا التَّصْديقُ فمتى انْخَرَمَ مِنه أَدْنى شيءٍ بَطَلَ الإيمانُ. وبَيانُ ذلك: أنَّ المُصدِّقَ بجَميعِ ما جاءَ به الرَّسولُ عليه السَّلامُ إذا تَرَكَ صَلاةً أو صِيامًا أو زَكاةً أو قِراءةً في مَوضِعٍ تَجِبُ فيه القِراءةُ، أو غَيْرَ ذلك مِن الواجِباتِ، لا يوصَفُ بالكُفْرِ بمُجَرَّدِ التَّرْكِ معَ كَمالِ التَّصْديقِ وثَباتِه عليه، وبالضِّدِّ مِن ذلك لو فَعَلَ جَميعَ الطَّاعاتِ، وأَقَرَّ بجَميعِ الواجِباتِ، وصَدَّقَ بجَميعِ ما جاءَ به الرَّسولُ إلَّا تَحْريمَ الخَمْرِ أو نِكاحَ الأُمِّ، ولم يَفعَلْ واحِدًا مِنهما؛ فإنَّه يوصَفُ بالكُفْرِ، وانْسَلَخَ مِن الإيمانِ، ولا يَنفَعُ جَميعُ ذلك معَ انْخِرامِ تَصْديقِه في هذا الحُكْمِ الواحِدِ، فيَجوزُ نَقْصُ الإيمانِ وزِيادتُه مِن طَريقِ الأقْوالِ والأفْعالِ، ولا يَجوزُ مِن طَريقِ التَّصْديقِ، وقد بَيَّنَ ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَوْلِه: ((لا يَكمُلُ إيمانُ العَبْدِ حتَّى يُحِبَّ لأخيه المُسلِمِ الخَيْرَ )) [835] لم نقِفْ عليه بتمامِ لَفْظِه، ولكِنْ أخرجه من طُرُقٍ: النَّسائيُّ (5017)، وأحمد (14082) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُ أحمد: (لا يؤمِنُ عَبدٌ حتى يحِبَّ لأخيه المسلِمِ ما يحِبُّه لنَفْسِه مِنَ الخيرِ). قال ابنُ القطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/586): صحيحٌ أو حَسَنٌ. وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (5017)، وصحَّح إسنادَه على شرطِ الشَّيخَينِ شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14082) وأصلُه في الصَّحيحِ بنَحْوِه بلَفْظِ: ((لا يؤمِنُ أحَدُكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحِبُّ لنَفْسِه)). أخرجه البخاريُّ (13) واللَّفْظُ له، ومسلمٌ (45) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وكذلك قَوْلُه: ((حتَّى يَأمَنَ جارُه بَوائِقَه )) [836] أخرج مسلمٌ في صحيحه (46) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن لا يأمَنُ جارُه بوائِقَه)). ، وأرادَ بذلك الكَفَّ عن الأذى، ولم يُرِدِ التَّصْديقَ؛ لأنَّه لو اسْتَحَلَّ أذاه لم يكنْ له إيمانٌ لا زائِدٌ ولا ناقِصٌ. فافْهَمْ ذلك. والأمْرُ الثَّاني: في جَوازِ إطْلاقِ الزِّيادةِ والنُّقْصانِ على الإيمانِ يُتَصوَّرُ أيضًا أن يكونَ مِن حيثُ الحُكْمُ لا مِن حيثُ الصُّورةُ، فيكونُ ذلك أيضًا في الجَميعِ مِن التَّصديقِ والإقْرارِ والعَمَلِ، ويكونُ المُرادُ بِذلك في الزِّيادةِ والنُّقْصانِ راجِعًا إلى الجَزاءِ والثَّوابِ، والمَدْحِ والثَّناءِ، دونَ نَقْصٍ وزِيادةٍ في تَصْديقٍ مِن حيثُ الصُّورةِ) [837] ((الإنصاف فيما يجب اعْتِقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 53 - 55). .
3- قالَ الجُوَيْنيُّ: (إن قيلَ: فما قَوْلُكم في زِيادةِ الإيمانِ ونُقْصانِه؟ قُلْنا: إذا حَمَلْنا الإيمانَ على التَّصْديقِ فلا يَفضُلُ تَصْديقٌ تَصْديقًا، كما لا يَفضُلُ عِلمٌ عِلمًا، ومَن حَمَلَه على الطَّاعةِ سِرًّا وعَلَنًا -وقد مالَ إليه القَلانِسيُّ- فلا يَبعُدُ على ذلك إطْلاقُ القَوْلِ بأنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمَعْصيةِ، وهذا ممَّا لا نُؤْثِرُه. قُلْنا: النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يَفضُلُ مَن عَداه باسْتِمرارِ تَصْديقِه، وعِصْمةِ اللهِ إيَّاه مِن مُخامَرةِ الشُّكوكِ، واخْتِلاجِ الرِّيَبِ، والتَّصْديقُ عَرَضٌ لا يَبْقى، وهو مُتَوالٍ للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ثابِتٌ لغَيْرِه في بعضِ الأوْقاتِ، زائِلٌ عنه في أوْقاتِ الفَتَراتِ، فيَثبُتُ للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أعْدادٌ مِن التَّصْديقِ لا يَثبُتُ لغَيْرِه إلَّا بعضُها، فيكونُ إيمانُه بذلك أَكثَرُ، فلو وُصِفَ الإيمانُ بالزِّيادةِ والنُّقْصانِ، وأُريدَ بِذلك ما ذَكَرْناه، لَكان مُسْتَقيمًا؛ فاعْلَموه) [838] ((الإرشاد الى قواطع الادلة في أُصول الاعْتِقاد)) (ص: 418). .
4- قالَ الغَزاليُّ: (اخْتِلافُهم في أنَّ الايمانَ: هل يَزيدُ ويَنقُصُ، أم هو على رُتْبةٍ واحِدةٍ؟ وهذا الاخْتِلافُ مَنْشَؤُه الجَهْلُ بكَوْنِ الاسْمِ مُشْترَكًا، أَعْني اسْمَ الإيمانِ، وإذا فُصِّلَ مُسَمَّياتُ هذا اللَّفْظِ ارْتَفَعَ الخِلافُ، وهو مُشتَرَكٌ بَيْنَ ثَلاثةِ مَعانٍ؛ إذ قد يُعبَّرُ به عن التَّصْديقِ اليَقينيِّ البُرْهانيِّ، وقد يُعبَّرُ به عن الاعْتِقادِ التَّقْليديِّ إذا كانَ جَزْمًا، وقد يُعبَّرُ به عن تَصْديقٍ معَه العَمَلُ بموجِبِ التَّصْديقِ، ودَليلُ إطْلاقِه على الأوَّلِ أنَّ مَن عَرَفَ اللهَ تَعالى بالدَّليلِ، وماتَ عَقِيبَ مَعْرفتِه فإنَّا نَحكُمُ بأنَّه ماتَ مُؤمِنًا، ودَليلُ إطْلاقِه على التَّصْديقِ التَّقْليديِّ أنَّ جَماهيرَ العَرَبِ كانوا يُصدِّقونَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُجَرَّدِ إحْسانِه إليهم، وتَلَطُّفِه بِهم، ونَظَرِهم في قَوانينِ أحْوالِه مِن غَيْرِ نَظَرٍ في أَدِلَّةِ الوَحْدانيَّةِ، ووَجْهِ دَلالةِ المُعجِزةِ، وكانَ يَحكُمُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإيمانِهم، وقد قالَ تَعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17] أي: بمُصدِّقٍ، ولم يُفرِّقْ بَيْنَ تَصْديقٍ وتَصْديقٍ، ودَليلُ إطْلاقِه على الفِعلِ قولُه عليه السَّلامُ: ((لا يَزْني الزَّاني وهو مُؤمِنٌ حينَ يَزْني )) [839] أخرجه البخاريُّ (2475)، ومسلمٌ (57) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقَوْلُه عليه السَّلامُ: ((الإيمانُ بِضْعةٌ وسَبْعونَ بابًا، أَدْناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [840] أخرجه البخاريُّ (9) مختصَرًا بلَفْظ: ((بِضعٌ وسِتُّون))، ومسلمٌ (35) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُه: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ)). ، فنَرجِعُ إلى المَقْصودِ ونَقولُ: إن أُطلِقَ الإيمانُ بمَعْنى التَّصْديقِ البُرْهانيِّ لم يُتَصوَّرْ زِيادتُه ولا نُقْصانُه، بلِ اليَقينُ إن حَصَلَ بكَمالِه فلا مَزيدَ عليه، وإنْ لم يَحصُلْ بكَمالِه فليس بيَقينٍ، وهي خُطَّةٌ واحِدةٌ، ولا يُتَصوَّرُ فيها زِيادةٌ ونُقْصانٌ إلَّا أن يُرادَ به زِيادةُ وُضوحٍ، أي: زِيادةُ طُمَأْنينةِ النَّفْسِ إليه، بأنَّ النَّفْسَ تَطْمَئِنُّ إلى اليَقينيَّاتِ النَّظَريَّةِ في الابْتِداءِ إلى حَلٍّ ما، فإذا تَوارَدَتِ الأَدِلَّةُ على شيءٍ واحِدٍ أفادَ بتَظاهُرِ الأَدِلَّةِ زِيادةَ طُمَأْنينةٍ، وكلُّ مَن مارَسَ العُلومَ أَدرَكَ تَفاوُتًا في طُمَأْنينيَّةِ نَفْسِه إلى العِلمِ الضَّروريِّ، وهو العِلمُ بأنَّ الاثْنَينِ أَكثَرُ مِن الواحِدِ، وإلى العِلمِ بحُدوثِ العالَمِ وأنَّ مُحدِثَه واحِدٌ، ثُمَّ يُدرِكُ أيضًا تَفْرِقةً بَيْنَ آحادِ المَسائِلِ بكَثْرةِ أَدِلَّتِها وقِلَّتِها، فالتَّفاوُتُ في طُمَأْنينيَّةِ النَّفْسِ مُشاهَدٌ لكلِّ ناظِرٍ مِن باطِنِه، فإذا فُسِّرَتِ الزِّيادةُ به لم يَمنَعْه أيضًا في هذا التَّصْديقِ. أمَّا إذا أُطلِقَ بمَعْنى التَّصْديقِ التَّقْليديِّ فذلك لا سَبيلَ إلى جَحْدِ التَّفاوُتِ فيه، فإنَّا نُدرِكُ بالمُشاهَدةِ مِن حالِ اليَهوديِّ في تَصْميمِه على عَقْدِه ومِن حالِ النَّصْرانيِّ والمُسلِمِ تَفاوُتًا، حتَّى إنَّ الواحِدَ مِنهم لا يُؤَثِّرُ في نَفْسِه وحَلِّ عَقْدِ طَلَبِه التَّهْويلاتُ والتَّخْويفاتُ، ولا التَّحْقيقاتُ العِلميَّةُ، ولا التَّخَيَّلاتُ الإقْناعيَّةُ، والواحِدُ مِنهم معَ كَوْنِه جازِمًا في اعْتِقادِه تَكونُ نَفْسُه أَطوَعَ لقَبولِ اليَقينِ؛ وذلك لأنَّ الاعْتِقادَ على القَلْبِ مِثلُ عُقْدةٍ ليس فيها انْشِراحٌ وبَرْدُ يَقينٍ، والعُقْدةُ تَخْتلِفُ في شِدَّتِها وضَعْفِها، فلا يُنكِرُ هذا التَّفاوُتَ مُنْصِفٌ، وإنَّما يُنكِرُه الَّذين سَمِعوا مِن العُلومِ والاعْتِقاداتِ أساميَها، ولم يُدرِكوا مِن أنْفُسِهم ذَوْقَها، ولم يُلاحِظوا اخْتِلافَ أحْوالِهم وأحْوالِ غَيْرِهم فيها. وأمَّا إذا أُطلِقَ بالمَعْنى الثَّالِثِ، وهو العَمَلُ معَ التَّصْديقِ، فلا يَخْفى بطُرُقِ التَّفاوُتِ إلى نَفْسِ العَمَلِ، وهلْ يَتَطرَّقُ بسَبَبِ المُواظَبةِ على العَمَلِ تَفاوُتٌ إلى نَفْسِ التَّصْديقِ؟ هذا فيه نَظَرٌ، وتَرْكُ المُداهَنةِ في مِثلِ هذا المَقامِ أَوْلى، والحَقُّ أَحَقُّ ما قيلَ. فأقولُ: إنَّ المُواظَبةَ على الطَّاعاتِ لها تَأثيرٌ في تَأكيدِ طُمَأْنينةِ النَّفْسِ إلى الاعْتِقادِ التَّقْليديِّ، ورُسوخِه في النَّفْسِ، وهذا أمْرٌ لا يَعرِفُه إلَّا مَن سَبَرَ أحْوالَ نفْسِه، وراقَبَها في وَقْتِ المُواظَبةِ على الطَّاعةِ، وفي وَقْتِ الفَتْرةِ، ولاحَظَ تَفاوُتَ الحالِ في باطِنِه، فإنَّه يَزْدادُ بسَبَبِ المُواظَبةِ على العَمَلِ أُنْسُه لمُعْتَقداتِه، ويَتَأكَّدُ به طُمَأْنينتُه، حتَّى إنَّ المُعْتَقِدَ الَّذي طالَتْ مِنه المُواظَبةُ على العَمَلِ بموجِبِ اعْتِقادِه أَعْصى نَفْسًا على المُحاوِلِ تَغْييرَه وتَشْكيكَه ممَّن لم تَطُلْ مُواظَبتُه، بل العاداتُ تَقْضي بها؛ فإنَّ مَن يَعْتقِدُ الرَّحْمةَ في قَلْبِه على يَتيمٍ، فإنْ أَقدَمَ على مَسْحِ رأسِه، وتَفَقُّدِ أمْرِه صادَفَ في قَلْبِه عنْدَ مُمارَسةِ العَمَلِ بموجِبِ الرَّحْمةِ زِيادةَ تَأكيدٍ في الرَّحْمةِ، ومَن يَتَواضَعُ بقَلْبِه لغَيْرِه، فإذا عَمِلَ بموجِبِه ساجِدًا له أو مُقَبِّلًا يَدَه ازْدادَ التَّعْظيمُ والتَّواضُعُ في قَلْبِه؛ ولِذلك تُعُبِّدْنا بالمُواظَبةِ على أفْعالٍ هي مُقْتَضى تَعْظيمِ القَلْبِ مِن الرُّكوعِ والسُّجودِ ليَزْدادَ بسَبَبِها تَعْظيمُ القُلوبِ، فهذه أمورٌ يَجحَدُها المُتَحَذْلِقونَ في الكَلامِ الَّذين أَدرَكوا تَرْتيبَ العِلمِ بسَماعِ الألْفاظِ، ولم يُدرِكوها بذَوْقِ النَّظَرِ، فهذه حَقيقةُ المَسْألةِ) [841] ((الاقتصاد في الاعْتِقاد)) (ص: 122). .
5- قالَ الإيجيُّ: (الإيمانُ هلْ يَزيدُ ويَنقُصُ؟ أَثبَتَه طائِفةٌ، ونَفاه آخَرونَ، قالَ الإمامُ الرَّازِيُّ وكَثيرٌ مِن المُتَكلِّمينَ: هو فَرْعُ تَفْسيرِ الإيمانِ، فإن قُلْنا: هو التَّصْديقُ فلا يَقبَلُهما؛ لأنَّ الواجِبَ هو اليَقينُ، وأنَّه لا يَقبَلُ التَّفاوُتَ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ إنَّما هو لاحْتِمالِ النَّقيضِ، وهو ولو بأَبعَدِ وَجْهٍ يُنافي اليَقينَ، وإن قُلْنا: هو الأعْمالُ فيَقبَلُهما، وهو ظاهِرٌ، والحَقُّ أنَّ التَّصْديقَ يَقبَلُ الزِّيادةَ والنُّقْصانَ بوَجْهَينِ؛ الأوَّلُ: القُوَّةُ والضَّعْفُ، قَوْلُكم: الواجِبُ اليَقينُ، والتَّفاوُتُ لاحْتِمالِ النَّقيضِ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ أنَّ التَّفاوُتَ لِذلك، ثُمَّ ذلك يَقْتَضي أن يكونَ إيمانُ النَّبيِّ وآحادِ الأمَّةِ سَواءً، وأنَّه باطِلٌ إجْماعًا، ولِقَوْلِ إبْراهيَم عليه السَّلامُ: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] ، والظَّاهِرُ أنَّ الظَّنَّ الغالِبَ الَّذي لا يَخطُرُ معَه احْتِمالُ النَّقيضِ بالبالِ حُكْمُه حُكْمُ اليَقينِ، الثَّاني: التَّصْديقُ التَّفْصيليُّ في أفْرادِ ما عُلِمَ مَجيئُه به جُزْءٌ مِن الإيمانِ يُثابُ عليه ثَوابَه على تَصْديقِه بالإجْمالِ، والنُّصوصُ دالَّةٌ على قَبولِه لَهما) [842] ((المواقف مع شرح الجُرْجانيِ)) (3/ 542). .
6- قالَ الجُرْجانيُّ: (كَوْنُ التَّصْديقِ الإيمانيِّ قابِلًا للزِّيادةِ واضِحٌ وُضوحًا تامًّا...، ولا شَكَّ أنَّ التَّصْديقاتِ التَّفَضُّليَّةَ تَقبَلُ الزِّيادةَ فكَذا الإيمانُ، والنُّصوصُ كنَحْوِ قَوْلِه تَعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2] دالَّةٌ على قَبولِه لَهما، أي: قَبولِ الإيمانِ للزِّيادةِ والنُّقْصانِ بالوَجْهِ الثَّاني، كما أنَّ نَصَّ قَوْلِه: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] دَلَّ على قَبولِه لَهما بالوَجْهِ الأوَّلِ) [843] ((المواقف مع شرح الجُرْجاني)) (3/ 544). .
والصَّحيحُ المُعْتمَدُ عنْدَ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ أنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ كما هو قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ المُتَّبِعينَ للسَّلَفِ الصَّالِحِ [844] يُنظر: ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) للصفاقسي (ص: 53)، ((حاشية ابن الأمير على إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 105)، ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 137 - 141)، ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 103). .

انظر أيضا: