موسوعة الفرق

الفَصْلُ الرَّابِعُ: مَفْهومُ الكُفْرِ عنْدَ الأشاعِرةِ


ذَهَبَ الأشاعِرةُ إلى أنَّ الكُفْرَ هو تَكْذيبُ القَلْبِ أو جَهْلُه، ولا يَرَوْنَ أيَّ عَمَلٍ أو قَوْلٍ كُفْرًا بذاتِه، حتَّى السُّجودَ للصَّنَمِ وإلْقاءَ المُصْحَفِ في القاذوراتِ أو سَبَّ اللهِ سُبْحانَه، وسَبَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وإنَّما يَجعَلونَ مِثلَ تلك الأعْمالِ والأقْوالِ عَلامةً على الكُفْرِ الَّذي هو التَّكْذيبُ، وقَرَّروا أنَّ مَن حُكِمَ بكُفْرِه فلِعَدَمِ تَصْديقِ قَلْبِه، وخالَفوا مُعْتَقَدَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الَّذين يَجعَلونَ الكُفْرَ بالاعْتِقادِ، أو القَوْلِ، أو العَمَلِ، أو الشَّكِّ، أو التَّرْكِ، سواءٌ كانَ ذلك اعْتِقادًا أو عِنادًا معَ التَّصْديقِ أو اسْتِهْزاءً ولَعِبًا!
بعضُ النُّقولِ مِن كُتُبِ الأشاعِرةِ:
1- قالَ الباقِلَّانيُّ: (بابُ القَوْلِ في مَعْنى الكُفْرِ، إن قالَ قائِلٌ: وما الكُفْرُ عنْدَكم؟ قيلَ له: هو ضِدُّ الإيمانِ، وهو الجَهْلُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، والتَّكْذيبُ به السَّاتِرُ لقَلْبِ الإنْسانِ عن العِلمِ به، فهو كالمُغَطِّي للقَلْبِ عن مَعْرِفةِ الحَقِّ...، وقد يكونُ الكُفْرُ بمَعْنى التَّكْذيبِ والجَحْدِ والإنْكارِ، وليس في المَعاصي كُفْرٌ غَيْرَ ما ذَكَرْناه، وإن جازَ أن يُسمَّى أحْيانًا ما جُعِلَ عَلَمًا على الكُفْرِ كُفْرًا، نَحْوُ عِبادةِ الأفْلاكِ والنِّيرانِ، واسْتِحْلالِ المُحرَّماتِ، وقَتْلِ الأَنْبِياءِ، وما جَرى مَجْرى ذلك ممَّا وَرَدَ به التَّوْقيفُ، وصَحَّ الإجْماعُ على أنَّه لا يَقَعُ إلَّا مِن كافِرٍ باللهِ، مُكَذِّبٍ له، وجاحِدٍ له) [857] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدَّلائِل)) (ص: 392، 394). .
2- قالَ عَبْدُ القاهِرِ البَغْداديُّ: (قالَ أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: إنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ للهِ ولِرُسُلِه عليهم السَّلامُ في أخْبارِهم، ولا يكونُ هذا التَّصْديقُ صَحيحًا إلَّا بمَعْرفتِه، والكُفْرُ عنْدَه هو التَّكْذيبُ، وإلى هذا القَوْلِ ذَهَبَ ابنُ الرَّاوَنْديِّ، والحُسَيْنُ بنُ الفَضْلِ البَجليُّ) [858] ((أُصول الدين)) (ص: 248). .
وقالَ عَبْدُ القاهِرِ البَغْداديُّ أيضًا: (قالَ أصْحابُنا: إنَّ أكْلَ الخِنْزيرِ مِن غَيْرِ ضَرورةٍ ولا خَوْفٍ، وإظْهارَ زِيِّ الكَفَرةِ في بِلادِ المُسلِمينَ مِن غَيْرِ إكْراهٍ عليه، والسُّجودَ للشَّمْسِ أو للصَّنَمِ، وما جَرى مَجْرى ذلك- مِن عَلاماتِ الكُفْرِ، وإن لم يكنْ في نفْسِه كُفْرًا، إذا لم يُضامَّه عَقْدُ القَلْبِ على الكُفْرِ، ومَن فَعَلَ شَيئًا مِن ذلك أَجرَيْنا عليه حُكْمَ أهْلِ الكُفْرِ وإن لم نَعلَمْ كُفْرَه باطِنًا) [859] ((أُصول الدين)) (ص: 266). .
3- قالَ التَّفْتازانيُّ: (حَقيقةُ الإيمانِ هو التَّصْديقُ القَلْبيُّ، فلا يَخرُجُ المُؤمِنُ عن الاتِّصافِ به إلَّا بما يُنافيَه، ومُجَرَّدُ الإقْدامِ على الكَبيرةِ لِغَلَبةِ شَهْوةٍ أو حَمِيَّةٍ أو أَنَفةٍ أو كَسَلٍ، خُصوصًا إذا اقْتَرَنَ به خَوْفُ العِقابِ ورَجاءُ العَفْوِ والعَزْمُ على التَّوبةِ- لا يُنافيه، نَعمْ، إذا كانَ بطَريقِ الاسْتِحْلالِ والاسْتِخْفافِ كانَ كُفْرًا؛ لكَوْنِه عَلامةً للتَّكْذيبِ، ولا نِزاعَ في أنَّ مِن المَعاصي ما جَعَلَه الشَّارِعُ أمارةً للتَّكْذيبِ، وعُلِمَ كَوْنُه كذلك بالأَدِلَّةِ الشَّرْعيَّةِ؛ كسُجودٍ للصَّنَمِ، وإلْقاءِ المُصْحَفِ في القاذوراتِ، والتَّلَفُّظِ بكَلِماتِ الكُفْرِ، ونَحْوِ ذلك ممَّا يَثبُتُ بالأَدِلَّةِ أنَّه كُفْرٌ، وبِهذا يَنحَلُّ ما قيلَ: إنَّ الإيمانَ إذا كانَ عِبارةً عن التَّصْديقِ والإقْرارِ يَنْبَغي ألَّا يَصيرَ المُقِرُّ المُصدِّقُ كافِرًا بشيءٍ مِن أفْعالِ الكُفْرِ وألْفاظِه، ما لم يَتَحقَّقْ مِنه التَّكْذيبُ أو الشَّكُّ) [860] ((شرح العَقائِد النسفية)) (ص: 72). .
وقد شَنَّعَ أهْلُ العِلمِ على الأشاعِرةِ قَوْلَهم هذا، ومِن ذلك ما قالَه ابنُ حَزْمٍ: (نَقولُ للجَهْميَّةِ والأَشْعَريَّةِ في قَوْلِهم: إنَّ جَحْدَ اللهِ تَعالى، وشَتْمَه، وجَحْدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا كانَ كلُّ ذلك باللِّسانِ، فإنَّه ليس كُفْرًا لكنَّه دَليلٌ على أنَّ في القَلْبِ كُفْرًا! أَخْبِرونا عن هذا الدَّليلِ الَّذي ذَكَرْتُم، أَتَقْطَعونَ به فتُثبِتونَه يَقينًا ولا تَشُكُّونَ في أنَّ في قَلْبِه جَحْدًا للرُّبوبيَّةِ وللنُّبُوَّةِ؟ أم هو دَليلٌ يَجوزُ ويَدخُلُه الشَّكُّ، ويُمكِنُ ألَّا يكونَ في قَلْبِه كُفْرٌ؟ ولا بُدَّ مِن أحَدِهما، فإن قالوا: إنَّه دَليلٌ لا نَقطَعُ به قَطْعًا، ولا نُثبِتُه يَقينًا، قُلْنا لهم: فما بالُكم تَحْتَجُّونَ بالظَّنِّ الَّذي قالَ تَعالى فيه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] ؟) [861] ((الفَصْل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 120). .
وقالَ ابنُ حَزْمٍ أيضًا: (أمَّا قَوْلُهم: إنَّ شَتْمَ اللهِ تَعالى ليس كُفْرًا، وكذلك شَتْمُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو دَعْوى؛ لأنَّ اللهَ تَعالى قالَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة: 74] ، فنَصَّ تَعالى على أنَّ مِن الكَلامِ ما هو كُفْرٌ، وقالَ تَعالى: أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140] ، فنَصَّ تَعالى أنَّ مِن الكَلامِ في آياتِ اللهِ تَعالى ما هو كُفْرٌ بعَيْنِه مَسْموعٌ، وقالَ تَعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة: 65-66] ، فنَصَّ تَعالى على أنَّ الاسْتِهْزاءَ باللهِ تَعالى أو بآياتِه أو برَسولٍ مِن رُسُلِه كُفْرٌ مُخرِجٌ عن الإيمانِ، ولم يَقُلْ تَعالى في ذلك: إنِّي عَلِمْتُ أنَّ في قُلوبِكم كُفْرًا، بل جَعَلَهم كُفَّارًا بنَفْسِ الاسْتِهزاءِ، ومَن ادَّعى غَيْرَ هذا فقد قَوَّلَ اللهَ تَعالى ما لم يَقُلْ، وكَذَبَ على اللهِ تَعالى) [862] ((الفَصْل في الملل والأهواء والنحل)) (3/ 114). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (يَمْتنِعُ أن يكونَ الإنْسانُ مُحِبًّا للهِ ورَسولِه، مُريدًا لِما يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه إرادةً جازِمةً، معَ قُدْرتِه على ذلك وهو لا يَفعَلُه، فإذا لم يَتَكلَّمِ الإنْسانُ بالإيمانِ معَ قُدْرتِه دَلَّ على أنَّه ليس في قَلْبِه الإيمانُ الواجِبُ الَّذي فَرَضَه اللهُ عليه، ومِن هنا يَظهَرُ خَطَأُ قَوْلِ جَهْمِ بنِ صَفْوانَ ومَن اتَّبَعَه؛ حيثُ ظَنُّوا أنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ تَصْديقِ القَلْبِ وعِلْمِه، لم يَجعَلوا أعْمالَ القَلْبِ مِن الإيمانِ، وظَنُّوا أنَّه قد يكونُ الإنْسانُ مُؤمِنًا كامِلَ الإيمانِ بقَلْبِه، وهو معَ هذا يَسُبُّ اللهَ ورَسولَه، ويُعادي اللهَ ورَسولَه، ويُعادي أوْلِياءَ اللهِ ويُوالي أعْداءَ اللهِ، ويَقتُلُ الأَنْبِياءَ، ويَهدِمُ المَساجِدَ، ويُهينُ المَصاحِفَ، ويُكرِمُ الكُفَّارَ غايةَ الكَرامةِ، ويُهينُ المُؤمِنينَ غايةَ الإهانةِ! قالوا: وهذه كلُّها مَعاصٍ لا تُنافي الإيمانَ الَّذي في قَلْبِه، بل يَفعَلُ هذا وهو في الباطِنِ عنْدَ اللهِ مُؤمِنٌ! قالوا: وإنَّما ثَبَتَ له في الدُّنْيا أحْكامُ الكُفَّارِ؛ لأنَّ هذه الأقْوالَ أمارةٌ على الكُفْرِ ليُحكَمَ بالظَّاهِرِ كما يُحكَمُ بالإقْرارِ والشُّهودِ، وإن كانَ في الباطِنِ قد يَكونُ بخِلافِ ما أقَرَّ به، وبخِلافِ ما شَهِدَ به الشُّهودُ، فإذا أُورِدَ عليهم الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجْماعُ على أنَّ الواحِدَ مِن هؤلاء كافِرٌ في نفْسِ الأمْرِ مُعذَّبٌ في الآخِرةِ، قالوا: فهذا دَليلٌ على انْتِفاءِ التَّصْديقِ والعِلمِ مِن قَلْبِه، فالكُفْرُ عنْدَهم شيءٌ واحِدٌ وهو الجَهْلُ، والإيمانُ شيءٌ واحِدٌ وهو العِلمُ، أو تَكْذيبِ القَلْبِ وتَصْديقِه، فإنَّهم مُتنازِعونَ: هلْ تَصْديقُ القَلْبِ شيءٌ غَيْرُ العِلمِ أو هو هو؟ وهذا القَوْلُ معَ أنَّه أَفسَدُ قَوْلٍ قيلَ في الإيمانِ، فقد ذَهَبَ إليه كَثيرٌ مِن أهْلِ الكَلامِ المُرْجِئةِ!) [863] ((الإيمان)) (ص: 150). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (مَنشَأُ هذه الشُّبْهةِ الَّتي أَوجَبَتْ هذا الوَهْمَ مِن المُتَكلِّمينَ ومَن حَذا حَذْوَهم مِن الفُقَهاءِ أنَّهم رأَوا أنَّ الإيمانَ هو تَصْديقُ الرَّسولِ فيما أَخبَرَ به، ورأَوا أنَّ اعْتِقادَ صِدْقِه لا يُنافي السَّبَّ والشَّتْمَ بالذَّاتِ، كما أنَّ اعْتِقادَ إيجابِ طاعتِه لا يُنافي مَعْصيتَه؛ فإنَّ الإنْسانَ قد يُهينُ مَن يَعْتقِدُ وُجوبَ إكْرامِه، كما يَترُكُ ما يَعْتقِدُ وُجوبَ فِعلِه، ويَفعَلُ ما يَعْتقِدُ وُجوبَ تَرْكِه، ثُمَّ رأَوا أنَّ الأمَّةَ قد كَفَّرَتِ السَّابَّ فقالوا: إنَّما كُفِّرَ لأنَّ سَبَّه دَليلٌ على أنَّه لم يَعْتقِدْ أنَّه حَرامٌ، واعْتِقادُ حِلِّه تَكْذيبٌ للرَّسولِ؛ فكَفَرَ بِهذا التَّكْذيبِ لا بتلك الإهانةِ، وإنَّما الإهانةُ دَليلٌ على التَّكْذيبِ، فإذا فُرِضَ أنَّه في نفْسِ الأمْرِ ليس بمُكَذِّبٍ كانَ في نفْسِ الأمْرِ مُؤمِنًا، وإن كانَ حُكْمُ الظَّاهِرِ إنَّما يَجْري عليه بما أَظهَرَه؛ فهذا مَأخَذُ المُرْجِئةِ ومُعْتَضديهم، وهُمُ الَّذين يَقولونَ: الإيمانُ هو الاعْتِقادُ والقَوْلُ، وغُلاتُهم وهُمُ الكَرَّاميَّةُ الَّذين يَقولونَ: هو مُجَرَّدُ القَوْلِ، وإن عَرِيَ عن الاعْتِقادِ، وأمَّا الجَهْميَّةُ الَّذين يَقولونَ: هو مُجَرَّدُ المَعْرِفةِ والتَّصْديقِ بالقَلْبِ فقط وإن لم يَتَكلَّمْ بلِسانِه، فلهم مَأخَذٌ آخَرُ، وهو أنَّه قد يَقولُ بلِسانِه ما ليس في قَلْبِه، فإذا كانَ في قَلْبِه التَّعْظيمُ والتَّوْقيرُ للرَّسولِ، لم يَقدَحْ إظْهارُ خِلافِ ذلك بلِسانِه في الباطِنِ، كما لا يَنفَعُ المُنافِقَ إظْهارُ خِلافِ ما في قَلْبِه في الباطِنِ، وجَوابُ الشُّبْهةِ الأُولى مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الإيمانَ وإن كانَ أصْلُه تَصْديقَ القَلْبِ فذلك التَّصْديقُ لا بُدَّ أن يوجِبَ حالًا في القَلْبِ وعَمَلًا له، وهو تَعْظيمُ الرَّسولِ وإجْلالُه ومَحَبَّتُه، وذلك أمْرٌ لازِمٌ، كالتَّألُّمِ والتَّنَعُّمِ عنْدَ الإحْساسِ بالمُؤلِمِ والمُنعمِ، وكالنَّفْرةِ والشَّهوةِ عنْدَ الشُّعورِ بالمُلائِمِ والمُنافي، فإذا لم تَحصُلْ هذه الحالُ والعَمَلُ في القَلْبِ لم يَنفَعْ ذلك التَّصْديقُ ولم يُغْنِ شَيئًا، وإنَّما يَمْتنِعُ حُصولُه إذا عارَضَه مُعارِضٌ مِن حَسَدِ الرَّسولِ، أو التَّكَبُّرِ عليه، أو الإهْمالِ له، وإعْراضِ القَلْبِ عنه، ونَحْوِ ذلك، كما أنَّ إدْراكَ المُلائِمِ والمُنافي يوجِبَ اللَّذَّةَ والألَمَ إلَّا أن يُعارِضَه مُعارِضٌ، ومتى حَصَلَ المُعارِضُ كانَ وُجودُ ذلك التَّصْديقِ كعَدَمِه، كما يكونُ وُجودُ ذلك كعَدَمِه، بل يكونُ ذلك المُعارِضُ موجِبًا لعَدَمِ المَعْلولِ الَّذي هو حالٌّ في القَلْبِ، وبتَوَسُّطِ عَدَمِه يَزولُ التَّصْديقُ الَّذي هو العِلَّةُ، فيَنْقلِعُ الإيمانُ بالكُلِّيَّةِ مِن القَلْبِ، وهذا هو الموجِبُ لكُفْرِ مَن حَسَدَ الأَنْبِياءَ، أو تَكبَّرَ عليهم، أو كَرِهَ فِراقَ الإلْفِ والعادةِ معَ عِلمِه بأنَّهم صادِقونَ، وكُفْرُهم أَغلَظُ مِن كُفْرِ الجُهَّالِ.
الثَّاني: أنَّ الإيمانَ وإن كانَ يَتَضمَّنُ التَّصْديقَ فليس هو مُجرَّدَ التَّصْديقِ، وإنَّما هو الإقْرارُ والطُّمَأْنينةُ، وذلك لأنَّ التَّصْديقَ إنَّما يَعرِضُ للخَبَرِ فقط، فأمَّا الأمْرُ فليس فيه تَصْديقٌ مِن حيثُ هو أمْرٌ، وكَلامُ اللهِ خَبَرٌ وأمْرٌ، فالخَبَرُ يَسْتَوجِبُ تَصْديقَ المُخبِرِ، والأمْرُ يَسْتوجِبُ الانْقِيادَ له والاسْتِسْلامَ، وهو عَمَلٌ في القَلْبِ جِماعُه الخُضوعُ والانْقِيادُ للأمْرِ، وإن لم يَفعَلِ المَأمورَ به، فإذا قوبِلَ الخَبَرُ بالتَّصْديقِ، والأمْرُ بالانْقيادِ؛ فقد حَصَلَ أصْلُ الإيمانِ في القَلْبِ، وهو الطُّمَأْنينةُ والإقْرارُ، فإنَّ اشْتِقاقَه مِن الأمْنِ الَّذي هو القَرارُ والطُّمَأْنينةُ، وذلك إنَّما يَحصُلُ إذا اسْتَقَرَّ في القَلْبِ التَّصْديقُ والانْقيادُ، وإذا كانَ كذلك فالسَّبُّ إهانةٌ واسْتِخْفافٌ، والانْقِيادُ للأمْرِ إكْرامٌ وإعْزازٌ، ومُحالٌ أن يُهينَ القَلْبُ مَن قد انْقادَ له وخَضَعَ واسْتَسْلَمَ أو يَسْتَخِفَّ به، فإذا حَصَلَ في القَلْبِ اسْتِخْفافٌ واسْتِهانةٌ امْتَنَعَ أن يكونَ فيه انْقِيادٌ أو اسْتِسْلامٌ، فلا يكونُ فيه إيمانٌ، وهذا هو بعَيْنِه كُفْرُ إبْليسَ؛ فإنَّه سَمِعَ أمْرَ اللهِ له فلم يُكذِّبْ رَسولًا، ولكن لم يَنْقَدْ للأمْرِ، ولم يَخضَعْ له، واسْتَكْبَرَ عن الطَّاعةِ؛ فصارَ كافِرًا، وهذا مَوضِعٌ زاغَ فيه خَلْقٌ مِن الخَلَفِ، تُخُيِّلَ لهم أنَّ الإيمانَ ليس في الأصْلِ إلَّا التَّصْديقَ، ثُمَّ يَرَوْنَ مِثلَ إبْليسَ وفِرْعَوْنَ ممَّن لم يَصدُرْ عنه تَكْذيبٌ، أو صَدَرَ عنه تَكْذيبٌ باللِّسانِ لا بالقَلْبِ، وكُفْرُه مِن أَغلَظِ الكُفْرِ، فيَتَحيَّرونَ، ولو أنَّهم هُدوا لِما هُدِيَ إليه السَّلَفُ الصَّالِحُ لَعَلِموا أنَّ الإيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، أَعْني في الأصْلِ: قَوْلًا في القَلْبِ، وعَمَلًا في القَلْبِ، فإنَّ الإيمانَ بحسَبِ كَلامِ اللهِ ورِسالتِه، وكَلامُ اللهِ ورِسالتُه يَتَضمَّنُ أخْبارَه وأوامِرَه، فيُصدِّقُ القَلْبُ أخْبارَه تَصْديقًا يوجِبُ حالًا في القَلْبِ بحَسَبِ المُصدَّقِ به، والتَّصْديقُ هو مِن نَوْعِ العِلمِ والقَوْلِ، ويَنْقادُ لأمْرِه ويَسْتَسلِمُ، وهذا الانْقِيادُ والاسْتِسْلامُ هو نَوْعٌ مِن الإرادةِ والعَمَلِ، ولا يكونُ مُؤمِنًا إلَّا بمَجْموعِ الأمْرَينِ، فمتى تَرَكَ الانْقِيادَ كانَ مُسْتَكبِرًا، فصارَ مِن الكافِرينَ، وإذا كانَ مُصدِّقًا فالكُفْرُ أَعَمُّ مِن التَّكْذيبِ، يكون تَكْذيبًا وجَهْلًا، ويكونُ اسْتِكْبارًا وظُلْمًا؛ ولِهذا لم يوصَفْ إبْليسُ إلَّا بالكُفْرِ والاسْتِكْبارِ دونَ التَّكْذيبِ؛ ولِهذا كانَ كُفْرُ مَن يَعلَمُ -مِثلُ اليَهودِ ونَحْوِهم- مِن جِنْسِ كُفْرِ إبْليسَ، وكانَ كُفْرُ مَن يَجهَلُ -مِثلُ النَّصارى ونَحْوِهم- ضَلالًا، وهو الجَهْلُ...، أَلَا تَرى أنَّ مَن صَدَّقَ الرَّسولَ بأنَّ ما جاءَ به هو رِسالةُ اللهِ، وقد تَضَمَّنَتْ خَبَرًا وأمْرًا فإنَّه يَحْتاجُ إلى مَقامٍ ثانٍ، وهو تَصْديقُه خَبَرَ اللهِ، وانْقِيادٌ لأمْرِ اللهِ؟! فإذا قالَ: أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فهذه الشَّهادةُ تَتَضمَّنُ تَصْديقَ خَبَرِه، والانْقِيادَ لأمْرِه، فإذا قالَ: وأَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، تَضَمَّنَتْ تَصْديقَ الرَّسولِ فيما جاءَ به مِن عنْدِ اللهِ، فبمَجْموعِ هاتَينِ الشَّهادتيَنِ يَتِمُّ الإقْرارُ، فلمَّا كانَ التَّصْديقُ لا بُدَّ مِنه في كِلتا الشَّهادتَينِ، وهو الَّذي يَتَلقَّى الرِّسالةَ بالقَبولِ، ظَنَّ مَن ظَنَّ أنَّه أصْلٌ لجَميعِ الإيمانِ، وغَفَلَ عن أنَّ الأصْلَ الآخَرَ لا بُدَّ مِنه، وهو الانْقِيادُ، وإلَّا فقد يُصدِّقُ الرَّسولَ ظاهِرًا وباطِنًا ثُمَّ يَمْتنِعُ مِن الانْقِيادِ للأمْرِ؛ إذ غايتُه في تَصْديقِ الرَّسولِ أن يكونَ بمَنزِلةِ مَن سَمِعَ الرِّسالةَ مِن اللهِ سُبْحانَه وتَعالى كإبْليسَ، وهذا ممَّا يُبيِّنُ لك أنَّ الاسْتِهْزاءَ باللهِ وبرَسولِه يُنافي الانْقِيادَ له؛ لأنَّه قد بَلَّغَ عن اللهِ أنَّه أَمَرَ بطاعتِه، فصارَ الانْقِيادُ له مِن تَصْديقِه في خَبَرِه، فمَن لم يَنقَدْ لأمْرِه فهو إمَّا مُكذِّبٌ له، أو مُمْتنِعٌ عن الانْقِيادِ لرَبِّه، وكِلاهما كُفْرٌ صَريحٌ، ومَن اسْتَخَفَّ به واسْتَهْزَأَ بقَلْبِه امْتَنَعَ أن يكونَ مُنْقادًا لأمْرِه؛ فإنَّ الانْقِيادَ إجْلالٌ وإكْرامٌ، والاسْتِخْفافَ إهانةٌ وإذْلالٌ، وهذان ضِدَّانِ، فمتى حَصَلَ في القَلْبِ أحَدُهما انْتَفى الآخَرُ، فعُلِمَ أنَّ الاسْتِخْفافَ والاسْتِهانةَ به يُنافي الإيمانَ مُنافاةَ الضِّدِّ للضِّدِّ) [864] ((الصارم المسلول على شاتم الرَّسول)) (ص: 518 - 521). .

انظر أيضا: