موسوعة الفرق

الفَصْلُ الأوَّلُ: مَفْهومُ الإيمانِ عنْدَ الأشاعِرةِ


مِن المَسائِلِ الَّتي اخْتَلَفَتْ فيها النُّقولُ عن أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ مَسْألةُ الإيمانِ؛ ففي كِتابِه "الإبانة" التَّصْريحُ بأنَّ الإيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، اتِّباعًا لمَذهَبِ السَّلَفِ، ونَقَلَ عنه أتْباعُه وغَيْرُهم القَوْلَ بأنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقَ، ونَقَلَ بعضُهم أنَّ لأبي الحَسَنِ في الإيمانِ قَوْلَينِ، فالظَّاهِرُ أنَّ قَوْلَه الأخيرَ هو الَّذي رَجَعَ فيه إلى مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، فإنَّ كِتابَه الإبانةَ مِن آخِرِ تَآليفِه، ومعَ هذا فإنَّ المَشْهورَ في مَذهَبِ الأشاعِرةِ أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ.
بعضُ النُّقولِ مِن كُتُبِ الأشاعِرةِ:
1- قالَ أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: (نُؤمِنُ أنَّ الإيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ) [810] ((الإبانة عن أُصول الديانة)) (ص: 27) ونقل كلامَه هذا ابنُ عساكِر في كِتابه ((تبيين كذب المفتري فيما نُسِب إلى الأَشْعَرِي)) (ص: 160)، وقد أطال أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ في ذِكْرِ مذاهِبِ المُرجِئةِ في الإيمانِ والكُفْرِ في كِتابِه ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 114 - 122)، قال أبو الحَسَنِ: (والفِرْقةُ الثَّانيةُ مِنَ المُرجِئةِ يَزْعُمونَ أنَّ الإيمانَ هو المَعْرِفةُ باللهِ فقط، والكُفْرَ هو الجَهْلُ به فقط، فلا إيمانَ باللهِ إلَّا المَعْرِفةُ به، ولا كُفْرَ باللهِ إلَّا الجَهْلُ به، وأنَّ قَولَ القائِلِ: إنَّ اللهَ ثالِثُ ثلاثةٍ، ليس بكُفرٍ، ولكِنَّه لا يَظهَرُ إلَّا مِن كافِرٍ، وذلك أنَّ اللهَ سُبْحانَه أكْفَرَ مَنْ قال ذلك، وأجمع المسلِمون أنَّه لا يقولُه إلَّا كافِرٌ. وزعموا أنَّ مَعْرِفةَ اللهِ هي المحبَّةُ له، وهي الخضوعُ لله، وأصحابُ هذا القَوْلِ لا يَزْعُمون أنَّ الإيمانَ باللهِ إيمانٌ بالرَّسولِ، وأنَّه لا يؤمِنُ باللهِ إذا جاء الرَّسولُ إلَّا من آمَنَ بالرَّسولِ، ليس لأنَّ ذلك يستحيلُ، ولكِنْ لأنَّ الرَّسولَ قال: ومن لا يؤمِنْ بي فليس بمؤمِنٍ باللهِ. وزعموا أيضًا أنَّ الصَّلاةَ ليست بعِبادةٍ لله، وأنَّه لا عِبادةَ إلَّا الإيمانُ به، وهو مَعرِفَتُه، والإيمانُ عِندَهم لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، وهو خَصلةٌ واحِدةٌ، وكذلك الكُفْرُ، والقائِلُ بهذا القَوْلِ أبو الحُسَينِ الصَّالحيُّ) ((مقالات الإسلاميين)) (1/ 115). ومَذهَبُ الأشاعِرةِ يوافِقُ قَولَ الصَّالحيِّ في بَعْضِ ما نقله عنه أبو الحَسَنِ، وإن كان ظاهِرُ تَفْصيلِ أبي الحَسَنِ لمذهَبِ الصَّالحيِّ أنَّه لا يقولُ به، وابنُ تيميَّةَ يَجعَلُ لأبي الحَسَنِ قَولَينِ في الإيمانِ؛ أحَدُهما هو قَولُ الصَّالحيِّ، والآخَرُ هو قَولُ السَّلَفِ. قال ابنُ تيميَّةَ: (قال أبو عَبدِ اللهِ الصَّالحيُّ: إنَّ الإيمانَ مجرَّدُ تصديقِ القَلْبِ ومَعرِفَتِه، لكِنْ له لوازِمُ، فإذا ذهَبَت دَلَّ ذلك على عَدَمِ تصديقِ القَلْبِ، وإنَّ كُلَّ قَولٍ أو عمَلٍ ظاهِرٍ دَلَّ الشَّرْعُ على أنَّه كُفرٌ، كان ذلك لأنَّه دليلٌ على عَدَمِ تصديقِ القَلْبِ ومَعرِفَتِه، وليس الكُفْرُ إلَّا تلك الخَصْلةَ الواحِدةَ، وليس الإيمانُ إلَّا مجرَّدَ التصديقِ الَّذي في القَلْبِ والمَعْرِفةِ، وهذا أشهَرُ قَولَي أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وعليه أصحابُه، كالقاضي أبي بَكرٍ، وأبي المعالي، وأمثالِهما؛ ولهذا عَدَّهم أهلُ المقالاتِ مِنَ المُرجِئةِ، والقَوْلُ الآخَرُ عنه كقَولِ السَّلَفِ وأهلِ الحديثِ: أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، وهو اختيارُ طائفةٍ مِن أصحابِه) ((مجموع الفتاوى)) (7/ 509). .
2- قالَ الباقِلَّانيُّ: (الإيمانُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ هو: التَّصْديقُ بالقَلْبِ بأنَّه اللهُ الواحِدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ...، والدَّليلُ على أنَّ الإيمانَ هو الإقْرارُ بالقَلْبِ والتَّصْديقُ قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] يُريدُ: بمُصدِّقٍ لنا. ومِنه قَوْلُه عَزَّ وجَلَّ: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12] أي: تُصَدِّقوا. ويُقالُ: فُلانٌ يُؤمِنُ باللهِ وبالبَعْثِ، أي: يُصدِّقُ بِذلك. وكذلك قَوْلُهم: فُلانٌ يُؤمِنُ بالشَّفاعةِ والقَدَرِ، وفُلانٌ لا يُؤمِنُ بذلك، يَعْني به التَّصْديقَ، وبنَفْيِ الإيمانِ به التَّكْذيبَ. وقد اتَّفَقَ أهْلُ اللُّغةِ قَبْلَ نُزولِ القُرْآنِ وبَعْثِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ على أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ هو التَّصْديقُ دونَ سائِرِ أفْعالِ الجَوارِحِ والقُلوبِ) [811] ((الإنصاف فيما يجب اعْتِقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 22). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ أيضًا: (الإيمانُ هو التَّصْديقُ باللهِ تَعالى، وهو العِلمُ، والتَّصْديقُ يوجَدُ بالقَلْبِ، فإن قالَ: وما الدَّليلُ على ما قُلْتُم؟ قيلَ له: إجْماعُ أهْلِ اللُّغةِ قاطِبةً على أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ قَبْلَ نُزولِ القُرْآنِ وبَعْثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو التَّصْديقُ، لا يَعرِفونَ في لُغتِهم إيمانًا غَيْرَ ذلك...، فوَجَبَ أن يكونَ الإيمانُ في الشَّريعةِ هو الإيمانَ المَعْروفَ في اللُّغةِ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ما غَيَّرَ لِسانَ العَرَبِ ولا قَلَبَه، ولو فَعَلَ ذلك لتَواتَرَتِ الأخْبارُ بفِعلِه، وتَوَفَّرَتْ دَواعي الأمَّةِ على نَقْلِه، ولَغَلَبَ إظْهارُه وإشْهارُه على طَيِّه وكِتْمانِه، وفي عِلمِنا بأنَّه لم يَفعَلْ ذلك بلْ أَقَرَّ أسْماءَ الأشْياءِ والتَّخاطُبَ بأسْرِه على ما كانَ فيها- دَليلٌ على أنَّ الإيمانَ في الشَّرْعِ هو الإيمانُ اللُّغويُّ) [812] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدَّلائِل)) (ص: 389). .
3- قالَ الجُوَيْنيُّ: (فَصْلٌ في مَعْنى الإيمانِ، اعْلَموا أنَّ غَرَضَنا في هذا الفَصْلِ يَسْتَدْعي تَقْديمَ ذِكْرِ حَقيقةِ الإيمانِ، وهذا ممَّا اخْتَلَفَتْ فيه مَذاهِبُ الإسْلاميِّينَ. فذَهَبَتِ الخَوارِجُ إلى أنَّ الإيمانَ هو الطَّاعةُ، ومالَ إلى ذلك كَثيرٌ مِن المُعْتَزِلةِ، واخْتَلَفَتْ مَذاهِبُهم في تَسْميةِ النَّوافِلِ إيمانًا. وصارَ أصْحابُ الحَديثِ إلى أنَّ الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالجَنانِ، وإقْرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأرْكانِ. وذَهَبَ بعضُ القُدَماءِ إلى أنَّ الإيمانَ هو المَعْرِفةُ بالقَلْبِ والإقرْارُ بها. وذَهَبَتِ الكَرَّاميَّةُ إلى أنَّ الإيمانَ هو الإقْرارُ باللِّسانِ فحَسْبُ، ومُضْمِرُ الكُفْرِ إذا أَظهَرَ الإيمانَ مُؤمِنٌ حَقًّا عنْدَهم، غَيْرَ أنَّه يَسْتوجِبُ الخُلودَ في النَّارِ. ولو أَضمَرَ الإيمانَ ولم يَتَّفِقْ مِنه إظْهارُه، فهو ليس بمُؤمِنٍ، وله الخُلودُ في الجَنَّةِ. والمَرْضِيُّ عنْدَنا أنَّ حَقيقةَ الإيمانِ التَّصْديقُ باللهِ تَعالى، فالمُؤمِنُ باللهِ مَن صَدَّقَه) [813] ((الإرشاد الى قواطع الادلة في أُصول الاعْتِقاد)) (ص: 415). .
ولأبي المَعالي الجُوَيْنيِّ قَوْلٌ آخَرُ في الإيمانِ، وهو أنَّه التَّصْديقُ بالقَلْبِ والإقْرارُ باللِّسانِ، قالَ الجُوَيْنيُّ: (حَقيقةُ الإيمانِ عنْدَنا: التَّصْديقُ، وهو مَعْناه في اللُّغةِ...، والمُؤمِنُ على التَّحْقيقِ: مَن انْطَوى عَقْدُه على المَعْرِفةِ بصِدْقِ مَن أَخبَرَ عن صانِعِ العالَمِ وصِفاتِه، وأنْبِيائِه. فإن اعْتَرَفَ بلِسانِه بما عَرَفَه بجَنانِه، فهو مُؤمِنٌ ظاهِرًا وباطِنًا. وإن لم يَعْترِفْ بلِسانِه مُعانِدًا لم يَنفَعْه عِلمُ قَلْبِه، وكانَ في حُكْمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى مِن الكافِرينَ به كُفْرَ جُحودٍ وعِنادٍ) [814] ((العَقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 257، 260). .
4- قالَ الشَّهْرَسْتانيُّ مُبَيِّنًا قَوْلَ أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ: (قالَ: الإيمانُ هو التَّصْديقُ بالجَنانِ. وأمَّا القَوْلُ باللِّسانِ والعَمَلُ بالأرْكانِ ففُروعُه؛ فمَن صَدَّقَ بالقَلْبِ، أي: أقَرَّ بوَحْدانيَّةِ اللهِ تَعالى، واعْترَفَ بالرُّسُلِ تَصْديقًا لهم فيما جاؤوا به مِن عنْدِ اللهِ تَعالى بالقَلْبِ، صَحَّ إيمانُه حتَّى لو ماتَ عليه في الحالِ كانَ مُؤمِنًا ناجِيًا، ولا يَخرُجُ مِن الإيمانِ إلَّا بإنْكارِ شيءٍ مِن ذلك) [815] ((الملل والنحل)) (1/ 101). .
5- قالَ الغَزاليُّ: (الإيمانُ هو التَّصْديقُ المَحْضُ، واللِّسانُ تُرْجمانُ الإيمانِ) [816] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 249). .
6- قالَ الرَّازِيُّ: (الإيمانُ عِبارةٌ عن التَّصْديقِ بكلِّ ما عُرِفَ بالضَّرورةِ كَوْنُه مِن دينِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معَ الاعْتِقادِ...، فإن قالَ قائِلٌ: هاهنا صورتانِ؛ الصُّورةُ الأُولى: مَن عَرَفَ اللهَ تَعالى بالدَّليلِ والبُرْهانِ ولمَّا تَمَّ العِرْفانُ ماتَ ولم يَجِدْ مِن الزَّمانِ والوَقْتِ ما يَتَلَفَّظُ فيه بكَلِمةِ الشَّهادةِ. فهاهنا إن حَكَمْتُم أنَّه مُؤمِنٌ فقدْ حَكَمْتُم بأنَّ الإقْرارَ اللِّسانيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في تَحْقيقِ الإيمانِ، وهو خَرْقٌ للإجْماعِ، وإن حَكَمْتُم بأنَّه غَيْرُ مُؤمِنٍ فهو باطِلٌ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: ((يَخرُجُ مِن النَّار مَن كانَ في قَلْبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ)) [817] أخرجه الترمذيُّ (2598)، وعبدُ الرَّزَّاقِ في ((التفسير)) (587) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2598). وأصلُه في صَحيحِ البُخاريِّ (7439)، ومسلم (183) مطوَّلًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُ البُخاريِّ: (... اذْهَبوا فمن وجَدْتُم في قَلْبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجوه ...). ، وهذا قَلْبٌ طافِحٌ بالإيمانِ، فكيف لا يكونُ مُؤمِنًا؟ الصُّورةُ الثَّانيةُ: مَن عَرَفَ اللهَ تَعالى بالدَّليلِ، ووَجَدَ مِن الوَقْتِ ما أَمكَنَه أن يَتَلَفَّظَ بكَلِمةِ الشَّهادةِ، ولكنَّه لم يَتَلَفَّظْ بها، فإن قُلْتُم: إنَّه مُؤمِنٌ، فهو خَرْقٌ للإجْماعِ، وإن قُلْتُم: ليس يُؤمِنُ، فهو باطِلٌ؛ لقَوْلِه عليه السَّلامُ: ((يَخرُجُ مِن النَّارِ مَن كانَ في قَلْبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن الإيمانِ)) [818] أخرجه الترمذيُّ (2598)، وعبدُ الرَّزَّاقِ في ((التفسير)) (587) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2598). وأصلُه في صَحيحِ البُخاريِّ (7439)، ومسلم (183) مطوَّلًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُ البُخاريِّ: (... اذْهَبوا فمن وجَدْتُم في قَلْبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ فأخْرِجوه ...). ، ولا يَنْتَفي الإيمانُ مِن القَلْبِ بالسُّكوتِ عن النُّطْقِ! والجَوابُ: أنَّ الغَزاليَّ مَنَعَ مِن هذا الإجْماعِ في الصُّورتَينِ، وحَكَمَ بكَوْنِهما مُؤمِنَينِ، وأنَّ الامْتِناعَ عن النُّطْقِ يَجْري مَجْرى المَعاصي الَّتي يُؤْتى بِها معَ الإيمانِ) [819] ((تفسير الرَّازِيّ)) (2/ 271). ويُنظر: ((قواعد العَقائِد)) للغزالي (ص: 248). .
7- قالَ الآمِديُّ مُرَجِّحًا قَوْلَ أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ في أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ، ومُناقِشًا أَدِلَّةَ المُخالِفينَ: (الحَقُّ في هذه المَسْألةِ غَيْرُ خارِجٍ عن مَذهَبِ الشَّيْخِ أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ: وهو أنَّ الإيمانَ باللهِ تَعالى هو تَصْديقُ القَلْبِ به...، قَوْلُهم: إنَّ مَن لم يَحكُمْ بما أَنزَلَ اللهُ فهو كافِرٌ. فقد قالَ المُفَسِّرونَ: المُرادُ به مَن لم يَعْتقِدِ الْتِزامَ أحْكامِه، ولم يَسْتَسلِمْ لأحْكامِ الإسْلامِ، وذلك لا يُتَصوَّرُ معَه التَّصْديقُ. وقَوْلُه عليه السَّلامُ: ((لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مُؤمِنٌ )) [820] أخرجه البخاريُّ (2475)، ومسلمٌ (57) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. لا نُسَلِّمُ أنَّ قَوْلَه: ((وهو مُؤمِنٌ)) في هذا الحَديثِ مَأخوذٌ عن الإيمانِ، بل مِن الأمْنِ، ومَعْناه: لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مُؤمِنٌ ، أي: على أمْنٍ مِن عَذابِ اللهِ تَعالى. وإن سَلَّمْنا أنَّه مَأخوذٌ مِن الإيمانِ، غَيْرَ أنَّه يَجِبُ حَمْلُه على الإيمانِ بمَعْنى التَّصْديقِ؛ لِما فيه مِن مُوافَقةِ الوَضْعِ اللُّغويِّ، وأن يُحمَلَ قَوْلُه: ((لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مُؤمِنٌ )) على حالةِ الاسْتِحْلالِ لزِناه، ويكونُ تَقْديرُه: لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني مُسْتَحِلًّا لزِناه وهو مُؤمِنٌ، أي: مُصَدِّقٌ، ويُمكِنُ أن يكونَ المُرادُ مِن قَوْلِه: ((لا يَزْني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مُؤمِنٌ ))، أي: على صِفاتِ المُؤمِنِ مِن اجْتِنابِ المَحْظوراتِ، وهو وإن لَزِمَ مِنه التَّأويلُ غَيْرَ أنَّا لو لم نَحمِلْه على ذلك للَزِمَ مِنه حَمْلُ الإيمانِ على غَيْرِ مَوْضوعِه اللُّغويِّ...، قَوْلُهم: لو كانَ الإيمانُ هو التَّصْديقَ لَما كانَ مَن قَتَلَ نَبيًّا، أو اسْتَخَفَّ به، أو سَجَدَ بَيْنَ يَدَي صَنَمٍ- كافِرًا إذا كانَ مُصدِّقًا! قُلْنا: نحن لا نُنكِرُ جَوازَ مُجامَعةِ هذه الكَبائِرِ معَ الإيمانِ عَقْلًا، غَيْرَ أنَّ الأمَّةَ مُجمِعةٌ على تَكْفيرِه، فعَلِمْنا انْتِفاءَ التَّصْديقِ عنْدَ وُجودِ هذه الكَبائِرِ سَمْعًا، ويَجِبُ أن يُقالَ بِذلك جَمْعًا بَيْنَ العَمَلِ بوَضْعِ اللُّغةِ وإجْماعِ الأمَّةِ على التَّكْفيرِ، وهو أَوْلى مِن إبْطالِ أحَدِهما) [821] ((أبكار الأفكار في أُصول الدين)) (5/ 9، 18). .
8- قالَ الآمِدِيُّ: (ليس الإيمانُ هو الإقْرارَ باللِّسانِ فقط كما زَعَمَتِ الكَرَّاميَّةُ، ولا إقامةَ العِباداتِ والتَّمَسُّكَ بالطَّاعاتِ كما زَعَمَتِ الخارِجيَّةُ...، لا يَخْفى قُبْحُ القَوْلِ بأنَّ الإيمانَ مُجَرَّدَ الإقْرارِ باللِّسانِ مِن حيثُ إفِضاؤُه إلى تَكْفيرِ مَن لم يُظهِرْ ما أَبطَنَه مِن التَّصْديقِ والطَّاعةِ، وامْتِناعُ اسْتِحْقاقِه للشَّفاعةِ، والحُكْمُ بنَقيضِه لِمَن أَظهَرَ ضِدَّ ما أَبطَنَ مِن الكُفْرِ باللهِ تَعالى ورَسولِه، والطَّغاوةِ في الدِّينِ والعَداوةِ للمُسلِمينَ، بل أَشَدُّ قُبْحًا مِنه جَعْلُ الإيمانِ مُجَرَّدَ الإتيانِ بالطَّاعاتِ، والتَّمَسُّكِ بالعِباداتِ؛ لِما فيه مِن الإفْضاءِ إلى هَدْمِ القَواعِدِ السَّمْعيَّةِ، وحَلِّ نِظامِ الأحْكامِ الشَّرْعيَّةِ، وإبْطالِ ما وَرَدَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن جَوازِ خِطابِ العاصي بما دونَ الشِّرْكِ قَبْلَ التَّوْبةِ بالعِباداتِ البَدَنيَّةِ، وسائِرِ الأحْكامِ الشَّرْعيَّةِ، وصِحَّتِها مِنه أن لو أتى بها، وبإدْخالِه في زُمْرةِ المُؤمِنينَ وإدْراجِه في جُمْلةِ المُسلِمينَ، حتَّى إنَّه لو ماتَ فإنَّه يُغسَّلُ ويُصَلَّى عليه، ويُدفَنُ في مَقابِرِ المُسلِمينَ، ولو لم يكنْ مُؤمِنًا لَما جازَ القَوْلُ بصِحَّةِ ما أتى به مِن العِباداتِ، ولا غَيْرِ ذلك مِمَّا عَدَدْناه، وبِهذا يَتَبيَّنُ أيضًا فَسادُ قَوْلِ الحَشَويَّةِ: إنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ بالجَنانِ، والإقْرارُ باللِّسانِ، والعَمَلُ بالأرْكانِ، نَعمْ، لا نُنكِرُ جَوازَ إطْلاقِ اسْمِ الإيمانِ على هذه الأفْعالِ، وعلى الإقْرارِ باللِّسانِ، كما قالَ تَعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] أي: صَلاتَكم، وقولِه عليه السَّلامُ: ((الإيمانُ بِضْعٌ وسَبْعونَ بابًا، أوَّلُها شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وآخِرُها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [822] أخرجه البخاريُّ (9) مختصَرًا بلَفْظ: ((بِضعٌ وسِتُّون))، ومسلمٌ (35) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُه: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ)). ، لكن إنَّما كانَ ذلك لها مِن جِهةِ أنَّها دالَّةٌ على التَّصْديقِ بالجَنانِ ظاهِرًا، والعَرَبُ قد تَسْتَعيرُ اسْمَ المَدْلولِ لدَليلِه بجِهةِ التَّجوُّزِ والتَّوَسُّعِ كما تَسْتَعيرُ اسْمَ السَّبَبِ لمُسَبِّبِه، فعلى هذا مَهْما كانَ مُصَدِّقًا بالجَنانِ على الوَجْهِ الَّذي ذَكَرْناه، وإن أَخَلَّ بشيءٍ مِن الأرْكانِ، فهو مُؤمِنٌ حَقًّا، وانْتِفاءُ الكُفْرِ عنه واجِبٌ، وإن صَحَّ تَسْميتُه فاسِقًا بالنِّسْبةِ إلى ما أَخَلَّ به مِن الطَّاعاتِ، وارْتَكَبَ مِن المَنْهِيَّاتِ؛ ولِذلك صَحَّ إدْراجُه في خِطابِ المُؤمِنينَ، وإدْخالُه في جُمْلةِ تَكْليفاتِ المُسلِمينَ بقَوْلِه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] ، ونَحْوِ ذلك مِن الآياتِ، وقَوْلِه عليه السَّلامُ: ((لا يَسرِقُ السَّارِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يَزْني حينَ يَزْني وهو مُؤمِنٌ )) [823] أخرجه البخاريُّ (2475)، ومسلمٌ (57) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فإنَّه وإن صَحَّ لم يَصِحَّ حَمْلُه على نَفْيِ الإيمانِ بمَعْنى الطَّاعةِ والإذْعانِ؛ لتَعَذُّرِ الاشْتِقاقِ مِن اسْمِ إيمانٍ، فيَحْتمِلُ أنَّه أرادَ حالةَ الاسْتِحْلالِ، ويَحْتمِلُ أنَّه أَورَدَه في مَعرِضِ المُبالَغةِ في الزَّجْرِ والرَّدْعِ، وهو وإن كانَ خِلافَ الظَّاهِرِ لكنَّه أَولى؛ لِما فيه مِن الجَمْعِ بَيْنَه وبَيْنَ ما ذَكَرْناه مِن الأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ على كَوْنِه مُؤمِنًا، وإبْطالِ التَّعْطيلِ لِما ذَكَرْناه مُطلَقًا) [824] ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 310 - 312). .
9- قالَ الإيجيُّ: (اعْلَمْ أنَّ الإيمانَ في اللُّغةِ التَّصْديقُ؛ قالَ تَعالى حِكايةً عن إخْوةِ يوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف: 17] ، أي: بمُصدِّقٍ، وقالَ: ((الإيمانُ: أن تُؤمِنَ باللهِ، ومَلائِكتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه )) [825] أخرجه مسلمٌ (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلَفْظ: (... فأخبِرْني عن الإيمانِ. قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه ...). وأخرجه البخاريُّ (50)، ومسلمٌ (10) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفْظُ مسلمٍ: (... قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: ((أن تؤمِنَ باللهِ وملائكَتِه وكِتابِه ولِقائِه ورُسُلِه ...). أي: تُصدِّقَ، وأمَّا في الشَّرْعِ وهو مُتَعلَّقُ ما ذَكَرْنا مِن الأحْكامِ، فهو عنْدَنا -وعليه أَكثَرُ الأئِمَّةِ؛ كالقاضي، والأسْتاذِ- التَّصْديقُ للرَّسولِ فيما عُلِمَ مَجيئُه به ضَرورةً، فتَفْصيلًا فيما عُلِمَ تَفْصيلًا، وإجْمالًا فيما عُلِمَ إجْمالًا، وقيلَ: هو المَعْرِفةُ؛ فقَوْمٌ: باللهِ، وقَوْمٌ: باللهِ وبما جاءَتْ به الرُّسُلُ، وقالَتِ الكَرَّاميَّةُ: هو كَلِمتا الشَّهادةِ، وقالَتْ طائِفةٌ: التَّصْديقُ معَ الكَلِمتينِ، ويُرْوى هذا عن أبي حَنيفةَ رَحِمَه اللهُ، وقالَ قَوْمٌ: إنَّه أعْمالُ الجَوارِحِ، فذَهَبَ الخَوارِجُ والعَلَّافُ وعَبْدُ الجَبَّارِ إلى أنَّه الطَّاعاتُ فَرْضًا أو نَفْلًا، وذَهَبَ الجُبَّائيُّ وابنُه وأَكثَرُ المُعْتَزِلةِ البَصْريَّةِ إلى أنَّه الطَّاعاتُ المُفْترَضةُ دونَ النَّوافِلِ، وقالَ السَّلَفُ وأصْحابُ الأثَرِ: إنَّه مَجْموعُ هذه الثَّلاثةِ، فهو تَصْديقٌ بالجَنانِ، وإقْرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأرْكانِ) [826] ((المواقف مع شرح الجُرْجاني)) (3/ 527). .
وفي كَلامِ الإيجيِّ التَّصْريحُ بأنَّ مَذهَبَ الأشاعِرةِ غَيْرُ مَذهَبِ السَّلَفِ وأصْحابِ الأثَرِ.
وقد بَيَّنَ ابنُ تَيْميَّةَ فَسادَ مَذهَبِ الأشاعِرةِ في مَفْهومِ الإيمانِ، وله كَلامٌ كَثيرٌ في ذلك، وهذه بعضُ النُّقولِ عنه:
 قالَ ابنُ تَيْميَّةَ عن مُتَكلِّمي الأشاعِرةِ في مَفْهومِ الإيمانِ: (ذَهَبوا مَذهَبَ الجَهْميَّةِ الأُولى في أنَّ الإيمانَ هو مُجَرَّدُ التَّصْديقِ الَّذي في القَلْبِ، وإن لم يَقْترِنْ به قَوْلُ اللِّسانِ، ولم يَقْتَضِ عَمَلًا في القَلْبِ، ولا في الجَوارِحِ!) [827] ((الصارم المسلول على شاتم الرَّسول)) (ص: 515). .
وقالَ أيضًا: (قالَ أبو القاسِمِ الأنْصاريُّ شَيْخُ الشَّهْرَسْتانيِّ في شَرْحِ الإرْشادِ لأبي المَعالي بَعْدَ أن ذَكَرَ قَوْلَ أصْحابِه، قالَ: وذَهَبَ أهْلُ الأثَرِ إلى أنَّ الإيمانَ جَميعُ الطَّاعاتِ؛ فَرْضِها ونَفْلِها، وعَبَّروا عنه بأنَّه إتيانُ ما أمَرَ اللهُ به فَرْضًا ونَفْلًا، والانْتِهاءُ عما نَهى عنه تَحْريمًا وأدَبًا. قالَ: وبِهذا كانَ يقولُ أبو علِيٍّ الثَّقَفيُّ مِن مُتَقدِّمي أصْحابِنا، وأبو العَبَّاسِ القَلانِسيُّ، وقد مالَ إلى هذا المَذهَبِ أبو عَبْدِ اللهِ بنُ مُجاهِدٍ، قالَ: وهذا قَوْلُ مالِكِ بنِ أَنَسٍ إمامِ دارِ الهِجْرةِ، ومُعظَمِ أئِمَّةِ السَّلَفِ رِضْوانُ الله عليهم أَجْمَعينَ. وكانوا يَقولونَ: الإيمانُ مَعْرِفةٌ بالقَلْبِ، وإقْرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأرْكانِ. ومِنهم مَن يقولُ بقَوْلِ المُرْجِئةِ: إنَّه التَّصْديقُ بالقَلْبِ واللِّسانِ، ومِنهم مَن قالَ: إذا تَرَكَ التَّصْديقَ باللِّسانِ عِنادًا كانَ كافِرًا بالشَّرْعِ، وإن كانَ في قَلْبِه التَّصْديقُ والعِلمُ، وكذلك قالَ أبو إسْحاقَ الأسْفَرايِينيُّ: قالَ الأنْصاريُّ: رَأيْتُ في تَصانيفِه أنَّ المُؤمِنَ إنَّما يكونُ مُؤمِنًا حَقًّا إذا حَقَّقَ إيمانَه بالأعْمالِ الصَّالِحةِ، كما أنَّ العالِمَ إنَّما يكونُ عالِمًا حَقًّا إذا عَمِلَ بما عَلِمَ، واسْتَشْهَدَ بقَوْلِ اللهِ تَعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4] ، وقالَ أيضًا أبو إسْحاقَ: حَقيقةُ الإيمانِ في اللُّغةِ: التَّصْديقُ، ولا يَتَحقَّقُ ذلك إلَّا بالمَعْرِفةِ والائْتِمارِ، وتَقومُ الإشارةُ والانْقيادُ مَقامَ العِبارةِ. وقالَ أيضًا أبو إسْحاقَ في كِتابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ: اتَّفَقوا على أنَّ ما يَسْتحِقُّ به المُكلَّفُ اسْمَ الإيمانِ في الشَّريعةِ أَوصافٌ كَثيرةٌ، وعَقائِدُ مُخْتلِفةٌ، وإن اخْتَلَفوا فيها على تَفْصيلٍ ذَكَروه، واخْتَلَفوا في إضافةِ ما لا يَدخُلُ في جُمْلةِ التَّصْديقِ إليه لِصِحَّةِ الاسْمِ؛ فمِنها تَرْكُ قَتْلِ الرَّسولِ، وتَرْكُ إيذائِه، وتَرْكُ تَعْظيمِ الأصْنامِ، فهذا مِن التُّروكِ، ومِن الأفْعالِ نُصْرةُ الرَّسولِ، والذَّبُّ عنه، وقالوا: إنَّ جَميعَه يُضافُ إلى التَّصْديقِ شَرْعًا، وقالَ آخَرونَ: إنَّه مِن الكَبائِرِ، لا يَخرُجُ المَرْءُ بالمُخالَفةِ فيه عن الإيمانِ. قُلْتُ: وهذانِ القَوْلانِ ليسا قَوْلَ جَهْمٍ، لكنَّ مَن قالَ ذلك فقدِ اعْتَرَفَ بأنَّه ليس مُجَرَّدَ تَصْديقِ القَلْبِ، وليس هو شَيئًا واحِدًا، وقالَ: إنَّ الشَّرْعَ تَصرَّفَ فيه، وهذا يَهدِمُ أصْلَهم؛ ولِهذا كانَ حُذَّاقُ هؤلاء، كجَهْمٍ، والصَّالِحيِّ، وأبي الحَسَنِ، والقاضي أبي بَكْرٍ، على أنَّه لا يَزولُ عنه اسْمُ الإيمانِ إلَّا بِزَوالِ العِلمِ مِن قَلْبِه. قالَ أبو المَعالي: بابٌ في ذِكْرِ الأسْماءِ والأحْكامِ: اعْلَمْ أنَّ غَرَضَنا في هذا البابِ يَسْتَدْعي تَقْديمَ ذِكْرِ حَقيقةِ الإيمانِ. قالَ: وهذا ممَّا تَبايَنَتْ فيه مَذاهِبُ الإسْلاميِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الخَوارِجِ، والمُعْتَزِلةِ، والكَرَّاميَّةِ، ثُمَّ قالَ: وأمَّا مَذاهِبُ أصْحابِنا فصارَ أهْلُ التَّحْقيقِ مِن أصْحابِ الحَديثِ والنُّظَّارِ مِنهم إلى أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ، وبه قالَ شَيْخُنا أبو الحَسَنِ رَحْمةُ اللهِ عليه، واخْتَلَفَ رَأيُه في مَعْنى التَّصْديقِ، وقالَ مَرَّةً: المَعْرِفةُ بوُجودِه وقِدَمِه وإلَهِيَّتِه، وقالَ مَرَّةً: التَّصْديقُ قَوْلٌ في النَّفْسِ، غَيْرَ أنَّه يَتَضمَّنُ المَعْرِفةَ، ولا يَصِحُّ أن يوجَدَ دونَها، وهذا مُقْتضاه؛ فإنَّ التَّصْديقَ والتَّكْذيبَ والصِّدْقَ والكَذِبَ بالأقْوالِ أَجدَرُ، فالتَّصْديقُ إذًا قَوْلٌ في النَّفْسِ يُعبَّرُ عنه باللِّسانِ، فتُوصَفُ العِبادةُ بأنَّها تَصْديقٌ؛ لأنَّها عِبارةٌ عن التَّصْديقِ. وقالَ بعضُ أصْحابِنا: التَّصْديقُ لا يَتَحقَّقُ إلَّا بالقَوْلِ والمَعْرِفةِ جَميعًا، فإذا اجْتَمَعا كانا تَصْديقًا واحِدًا. ومِنهم مَن اكْتَفى بتَرْكِ العِنادِ، فلم يَجعَلِ الإقْرارَ أحَدَ رُكْنيِ الإيمانِ، فيَقولُ: الإيمانُ هو التَّصْديقُ بالقَلْبِ، وأَوجَبَ تَرْكَ العِنادِ بالشَّرْعِ، وعلى هذا الأصْلِ يَجوزُ أن يَعرِفَ الكافِرُ اللهَ، وإنَّما يَكفُرُ بالعِنادِ، لا لأنَّه تَرَكَ ما هو الأَهَمُّ في الإيمانِ.
وعلى هذا الأصْلِ يُقالُ: إنَّ اليَهودَ كانوا عالِمينَ باللهِ، ونُبُوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا أنَّهم كَفَروا عِنادًا وبَغْيًا وحَسَدًا، قالَ: وعلى قَوْلِ شَيْخِنا أبي الحَسَنِ: كلُّ مَن حَكَمْنا بكُفْرِه فنَقولُ: إنَّه لا يَعرِفُ اللهَ أصْلًا، ولا عَرَفَ رَسولَه ولا دينَه، قالَ أبو القاسِمِ الأنْصاريُّ تِلْميذُه: كأنَّ المَعْنى: لا حُكْمَ لإيمانِه ولا لِمَعْرفتِه شَرْعًا. قُلْتُ: وليس الأمْرُ على هذا القَوْلِ كما قالَه الأنْصاريُّ هذا، ولكن على قَوْلِهم: المُعانِدُ كافِرٌ شَرْعًا، فيَجعَلُ الكُفْرَ تارةً بانْتِفاءِ الإيمانِ الَّذي في القَلْبِ، وتارةً بالعِنادِ، ويَجعَلُ هذا كافِرًا في الشَّرْعِ، وإن كانَ معَه حَقيقةُ الإيمانِ الَّذي هو التَّصْديقُ، ويَلزَمُه أن يَكونَ كافِرًا في الشَّرْعِ، معَ أنَّ معَه الإيمانَ الَّذي هو مِثلُ إيمانِ الأَنْبِياءِ والمَلائِكةِ! والحُذَّاقُ في هذا المَذهَبِ، كأبي الحَسَنِ، والقاضي، ومَن قَبْلَهم مِن أتْباعِ جَهْمٍ، عَرَفوا أنَّ هذا تَناقُضٌ يُفسِدُ الأصْلَ، فقالوا: لا يكونُ أحَدٌ كافِرًا إلَّا إذا ذَهَبَ ما في قَلْبِه مِن التَّصْديقِ، والْتَزَموا أنَّ كلَّ مَن حَكَمَ الشَّرْعُ بكُفْرِه، فإنَّه ليس في قَلْبِه شيءٌ مِن مَعْرِفةِ اللهِ ولا مَعْرِفةِ رَسولِه؛ ولِهذا أَنكَرَ هذا عليهم جَماهيرُ العُقَلاءِ، وقالوا: هذا مُكابَرةٌ وسَفْسَطةٌ. وقد احتَجُّوا على قَوْلِهم بقَوْلِه تَعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: 22] قالوا: ومَفْهومُ هذا أنَّ مَن لم يَعمَلْ بمُقْتَضاه لم يَكتُبْ في قُلوبِهم الإيمانَ. قالوا: فإن قيلَ: مَعْناه: لا يُؤمِنونَ إيمانًا مُجزِئًا مُعْتَدًّا به، أو يكونُ المَعْنى: لا يُؤَدُّونَ حُقوقَ الإيمانِ، ولا يَعمَلونَ بمُقْتَضاه، قُلْنا: هذا عامٌّ لا يُخَصَّصُ إلَّا بدَليلٍ. فيُقالُ لهم: هذه الآيةُ فيها نَفْيُ الإيمانِ عمَّن يُوادُّ المُحادِّينَ للهِ ورَسولِه، وفيها أنَّ مَن لا يُوادُّ المُحادِّينَ للهِ ورَسولِه فإنَّ اللهَ كَتَبَ في قُلوبِهم الإيمانَ، وأيَّدَهم برُوحٍ مِنه، وهذا يَدُلُّ على مَذهَبِ السَّلَفِ أنَّه لا بُدَّ في الإيمانِ مِن مَحَبَّةِ القَلْبِ للهِ ولرَسولِه، ومِن بُغْضِ مَن يُحادُّ اللهَ ورَسولَه، ثُمَّ لمْ تَدُلَّ الآيةُ على أنَّ العِلمَ الَّذي في قُلوبِهم بأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ يَرْتفِعُ لا يَبْقى مِنه شيءٌ، والإيمانُ الَّذي كُتِبَ في القَلْبِ ليس هو مُجَرَّدَ العِلمِ والتَّصْديقِ، بل هو تَصْديقُ القَلْبِ وعَمَلُ القَلْبِ؛ ولِهذا قالَ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22] ، فقد وَعَدَهم بالجَنَّةِ، وقد اتَّفَقَ الجَميعُ على أنَّ الوَعْدَ بالجَنَّةِ لا يكونُ إلَّا معَ الإتيانِ بالمَأمورِ به، وتَرْكِ المَحْظورِ، فعُلِمَ أنَّ هؤلاء الَّذين كَتَبَ في قُلوبِهم الإيمانَ، وأيَّدَهم برُوحٍ مِنه قد أدَّوُا الواجِباتِ الَّتي بها يَسْتَحِقُّونَ ما وَعَدَ اللهُ به الأبْرارَ المُتَّقينَ، ودَلَّ هذا على أنَّ الفُسَّاقَ لم يَدخُلوا في هذا الوَعْدِ، ودَلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّه لا يوجَدُ مُؤمِنٌ يُوادُّ الكُفَّارَ، ومَعْلومٌ أنَّ خَلْقًا كَثيرًا مِن النَّاسِ يَعرِفُ مِن نفْسِه أنَّ التَّصْديقَ في قَلْبِه، لم يُكذِّبِ الرَّسولَ، وهو معَ هذا يُوادُّ بعضَ الكُفَّارِ، فالسَّلَفُ يَقولونَ: تَرْكُ الواجِباتِ الظَّاهِرةِ دَليلٌ على انْتِفاءِ الإيمانِ الواجِبِ مِن القَلْبِ، لكن قد يكونُ ذلك بِزَوالِ عَمَلِ القَلْبِ الَّذي هو حُبُّ اللهِ ورَسولِه، وخَشيةُ اللهِ، ونَحْوُ ذلك لا يَسْتلزِمُ ألَّا يكونَ في القَلْبِ مِن التَّصْديقِ شيءٌ، وعنْدَ هؤلاء كلُّ مَن نَفى الشَّرْعُ إيمانَه دَلَّ على أنَّه ليس في قَلْبِه شيءٌ مِن التَّصْديقِ أصْلًا، وهذا سَفْسَطةٌ عنْدَ جَماهيرِ العُقَلاءِ.
وكذلك حَكى ابنُ فورَكٍ عن أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ قالَ: الإيمانُ هو اعْتِقادُ صِدْقِ المُخبِرِ فيما يُخبِرُ به اعْتِقادًا هو عِلمٌ، ومِنه اعْتِقادٌ ليس بعِلمٍ، والإيمانُ باللهِ -وهو اعْتِقادُ صِدْقِه- إنَّما يَصِحُّ إذا كانَ عالِمًا بصِدْقِه في إخْبارِه، وإنَّما يكونُ كذلك إذا كانَ عالِمًا بأنَّه يَتَكلَّمُ، والعِلمُ بأنَّه مُتَكلِّمٌ بَعْدَ العِلمِ بأنَّه حَيٌّ، والعِلمُ بأنَّه حَيٌّ بَعْدَ العِلمِ بأنَّه فاعِلٌ، والعِلمُ بأنَّه فاعِلٌ بَعْدَ العِلمِ بالفِعلِ، وهو كَوْنُ العالِمِ فِعْلًا له، وقالَ: وكذلك يَتَضمَّنُ العِلمَ بكَوْنِه قادِرًا وله قُدْرةٌ، وعالِمًا وله عِلمٌ، ومُريدًا وله إرادةٌ، وسائِرَ ما لا يَصِحُّ العِلمُ باللهِ إلَّا بَعْدَ العِلمِ به مِن شَرائِطِ الإيمانِ...، قالَ أبو الحَسَنِ: ثُمَّ السَّمْعُ وَرَدَ بضَمِّ شَرائِطَ أُخَرَ إليه، وهو ألَّا يَقْترِنَ به ما يَدُلُّ على كُفْرِ مَن يَأتيه فِعْلًا وتَرْكًا، وهو أنَّ الشَّرْعَ أَمَرَه بتَرْكِ العِبادةِ والسُّجودِ للصَّنَمِ، فلو أتى به دَلَّ على كُفْرِه، وكذلك مَن قَتَلَ نَبيًّا واسْتَخَفَّ به، دَلَّ على كُفْرِه، وكذلك لو تَرَكَ تَعْظيمَ المُصْحَفِ أو الكَعْبةِ دَلَّ على كُفْرِه، قالَ: وأحَدُ ما اسْتَدْلَلنا به على كُفْرِه ما مَنَعَ الشَّرْعُ أن يُقرَنَ بالإيمانِ، أو أَوجَبَ ضَمَّه إلى الإيمانِ لو وُجِدَ دَلَّنا ذلك على أنَّ التَّصْديقَ الَّذي هو الإيمانُ مَفْقودٌ مِن قَلْبِه، وكذلك كلُّ ما كُفِّرَ به المُخالِفُ مِن طَريقِ التَّأويلِ فإنَّما كَفَّرْناه به لدَلالتِه على فَقَدَ ما هو إيمانٌ مِن قَلْبِه؛ لاسْتِحالةِ أن يَقْضيَ السَّمْعُ بكُفْرِ مَن معَه الإيمانُ والتَّصْديقُ بقَلْبِه. فيُقالُ: لا رَيْبَ أنَّ الشَّارِعَ لا يَقْضي بكُفْرِ مَن معَه الإيمانُ بقَلْبِه، لكنْ دَعْواكم أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ وإن تَجَرَّدَ عن جَميعِ أعْمالِ القَلْبِ غَلَطٌ؛ ولِهذا قالوا: أعْمالُ التَّصْديقِ والمَعْرِفةِ مِن قَلْبِه، أَلَا تَرى أنَّ الشَّريعةَ حَكَمَتْ بكُفْرِه، والشَّريعةُ لا تَحكُمُ بكُفْرِ المُؤمِنِ المُصدِّقِ؛ ولِهذا نقولُ: إنَّ كُفْرَ إبْليسَ لَعَنَه اللهُ كانَ أَشَدَّ مِن كُفْرِ كلِّ كافِرٍ، وأنَّه لم يَعرِفِ اللهَ بصِفاتِه قَطْعًا، ولا آمَنَ به إيمانًا حَقيقيًّا باطِنًا، وإن وُجِدَ مِنه القَوْلُ والعِبادةُ، وكذلك اليَهودُ، والنَّصارى، والمَجوسُ، وغَيْرُهم مِن الكَفَرةِ، لم يوجَدْ في قُلوبِهم حَقيقةُ الإيمانِ المُعْتَدِّ به في حالِ حُكْمِنا لهم بالكُفْرِ؛ قالَ اللهُ تَعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة: 81] ، وقَوْلُه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] الآية، فجَعَلَ اللهُ هذه الأُمورَ شَرْطًا في ثُبوتِ حُكْمِ الإيمانِ؛ فثَبَتَ أنَّ الإيمانَ المَعْرِفةُ بشَرائطَ لا يكونُ مُعْتَدًّا به دونَها. فيُقالُ: إن قُلْتُم: إنَّه ضَمَّ إلى مَعْرِفةِ القَلْبِ شُروطًا في ثُبوتِ الحُكْمِ أو الاسْمِ، لم يكنْ هذا قَوْلَ جَهْمٍ، بل يكونُ هذا قَوْلَ مَن جَعَلَ الإيمانَ كالصَّلاةِ، والحَجُّ هو وإن كانَ في اللُّغةِ بمَعْنى القَصْدِ والدُّعاءِ، لكنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إليه أُمورًا، إمَّا في الحُكْمِ وإمَّا في الحُكْمِ والاسْمِ، وهذا القَوْلُ قد سَلَّمَ صاحِبُه أنَّ حُكْمَ الإيمانِ المَذْكورَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ لا يَثبُتُ بمُجَرَّدِ تَصْديقِ القَلْبِ، بلْ لا بُدَّ مِن تلك الشَّرائِطِ، وعلى هذا فلا يُمكِنُه جَعْلُ الفاسِقِ مُؤمِنًا إلَّا بدَليلٍ يَدُلُّ على ذلك، لا بمُجَرَّدِ قَوْلِه: إنَّ معَه تَصْديقَ القَلْبِ، ومَن جَعَلَ الإيمانَ هو تَصْديقَ القَلْبِ يقولُ: كلُّ كافِرٍ في النَّارِ ليس معَهم مِن التَّصْديقِ باللهِ شيءٌ، لا معَ إبليسَ ولا معَ غَيْرِه، وقد قالَ اللهُ تَعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر: 47-48] ، وقالَ تَعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] ، فقد اعْتَرَفوا بأنَّ الرُّسُلَ أَتَتْهم، وتَلَتْ عليهم آياتِ رَبِّهم، وأَنذَرَتْهم لِقاءَ يَوْمِهم هذا، فقد عَرَفوا اللهَ ورَسولَه واليَوْمَ الآخِرَ، وهُمْ في الآخِرةِ كُفَّارٌ، وقال تَعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 8-9] ، فقد كَذَّبوا بوُجودِه وكَذَّبوا بتَنْزيلِه، وأمَّا في الآخِرةِ فعَرَفوا الجَميعَ، وقالَ تَعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30] ... إلى آياتٍ أُخَرَ كَثيرةٍ تَدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ في الآخِرةِ يَعرِفونَ رَبَّهم، فإن كانَ مُجَرَّدُ المَعْرِفةِ إيمانًا كانوا مُؤمِنينَ في الآخِرةِ! فإن قالوا: الإيمانُ في الآخِرةِ لا يَنفَعُ، وإنَّما الثَّوابُ على الإيمانِ في الدُّنْيا، قيلَ: هذا صَحيحٌ، لكن إذا لم يكنِ الإيمانُ إلَّا مُجَرَّدَ العِلمِ، فهذه الحَقيقةُ لا تَخْتلِفُ، فإن لم يكنِ العَمَلُ مِن الإيمانِ فالعارِفُ في الآخِرةِ لم يَفُتْه شيءٌ مِن الإيمانِ! لكنَّ أَكثَرَ ما يَدَّعونَه أنَّه حينَ ماتَ لم يكُنْ في قَلْبِه مِن التَّصْديقِ بالرَّبِّ شيءٌ، ونُصوصُ القُرْآنِ في غَيْرِ مَوضِعٍ تَدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ كانوا في الدُّنْيا مُصَدِّقينَ بالرَّبِّ، حتَّى فِرْعَوْنُ الَّذي أَظهَرَ التَّكْذيبَ كانَ في باطِنِه مُصدِّقًا، قالَ تَعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] ، وكما قالَ موسى لفِرْعَوْنَ: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] ، ومعَ هذا لم يكنْ مُؤمِنًا...، وكما قالَ عن إبْليسَ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص: 73-74] ، فلم يَصِفْه إلَّا بالإباءِ والاسْتِكْبارِ ومُعارَضتِه الأمْرَ، لم يَصِفْه بعَدَمِ العِلمِ، وقد أَخبَرَ اللهُ عن الكُفَّارِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّهم كانوا مُعْترِفينَ بالصَّانِعِ في مِثلِ قَوْلِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: 87] . ثُمَّ يُقالُ لهم: إذا قُلْتُم: هو التَّصْديقُ بالقَلْبِ، أو باللِّسانِ، أو بِهما، فهلْ هو التَّصْديقُ المُجمَلُ، أو لا بُدَّ فيه مِن التَّفْصيلِ؟ فلو صَدَّقَ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، ولم يَعرِفْ صِفاتِ الحَقِّ، هل يكونُ مُؤمِنًا أم لا؟ فإن جَعَلوه مُؤمِنًا، قيلَ: فإذا بَلَغَه ذلك فكَذَّبَ به، لم يَكنْ مُؤمِنًا باتِّفاقِ المُسلِمينَ، فصارَ بعضُ الإيمانِ أَكمَلَ مِن بعضٍ، وإن قالوا: لا يكونُ مُؤمِنًا، لَزِمَهم ألَّا يكونَ أحَدٌ مُؤمِنًا حتَّى يَعرِفَ تَفْصيلَ كلِّ ما أَخبَرَ به الرَّسولُ، ومَعْلومٌ أنَّ أَكثَرَ الأمَّةِ لا يَعرِفونَ ذلك، وعنْدَهم الإيمانُ لا يَتَفاضَلُ إلَّا بالدَّوامِ فقطْ. قالَ أبو المَعالي: فإن قالَ القائِلُ: أصْلُكم يُلزِمُكم أن يكونَ إيمانُ المُنْهَمِكِ في فِسْقِه كإيمانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قُلْنا: الَّذي يَفضُلُ إيمانُه على إيمانِ مَن عَداه باسْتِمرارِ تَصْديقِه، وعِصْمةِ اللهِ إيَّاه مِن مُخامَرةِ الشُّكوكِ واخْتِلاجِ الرِّيَبِ، والتَّصْديقُ عَرَضٌ مِن الأعْراضِ لا يَبْقى، وهو مُتَوالٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثابِتٌ لغَيْرِه في بعضِ الأوْقاتِ، وزائِلٌ عنه في أوْقاتِ الفَتَراتِ، فيَثبُتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعْدادٌ مِن التَّصْديقِ، ولا يَثبُتُ لغَيْرِه إلَّا بعضُها، فيكونُ إيمانُه لِذلك أَكثَرَ وأَفضَلَ، قالَ: ولو وُصِفَ الإيمانُ بالزِّيادةِ والنُّقْصانِ، وأُريدَ به ذلك، كانَ مُسْتَقيمًا. قُلْتُ: فهذا هو الَّذي يَفضُلُ به النَّبيُّ غَيْرَه في الإيمانِ عنْدَهم، ومَعْلومٌ أنَّ هذا في غايةِ الفَسادِ مِن وُجوهٍ كَثيرةٍ) [828] ((الإيمان)) (ص: 118 - 125). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (قالَ الَّذين نَصَروا مَذهَبَ جَهْمٍ في الإيمانِ مِن المُتَأخِّرينَ، كالقاضي أبي بَكْرِ، وهذا لَفْظُه: فإن قالَ قائِلٌ: وما الإسْلامُ عنْدَكم؟ قيلَ له: الإسلامُ: الانْقِيادُ والاسْتِسْلامُ، فكلُّ طاعةٍ انْقادَ العَبْدُ بها لرَبِّه واسْتَسْلَمَ فيها لأمْرِه فهي إسْلامٌ، والإيمانُ: خَصْلةٌ مِن خِصالِ الإسْلامِ، وكلُّ إيمانٍ إسْلامٌ، وليس كلُّ إسْلامٍ إيمانًا، فإن قالَ: فلِمَ قُلْتُم: إنَّ مَعْنى الإسْلامِ ما وَصَفْتُم؟ قيلَ: لأجْلِ قَوْلِه تَعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ، فنَفى عنهم الإيمانَ وأَثبَتَ لهم الإسْلامَ، وإنَّما أرادَ بما أَثبَتَه الانْقِيادَ والاسْتِسْلامَ، ومِنه: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ [النساء: 90] ، وكلُّ مَن اسْتَسْلَمَ لشيءٍ فقد أَسلَمَ، وإن كانَ أَكثَرُ ما يُسْتَعمَلُ ذلك في المُسْتَسْلِمِ للهِ ولنَبيِّه.
قُلْتُ: وهذا الَّذي ذَكَروه معَ بُطْلانِه ومُخالَفتِه للكِتابِ والسُّنَّةِ هو تَناقُضٌ؛ فإنَّهم جَعَلوا الإيمانَ خَصْلةً مِن خِصالِ الإسْلامِ، فالطَّاعاتُ كلُّها إسْلامٌ، وليس فيها إيمانٌ إلَّا التَّصْديقَ. والمُرْجِئةُ وإن قالوا: إنَّ الإيمانَ يَتَضمَّنُ الإسْلامَ، فهُمْ يَقولونَ: الإيمانُ هو تَصْديقُ القَلْبِ واللِّسانِ، وأمَّا الجَهْميَّةُ فيَجعَلونَه تَصْديقَ القَلْبِ، فلا تكونُ الشَّهادتانِ، ولا الصَّلاةُ، ولا الزَّكاةُ، ولا غَيْرُهنَّ مِن الإيمانِ، وقد تَقدَّمَ ما بَيَّنَه اللهُ ورَسولُه مِن أنَّ الإسْلامَ داخِلٌ في الإيمانِ، فلا يكونُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا حتَّى يكونَ مُسلِمًا، كما أنَّ الإيمانَ داخِلٌ في الإحْسانِ، فلا يكونُ مُحْسِنًا حتَّى يكونَ مُؤمِنًا. وأمَّا التَّناقُضُ فإنَّهم إذا قالوا: الإيمانُ خَصْلةٌ مِن خِصالِ الإسْلامِ، كانَ مَن أتى بالإيمانِ إنَّما أتى بخَصْلةٍ مِن خِصالِ الإسْلامِ، لا بالإسْلامِ الواجِبِ جَميعِه، فلا يكونُ مُسلِمًا حتَّى يَأتيَ بالإسْلامِ كلِّه، كما لا يكونُ عنْدَهم مُؤمِنًا حتَّى يَأتيَ بالإيمانِ كلِّه، وإلَّا فمَن أتى ببعضِ الإيمانِ عنْدَهم لا يكونُ مُؤمِنًا، ولا فيه شيءٌ مِن الإيمانِ، فكذلك يَجِبُ أن يَقولوا في الإسْلامِ، وقد قالوا: كلُّ إيمانٍ إسْلامٌ، وليس كلُّ إسْلامٍ إيمانًا، وهذا إن أرادوا به أنَّ كلَّ إيمانٍ هو الإسْلامُ الَّذي أمَرَ اللهُ به ناقَضَ قَوْلَهم: إنَّ الإيمانَ خَصْلةٌ مِن خِصالِه، فجَعَلوا الإيمانَ بعضَه ولم يَجعَلوه إيَّاه، وإن قالوا: كلُّ إيمانٍ فهو إسْلامٌ، أي: هو طاعةٌ للهِ، وهو جُزءٌ مِن الإسْلامِ الواجِبِ، وهذا مُرادُهم، قيلَ لهم: فعلى هذا يكونُ الإسْلامُ مُتَعدِّدًا بتَعَدُّدِ الطَّاعاتِ، وتكونُ الشَّهادَتانِ وَحْدَهما إسْلامًا، والصَّلاةُ وَحْدَها إسْلامًا، والزَّكاةُ إسْلامًا، بل كلُّ دِرْهَمٍ تُعْطيه للفَقيرِ إسْلامًا، وكلُّ سَجْدةٍ إسْلامًا، وكلُّ يَوْمٍ تَصومُه إسْلامًا، وكلُّ تَسْبيحةٍ تُسبِّحُها في الصَّلاةِ أو غَيْرِها إسْلامًا. ثُمَّ المُسلِمُ إن كانَ لا يكونُ مُسلِمًا إلَّا بفِعلِ كلِّ ما سَمَّيْتُموه إسْلامًا، لَزِمَ أن يكونَ الفُسَّاقُ ليسوا مُسلِمينَ معَ كَوْنِهم مُؤمِنينَ، فجَعَلْتُم المُؤمِنينَ الكامِلي الإيمانِ عنْدَكم ليسوا مُسلِمينَ، وهذا شَرٌّ مِن قَوْلِ الكَرَّاميَّةِ، ويَلزَمُ أنَّ الفُسَّاقَ مِن أهْلِ القِبْلةِ ليسوا مُسلِمينَ، وهذا شَرٌّ مِن قَوْلِ الخَوارِجِ والمُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم، بل وأن يكونَ مَن تَرَكَ التَّطوُّعاتِ ليس مُسلِمًا؛ إذ كانَتِ التَّطوُّعاتُ طاعةً للهِ، إن جَعَلْتُم كلَّ طاعةٍ فَرْضًا أو نَفْلًا إسْلامًا. ثُمَّ هذا خِلافُ ما احْتَجَجْتُم به مِن قَوْلِه للأعْرابِ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] . فأَثبَتَ لهم الإسْلامَ دونَ الإيمانِ، وأيضًا فإخْراجُكم الفُسَّاقَ مِن اسمِ الإسْلامِ إن أَخرَجْتُموهم أَعظَمُ شَناعةً مِن إخْراجِهم مِن اسْمِ الإيمانِ، فوَقَعْتُم في أَعظَمِ ما عِبْتُموه على المُعْتَزِلةِ، فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ تَنْفي عنهم اسْمَ الإيمانِ أَعظَمَ ممَّا تَنْفي اسْمَ الإسْلامِ. واسْمُ الإيمانِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ أَعظَمُ. وإن قُلْتُم: بل كلُّ مَن فَعَلَ طاعةً سُمِّيَ مُسلِمًا، لَزِمَ أن يكونَ مَن فَعَلَ طاعةً مِن الطَّاعاتِ ولم يَتَكلَّمْ بالشَّهادَتَينِ مُسلِمًا، ومَن صَدَّقَ بقَلْبِه ولم يَتَكلَّمْ بلِسانِه أن يكونَ مُسلِمًا عنْدَكم؛ لأنَّ الإيمانَ عنْدَكم إسْلامٌ، فمَن أتى به فقد أتى بالإسْلامِ، فيكونُ مُسلِمًا عنْدَكم مَن تَكلَّمَ بالشَّهادَتَينِ ولا أتى بشيءٍ مِن الأعْمالِ!
واحْتِجاجُكم بقَوْلِه: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] قُلْتُم: نَفى عنهم الإيمانَ وأَثبَتَ لهم الإسْلامَ. فيُقالُ: هذه الآيةُ حُجَّةٌ عليكم؛ لأنَّه لمَّا أَثبَتَ لهم الإسْلامَ معَ انْتِفاءِ الإيمانِ دَلَّ ذلك على أنَّ الإيمانَ ليس بجُزءٍ مِن الإسْلامِ؛ إذ لو كانَ بعضَه لَما كانوا مُسلِمينَ إن لم يَأتوا به، وإن قُلْتُم: أرَدْنا بقَوْلِنا: أَثبَتَ لهم الإسْلامَ أيْ إسْلامًا ما، فإنَّ كلَّ طاعةٍ مِن الإسْلامِ إسْلامٌ عنْدَنا، لَزِمَكم ما تَقدَّمَ، مِن أن يكونَ صَوْمُ يَوْمٍ إسْلامًا، وصَدَقةُ دِرْهَمٍ إسْلامًا، وأمْثالُ ذلك. وهُمْ يَقولونَ: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، قالوا: هذا مِن حيثُ الإطْلاقُ، وإلَّا فالتَّفْصيلُ ما ذَكَرْناه مِن أنَّ الإيمانَ خَصْلةٌ مِن خِصالِ الإسْلامِ والدِّينِ، وليس هو جَميعَ الإسْلامِ والدِّينِ، فإنَّ الإسْلامَ هو الاسْتِسْلامُ للهِ بِفِعْلِ كلِّ طاعةٍ وَقَعَتْ مُوافِقةً للأمْرِ، والإيمانُ أَعظَمُ خَصْلةٍ مِن خِصالِ الإسْلامِ، واسمُ الإسْلامِ شامِلٌ لكلِّ طاعةٍ انْقادَ بِها العَبْدُ للهِ مِن إيمانٍ وتَصْديقٍ وفَرْضٍ سِواه ونَفْلٍ، غَيْرَ أنَّه لا يَصلُحُ التَّقرُّبُ بفِعْلِ ما عَدا الإيمانَ مِن الطَّاعاتِ دونَ تَقْديمِ فِعْلِ الإيمانِ. قالوا: والدِّينُ مَأخوذٌ مِن التَّدَيُّنِ، وهو قَريبٌ مِن الإسْلامِ في المَعْنى. فيقالُ لهم: إذا كانَ هذا قَوْلَكم، فقَوْلُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، يُناقِضُ هذا؛ فإنَّ المُسلِمَ هو المُطيعُ للهِ، ولا تَصِحُّ الطَّاعةُ مِن أحَدٍ إلَّا معَ الإيمانِ، فيَمْتنِعُ أن يكونَ أحَدٌ فَعَلَ شَيئًا مِن الإسْلامِ إلَّا وهو مُؤمِنٌ، ولو كانَ ذلك أَدْنى الطَّاعاتِ، فيَجِبُ أن يكونَ كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، سواءٌ أُريدَ بالإسْلامِ فِعْلُ جَميعِ الطَّاعاتِ، أو فِعْلُ واحِدةٍ مِنها، وذلك لا يَصِحُّ كلُّه إلَّا معَ الإيمانِ، وحينَئذٍ فالآيةُ حُجَّةٌ عليكم لا لكم.
ثُمَّ قَوْلُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، إن كُنْتُم تُريدونَ بالإيمانِ تَصْديقَ القَلْبِ فقط، فيَلزَمُ أن يكونَ الرَّجُلُ مُسلِمًا ولو لم يَتَكلَّمْ بالشَّهادتَينِ، ولا أتى بشيءٍ مِن الأعْمالِ المَأمورِ بِها، وهذا ممَّا يُعلَمُ بُطْلانُه بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسْلامِ، بل عامَّةُ اليَهودِ والنَّصارى يَعلَمونَ أنَّ الرَّجُلَ لا يكونُ مُسلِمًا حتَّى يَأتيَ بالشَّهادتَينِ أو ما يَقومُ مَقامَهما، وقَوْلُكم: كلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، لا يُريدونَ أنَّه أتى بالشَّهادتَينِ ولا بشيءٍ مِن المَباني الخَمْسِ، بل أتى بما هو طاعةٌ، وتلك طاعةٌ باطِنةٌ، وليس هذا هو المُسلِمَ المَعْروفَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولا عنْدَ الأئِمَّةِ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، ثُمَّ اسْتَدْلَلْتُم بالآيةِ، والأعْرابُ إنَّما أَتَوا بإسْلامٍ ظاهِرٍ نَطَقوا فيه بالشَّهادتَينِ، سواءٌ كانوا صادِقينَ أو كاذِبينَ، فأَثبَتَ اللهُ لهم الإسْلامَ دونَ الإيمانِ، فيَظُنُّ مَن لا يَعرِفُ حَقيقةَ الأمْرِ أنَّ هذا هو قَوْلُ السَّلَفِ الَّذي دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ كلَّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ، وليس كلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا، وبَيْنَهما مِن التَّبايُنِ أَعظَمُ ممَّا بَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ وقَوْلِ المُعْتَزِلةِ في الإيمانِ والإسْلامِ؛ فإنَّ قَوْلَ المُعْتَزِلةِ في الإيمانِ والإسْلامِ أَقرَبُ مِن قَوْلِ الجَهْميَّةِ بكَثيرٍ، ولكنَّ قَوْلَهم في تَخْليدِ أهْلِ القِبْلةِ أَبعَدُ عن قَوْلِ السَّلَفِ مِن قَوْلِ الجَهْميَّةِ.
فالمُتَأخِّرونَ الَّذين نَصَروا قَوْلَ جَهْمٍ في مَسْألةِ الإيمانِ يُظهِرونَ قَوْلَ السَّلَفِ في هذا، وفي الاسْتِثْناءِ، وفي انْتِفاءِ الإيمانِ الَّذي في القَلْبِ حيثُ نَفاه القُرْآنُ، ونَحْوِ ذلك، وذلك كلُّه مُوافِقٌ للسَّلَفِ في مجرد اللَّفْظ، وإلَّا فقَوْلُهم في غايةِ المُبايَنةِ لقَوْلِ السَّلَفِ، ليس في الأقْوالِ أَبعَدُ عن السَّلَفِ مِنه، وقَوْلُ المُعْتَزِلةِ والخَوارِجِ والكَرَّاميَّةِ في اسْمِ الإيمانِ والإسْلامِ أَقرَبُ إلى قَوْلِ السَّلَفِ مِن قَوْلِ الجَهْميَّةِ، لكنَّ المُعْتَزِلةَ والخَوارِجَ يَقولونَ بتَخْليدِ العُصاةِ، وهذا أَبعَدُ عن قَوْلِ السَّلَفِ مِن كُلِّ قَوْلٍ، فهُمْ أَقرَبُ في الاسْمِ وأَبعَدُ في الحُكْمِ، والجَهْميَّةُ وإن كانوا في قَوْلِهم بأنَّ الفُسَّاقَ لا يُخَلَّدونَ أَقرَبَ في الحُكْمِ إلى السَّلَفِ، فقَوْلُهم في مُسمَّى الإسْلامِ والإيمانِ وحَقيقتِهما أَبعَدُ مِن كلِّ قَوْلٍ عن الكِتابِ والسُّنَّةِ، وفيه مِن مُناقَضةِ العَقْلِ والشَّرْعِ واللُّغةِ ما لا يوجَدُ مِثلُه لغَيْرِهم) [829] ((الإيمان)) (ص: 125 - 129). .
ويَنْبَغي التَّنْبيهُ إلى أنَّ الأشاعِرةَ وإن وافَقوا الجَهْميَّةَ في جَعْلِ الإيمانِ مُجَرَّدَ التَّصْديقِ فُهْم يُعَظِّمونَ الأعْمالَ الصَّالِحةَ، ويَجعَلونَها شَرْطًا لكَمالِ الإيمانِ، ويَجعَلونَ الأعْمالَ السَّيِّئةَ سَبَبًا لدُخولِ النَّارِ، فهُمْ -وإن خالَفوا السَّلَفَ الصَّالِحَ الَّذين يَجعَلونَ الأعْمالَ جُزءًا مِن الإيمانِ- لا يُهمِلونَ الأعْمالَ الصَّالِحةَ [830] يُنظر: ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) للصفاقسي (ص: 48)، ((الإيمان بين السلف والمتكلمين)) للغامدي (ص: 152). ، بل قد وافَقَ بعضُ الأشاعِرةِ السَّلَفَ في مُسمَّى الإيمانِ؛ كأبي عَبْدِ اللهِ بنِ مُجاهِدٍ، وأبي مَنْصورٍ البَغْداديِّ، وأبي القاسِمِ القُشَيْريِّ [831] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 99)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (1/ 130). .
والَّذي اسْتَقَرَّ عليه المَذهَبُ الأَشْعَرِيُّ ودَوَّنَه المُتَأخِّرونَ مِن الأشاعِرةِ في كُتُبِهم: أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ بالقَلْبِ، وأنَّ قَوْلَ اللِّسانِ شَرْطٌ لإجْراءِ الأحْكامِ في الدُّنْيا، وأنَّ عَمَلَ الجَوارِحِ شَرْطُ كَمالٍ في الإيمانِ [832] يُنظر: ((حاشية ابن الأمير على إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 92 - 95)، ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 133 - 136)، ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 92). .

انظر أيضا: