موسوعة الفرق

الفَصْلُ الثَّالِثُ: خِلافُ الأشاعِرةِ في مَسْألةِ الاسْتِثْناءِ في الإيمانِ


اخْتَلَفَ الأشاعِرةُ في مَسْألةِ الاسْتِثناءِ في الإيمانِ، وللأشاعِرةِ فيما يَتَعلَّقُ بِهذه المَسْألةِ قَوْلٌ غَريبٌ مُحدَثٌ لم يَقُلْه السَّلَفُ، وهو أنَّ الإيمانَ هو ما وافى به العَبْدُ رَبَّه عنْدَ مَوْتِه، وأنَّ مَن كانَ في عِلمِ اللهِ أنَّه يَموتُ مُؤمِنًا فاللهُ راضٍ عنه في حالِ كُفْرِه، ومَن كانَ في عِلمِ اللهِ أنَّه يَموتُ كافِرًا فاللهُ ساخِطٌ عليه في حالِ إيمانِه، وهذا بِناءً على قَوْلِهم في مَنْعِ حُلولِ الحَوادِثِ، وأنَّ غَضَبَ اللهِ أو رِضاه أزَليٌّ، وكذلك إرادتُه ومَحَبَّتُه، فقَرَّروا أنَّ سَخَطَ اللهِ وبُغْضَه للكافِرِ، أو رِضاه ومَحَبَّتَه للمُؤمِنِ، كلُّها أزَليَّةٌ، ولا يُمكِنُ أن تَقَعَ في المُسْتقبَلِ عنْدَ وُقوعِ سَبَبِها!
بعضُ النُّقولِ من كُتُبِ الأشاعِرةِ:
1- قالَ الباقِلَّانيُّ: (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّه يَجوزُ أن يقولَ العَبْدُ: أنا مُؤمِنٌ حَقًّا، ويَعْني به في الحالِ، ويَجوزُ أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهُ ويَعْني به في المُسْتقبَلِ، فأمَّا في الماضي وفي الحالِ فلا يَجوزُ أن يقولَ: إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّ ذلك يكونُ شَكًّا في الإيمانِ، ولأنَّ الاسْتِثْناءَ إنَّما يَصِحُّ في المُسْتقبَلِ، ولا يَصِحُّ في الماضي) [845] ((الإنصاف فيما يجب اعْتِقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 57). .
2- قالَ عَبْدُ القاهِرِ البَغْداديُّ: (القائِلونَ بأنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ مِن أصْحابِ الحَديثِ مُخْتلِفونَ في الاسْتِثْناءِ فيه؛ فمِنهم مَن يَقولُ به، وهو اخْتِيارُ شَيْخِنا أبي سَهْلٍ مُحمَّدِ بنِ سُلَيْمانَ الصُّعْلوكيِّ، وأبي بَكْرٍ مُحمَّدِ بنِ الحُسَيْنِ بنِ فورَكٍ. ومِنهم مَن يُنكِرُه، وهذا اخْتِيارُ جَماعةٍ مِن شُيوخِ عَصْرِنا؛ مِنهم أبو عَبْدِ اللهِ بنُ مُجاهِدٍ، والقاضي أبو بَكْرٍ مُحمَّدُ بنُ الطَّيِّبِ الأَشْعَرِيُّ، وأبو إسْحاقَ إبْراهيمُ بنُ مُحمَّدٍ الأسْفَرايينيُّ. وكلُ مَن قالَ مِن أهْلِ الحَديثِ بأنَّ جُمْلةَ الطَّاعاتِ مِن الإيمانِ قالَ بالمُوافاةِ، وقالَ: كلُّ مَن وافى رَبَّه على الإيمانِ فهو المُؤمِنُ، ومَن وافاه بغَيْرِ الإيمانِ الَّذي أَظهَرَه في الدُّنْيا عُلِمَ في عاقِبتِه أنَّه لم يكنْ قَطُّ مُؤمِنًا. والواحِدُ مِن هؤلاء يقولُ: أَعلَمُ أنَّ إيماني حَقٌّ، وضِدَّه باطِلٌ، وإن وافَيْتُ رَبِّي عليه كُنْتُ مُؤمِنًا حَقًّا، فيَسْتَثْني في كَوْنِه مُؤمِنًا، ولا يَسْتَثْني في صِحَّةِ إيمانِه) [846] ((أُصول الدين)) (ص: 253). .
3- قالَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ: (إن قيلَ: قد أُثِرَ عن سَلَفِكم رَبْطُ الإيمانِ بالمَشيئةِ، وكانَ إذا سُئِلَ الواحِدُ مِنهم عن إيمانِه قالَ: إنَّه مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهُ، فما مَحْصولُ ذلك؟ قُلْنا: الإيمانُ ثابِتٌ في الحالِ قَطْعًا لا شَكَّ فيه، ولكنَّ الإيمانَ الَّذي هو عِلمُ الفَوْزِ وآيةُ النَّجاةِ إيمانُ المُوافاةِ، فاعْتَنى السَّلَفُ به وقَرَنوه بالمَشيئةِ، ولم يَقصِدوا التَّشَكُّكَ في الإيمانِ النَّاجِزِ) [847] ((الإرشاد الى قواطع الادلة في أُصول الاعْتِقاد)) (ص: 419). .
4- قالَ الغَزاليُّ مُبَيِّنًا أَوْجُهَ الاسْتِثْناءِ في الإيمانِ: (الاسْتِثْناءُ صَحيحٌ، وله أَرْبَعةُ أَوْجُهٍ؛ وَجْهانِ مُسْتنِدانِ إلى الشَّكِّ لا في أصْلِ الإيمانِ، ولكن في خاتِمتِه أو كَمالِه، ووَجْهانِ لا يَسْتنِدانِ إلى الشَّكِّ، الوَجْهُ الأوَّلُ الَّذي لا يَسْتنِدُ إلى مُعارَضةِ الشَّكِّ: الاحْتِرازُ مِن الجَزْمِ خيفةَ ما فيه مِن تَزْكيةِ النَّفْسِ...، الوَجْهُ الثَّاني: التَّأديبُ بذِكْرِ اللهِ تَعالى في كلِّ حالٍ، وإحالةِ الأمورِ كلِّها إلى مَشيئةِ اللهِ سُبْحانَه، الوَجْهُ الثَّالِثُ مُسْتنَدُه الشَّكُّ، ومَعْناه أنا مُؤمِنٌ حَقًّا إن شاءَ اللهُ ...، ويَرجِعُ هذا إلى الشَّكِّ في كَمالِ الإيمانِ لا في أصْلِه، وكلُّ إنْسانٍ شاكٌّ في كَمالِ إيمانِه، وذلك ليس بكُفْرٍ، والشَّكُّ في كَمالِ الإيمانِ حَقٌّ مِن وَجْهَينِ؛ أحَدُهما: مِن حيثُ إنَّ النِّفاقَ يُزيلُ كَمالَ الإيمانِ، وهو خَفِيٌّ لا تَتَحقَّقُ البَراءةُ مِنه، والثَّاني: أنَّه يَكمُلُ بأعْمالِ الطَّاعاتِ، ولا يَدْري وُجودَها على الكَمالِ...، الوَجْهُ الرَّابِعُ: وهو أيضًا مُسْتنِدٌ إلى الشَّكِّ، وذلك مِن خَوْفِ الخاتِمةِ؛ فإنَّه لا يَدْري أَيَسْلَمُ له الإيمانُ عنْدَ المَوْتِ أم لا؟) [848] ((قواعد العَقائِد)) (ص: 270، 271 – 274، 282). .
5- قالَ الرَّازِيُّ: (كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: أنا مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهِ، وتَبِعَه جَمْعٌ مِن عُظَماءِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ رَضيَ اللهُ عنهم، وهو قَوْلُ الشَّافِعيِّ رَضيَ اللهُ عنه، وأَنكَرَه أبو حَنيفةَ وأصْحابُه رَحمَهم اللهُ تَعالى؛ قالَتِ الشَّافِعيَّةُ: لنا وُجوهٌ: الأوَّلُ: أنَّا لا نَحمِلُ هذا على الشَّكِّ في الإيمانِ، بل على التَّبَرُّكِ، كقَوْلِ اللهِ تَعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، وليس المُرادُ مِنه الشَّكَّ؛ لأنَّه على اللهِ تَعالى مُحالٌ، بل لأجْلِ التَّبَرُّكِ والتَّعْظيمِ، والثَّاني: أن يُحمَلَ على الشَّكِّ، لكن لا في الحالِ بل في العاقِبةِ؛ لأنَّ الإيمانَ المُنْتَفَعَ به هو الباقي عنْدَ المَوْتِ، وكلُّ أحَدٍ يَشُكُّ في ذلك، فنَسألُ اللهَ تَعالى إبْقاءَنا على تلك الحالةِ، والثَّالِثُ: أنَّ الإيمانَ لمَّا كانَ عنْدَ الشَّافِعيِّ هو مَجْموعَ الأمورِ الثَّلاثةِ؛ وهي القَوْلُ، والعَمَلُ، والاعْتِقادُ، وكانَ حُصولُ الشَّكِّ في العَمَلِ يَقْتَضي حُصولَ الشَّكِّ في أحَدِ أجْزاءِ هذه الماهِيَّةِ، فيَصِحُّ الشَّكُّ في حُصولِ الإيمانِ، وأمَّا عنْدَ أبي حَنيفةَ رَضيَ اللهُ عنه فلمَّا كانَ الإيمانُ عِبارةً عن الاعْتِقادِ المُجَرَّدِ لم يكنِ الشَّكُّ في العَمَلِ موجِبًا لوُقوعِ الشَّكِّ في الإيمانِ، فظَهَرَ أنَّه ليس بَيْنَ الإمامَينِ رَضيَ اللهُ عنهما مُخالَفةٌ في المَعْنى) [849] ((معالم أُصول الدين)) (ص: 135). .
وقَوْلُ الأشاعِرةِ في المُوافاةِ ممَّا شَنَّعَ عليهم فيه أهْلُ العِلمِ، ومِن ذلك ما قالَه ابنُ حَزْمٍ: (اخْتَلَفَ المُتَكلِّمونَ في مَعنًى عَبَّروا عنه بلَفْظِ المُوافاةِ، وهو أنَّهم قالوا في إنْسانٍ مُؤمِنٍ صالِحٍ مُجْتهِدٍ في العِبادةِ ثُمَّ ماتَ مُرْتَدًّا كافِرًا، وآخَرَ كافِرٍ مُتَمَرِّدٍ وفاسِقٍ ثُمَّ ماتَ مُسلِمًا تائِبًا: كيف كانَ حُكْمُ كلِّ واحِدٍ مِنهما قَبْلَ أن يَنْتقِلَ إلى ما ماتَ عليه عنْدَ اللهِ تَعالى؟ فذَهَبَ هِشامُ بنُ عَمْرٍو الفوطيُّ وجَميعُ الأَشْعَريَّةِ إلى أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لم يَزَلْ راضِيًا عن الَّذي ماتَ مُسلِمًا تائِبًا، ولم يَزَلْ ساخِطًا على الَّذي ماتَ كافِرًا أو فاسِقًا، واحْتَجُّوا في ذلك بأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يَتَغيَّرُ عِلمُه، ولا يَرْضى ما سَخِطَ، ولا يَسخَطُ ما رَضيَ، وقالَتِ الأشْعَريَّةُ: الرِّضا مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ لا يَتَغيَّرُ...، وذَهَبَ سائِرُ المُسلِمينَ إلى أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ كانَ ساخِطًا على الكافِرِ والفاسِقِ، ثُمَّ رَضيَ اللهُ عنهما إذا أَسلَمَ الكافِرُ وتابَ الفاسِقُ، وأنَّه كانَ تَعالى راضِيًا عن المُسلِمِ وعن الصَّالِحِ ثُمَّ سَخِطَ عليهما إذا كَفَرَ المُسلِمُ، وفَسَقَ الصَّالِحُ) [850] ((الفَصْل في الملل والأهواء والنحل)) (4/ 48). .
ومَسْألةُ الاسْتِثْناءِ في الإيمانِ مِن المَسائِلِ الَّتي خالَفَ فيها الماتُريديَّةُ الأَشْعريَّةَ، وشَنَّعوا عليهم فيها، معَ أنَّ كُلًّا مِنهم يَرى أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ.
قالَ أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إذا عَرَفْتَ أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ، وهو أمْرٌ حَقيقيٌّ لا يَتَبيَّنُ بانْعِدامِه وتَبَدُّلِه بما يُضادُّه أنَّه ما كانَ مَوْجودًا، كمَن كانَ قائِمًا ثُمَّ قَعَدَ، أو كانَ شابًّا ثُمَّ شاخَ، لم يَتَبيَّنْ أنَّه ما كانَ قائِمًا ولا شابًّا، وعُرِفَ بِهذا بُطْلانُ قَوْلِ الأَشْعَريَّةِ ومَن ساعَدَهم في المُوافاةِ، وهو القَوْلُ: إنَّ العِبْرةَ للخَتْمِ، فمَن خُتِمَ له بالإيمانِ تَبيَّنَ أنَّه كانَ مِن الابْتِداءِ مُؤمِنًا، وحينَ كانَ خَرَّ ساجِدًا بَيْنَ يَدَي الصَّنَمِ مُعْتقِدًا للشِّرْكِ والأديانِ الباطِلةِ كانَ مُؤمِنًا مُصدِّقًا للهِ تَعالى ورَسولِه! مُؤمِنًا مُخلِصًا آتِيًا بالعِباداتِ وإن كانَ كافِرًا مِن الابْتِداءِ؟! وهذا ظاهِرُ الفَسادِ، وقَضيَّةُ هذا أنَّ مَن شاخَ يَتَبيَّنُ أنَّه كانَ شَيْخًا في حالِ عُنْفوانِ شَبابِه، بل حينَ كانَ طِفْلًا رَضيعًا في المَهْدِ، بل حينَ كانَ في بَطْنِ الأُمِّ! والقَوْلُ به إنْكارٌ للحَقائِقِ، وبِهذا يُعرَفُ أيضًا بُطْلانُ قَوْلِهم: إنَّا مُؤمِنونَ إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّ ذلك كشابٍّ يَقولُ: أنا شابٌّ إن شاءَ اللهُ تَعالى، وكطَويلٍ يقولُ: أنا طَويلٌ إن شاءَ اللهُ تَعالى، وذلك كلُّه هَذَيانٌ، فكَذا هذا، واللهُ المُوفِّقُ) [851] ((التمهيد في أُصول الدين)) (ص: 152) باختِصارٍ وتصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
ولابنِ تَيْميَّةَ كَلامٌ كَثيرٌ مُحَقَّقٌ في هذه المَسْألةِ، وتَحْريرٌ لخِلافِ النَّاسِ فيها، نَنقُلُ مِن كَلامِه ما يَلي:
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (الاسْتِثْناءُ في الإيمانِ بقَوْلِ الرَّجُلِ: أنا مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهُ، النَّاسُ فيه على ثَلاثةِ أقْوالٍ؛ مِنهم مَن يوجِبُه، ومِنهم مَن يُحرِّمُه، ومِنهم مَن يُجَوِّزُ الأَمْرَينِ باعْتِبارَينِ، وهذا أَصَحُّ الأقْوالِ؛ فالَّذين يُحَرِّمونَه هُمُ المُرْجِئةُ والجَهْميَّةُ، ونَحْوُهم ممَّن يَجعَلُ الإيمانَ شَيئًا واحِدًا يَعلَمُه الإنْسانُ مِن نفْسِه كالتَّصْديقِ بالرَّبِّ ونَحْوِ ذلك ممَّا في قَلْبِه، فيَقولُ أحَدُهم: أنا أَعلَمُ أنِّي مُؤمِنٌ كما أَعلَمُ أنِّي تَكلَّمْتُ بالشَّهادتَينِ، وكما أَعلَمُ أنِّي قَرأْتُ الفاتِحةَ...، قالوا: فمَن اسْتَثْنى في إيمانِه فهو شاكٌّ فيه، وسَمَّوهم الشَّكَّاكةَ. والَّذين أَوجَبوا الاسْتِثْناءَ لهم مَأخَذانِ؛ أحَدُهما: أنَّ الإيمانَ هو ما ماتَ عليه الإنْسانُ، والإنْسانُ إنما يكونُ عنْدَ اللهِ مُؤمِنًا وكافِرًا باعْتِبارِ المُوافاةِ وما سَبَقَ في عِلمِ اللهِ أنَّه يكونُ عليه، وما قَبْلَ ذلك لا عِبْرةَ به. قالوا: والإيمانُ الَّذي يَتَعقَّبُه الكُفْرُ فيَموتُ صاحِبُه كافِرًا ليس بإيمانٍ، كالصَّلاةِ الَّتي يُفسِدُها صاحِبُها قَبْلَ الكَمالِ، وكالصِّيامِ الَّذي يُفطِرُ صاحِبُه قَبْلَ الغُروبِ، وصاحِبُ هذا هو عنْدَ اللهِ كافِرٌ لعِلمِه بما يَموتُ عليه، وكذلك قالوا في الكُفْرِ، وهذا المَأخَذُ مَأخَذُ كَثيرٍ مِن المُتَأخِّرينَ مِن الكُلَّابيَّةِ وغَيْرِهم ممَّن يُريدُ أن يَنصُرَ ما اشْتَهَرَ عن أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ مِن قَوْلِهم: أنا مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهُ، ويُريدُ معَ ذلك أنَّ الإيمانَ لا يَتَفاضَلُ، ولا يَشُكُّ الإنْسانُ في المَوْجودِ مِنه، وإنَّما يَشُكُّ في المُسْتقبَلِ...، والمَأخَذُ الثَّاني في الاسْتِثْناءِ أنَّ الإيمانَ المُطلَقَ يَتَضمَّنُ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به عَبْدَه كلِّه، وتَرْكَ المُحَرَّماتِ كلِّها ؛ فإذا قالَ الرَّجُلُ: أنا مُؤمِنٌ بِهذا الاعْتِبارِ فقد شَهِدَ لنَفْسِه بأنَّه مِن الأبْرارِ المُتَّقينَ القائِمينَ بفِعْلِ جَميعِ ما أُمِروا به، وتَرْكِ كلِّ ما نُهوا عنه، فيكونُ مِن أوْلياءِ اللهِ، وهذا مِن تَزْكيةِ الإنْسانِ لنَفْسِه وشَهادتِه لنَفْسِه بما لا يَعلَمُ، ولو كانَتْ هذه الشَّهادةُ صَحيحةً لكانَ يَنْبَغي له أن يَشهَدَ لنَفْسِه بالجَنَّةِ إن ماتَ على هذه الحالِ، ولا أحَدَ يَشهَدُ لنَفْسِه بالجَنَّةِ؛ فشَهادتُه لنَفْسِه بالإيمانِ كشَهادتِه لنَفْسِه بالجَنَّةِ إذا ماتَ على هذه الحالِ؛ وهذا مَأخَذُ عامَّةِ السَّلَفِ الَّذين كانوا يَسْتَثْنونَ وإن جَوَّزوا تَرْكَ الاسْتِثْناءِ بمَعنًى آخَرَ...، لَفْظُ الإيمانِ فيه إطْلاقٌ وتَقْييدٌ، فكانوا يُجيبونَ بالإيمانِ المُقَيَّدِ الَّذي لا يَسْتلزِمُ أنَّه شاهِدٌ فيه لنَفْسِه بالكَمالِ؛ ولِهذا كانَ الصَّحيحُ أنَّه يَجوزُ أن يُقالَ: أنا مُؤمِنٌ، بلا اسْتِثْناءٍ إذا أرادَ ذلك، لكن يَنْبَغي أن يَقرُنَ كَلامَه بما يُبيِّنُ أنَّه لم يُرِدِ الإيمانَ المُطلَقَ الكامِلَ) [852] ((الإيمان)) (ص: 334، 348، 350). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (أَكثَرُ المُتَأخِّرينَ الَّذين نَصَروا قَوْلَ جَهْمٍ يَقولونَ بالاسْتِثْناءِ في الإيمانِ، ويَقولونَ: الإيمانُ في الشَّرْعِ هو ما يُوافي به العَبْدُ رَبَّه، وإن كانَ في اللُّغةِ أَعَمَّ مِن ذلك، فجَعَلوا في مَسْألةِ الاسْتِثْناءِ مُسمَّى الإيمانِ ما ادَّعوا أنَّه مُسمَّاه في الشَّرْعِ، وعَدَلوا عن اللُّغةِ، فهَلَّا فَعَلوا هذا في الأعْمالِ؟! ودَلالةُ الشَّرْعِ على أنَّ الأعْمالَ الواجِبةَ مِن تَمامِ الإيمانِ لا تُحْصى كَثْرةً، بخِلافِ دَلالتِه على أنَّه لا يُسمَّى إيمانًا إلَّا ما ماتَ الرَّجُلُ عليه؛ فإنَّه ليس في الشَّرْعِ ما يَدُلُّ على هذا، وهو قَوْلٌ مُحدَثٌ لم يَقُلْه أحَدٌ مِن السَّلَفِ) [853] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 143). .
وقالَ أيضًا: (مَن قالَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاءَ اللهُ، وهو يَعْتقِدُ أنَّ الإيمانَ فِعلُ جَميعِ الواجِباتِ، ويَخافُ ألَّا يكونَ قائِمًا بِها فقد أَحسَنَ؛ ولِهذا كانَ الصَّحابةُ يَخافونَ النِّفاقَ على أنْفُسِهم...، ومَن اعْتَقَدَ أنَّ المُؤمِنَ المُطلَقَ هو الَّذي يَسْتحِقُّ الجَنَّةَ؛ فاسْتَثْنى خَوْفًا مِن سوءِ الخاتِمةِ فقد أصابَ، وهذا مَعْنى ما يُرْوى عن ابنِ مَسْعودٍ أنَّه قيلَ له عن رَجُلٍ: أنت مُؤمِنٌ؟ فقالَ: نَعمْ. فقيلَ له: أنت مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ فقالَ: أَرْجو. فقالَ: هَلَّا وكَلَ الأُولى كما وَكَلَ الثَّانِيةَ؟! ومَن اسْتَثْنى خَوْفًا مِن تَزْكيةِ نفْسِه أو مَدْحِها أو تَعْليقِ الأُمورِ بمَشيئةِ اللهِ، فقد أَحسَنَ، ومَن جَزَمَ بما يَعلَمُه أيضًا في نفْسِه مِن التَّصْديقِ فهو مُصيبٌ) [854] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 681). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (اسْمُ المُؤمِنِ عنْدَهم إنَّما هو لِمَن ماتَ مُؤمِنًا، فأمَّا مَن آمَنَ ثُمَّ ارْتَدَّ فذاك ليس عنْدَهم بإيمانٍ، وهذا اخْتِيارُ الأَشْعَرِيِّ، وطائِفةٍ مِن أصْحابِ أَحمَدَ وغَيْرِهم، وهكذا يُقالُ: الكافِرُ مَن ماتَ كافِرًا، وهؤلاء يَقولونَ: إنَّ حُبَّ اللهِ وبُغْضَه، ورِضاه وسَخَطَه، ووَلايتَه وعَداوتَه؛ إنما يَتَعلَّقُ بالمُوافاةِ فقط، فاللهُ يُحِبُّ مَن عَلِمَ أنَّه يَموتُ مُؤمِنًا، ويَرْضى عنه ويُواليه بحُبٍّ قَديمٍ ومُوالاةٍ قَديمةٍ، ويَقولونَ: إنَّ عُمَرَ حالَ كُفْرِه كانَ وِلِيًّا للهِ! وهذا القَوْلُ مَعْروفٌ عن ابنِ كُلَّابٍ ومَن تَبِعَه، كالأَشْعَرِيِّ وغَيْرِه، وأَكثَرُ الطَّوائِفِ يُخالِفونَه في هذا، فيَقولونَ: بل قد يكونُ الرَّجُلُ عَدُوًّا للهِ ثُمَّ يَصيرُ وَلِيًّا للهِ، ويكونُ اللهُ يُبغِضُه ثُمَّ يُحِبُّه، وهذا مَذهَبُ الفُقَهاءِ والعامَّةِ، وهو قَوْلُ المُعْتَزِلةِ، والكَرَّاميَّةِ، والحَنَفيَّةِ قاطِبةً، وقُدَماءِ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ والحَنْبليَّةِ، وعلى هذا يَدُلُّ القُرْآنُ كقَوْلِه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31] ، ووَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7] ، وقَوْلِه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137] ، فوَصَفَهم بكُفْرٍ بَعْدَ إيمانٍ، وإيمانٍ بَعْدَ كُفْرٍ، وأَخبَرَ عن الَّذين كَفَروا أنَّهم كُفَّارٌ، وأنَّهم إن انْتَهَوا يُغفَرْ لهم ما قد سَلَفَ، وقالَ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [مُحمَّد: 28] ، وفي الصَّحيحَينِ في حَديثِ الشَّفاعةِ: تَقولُ الأَنْبِياءُ: ((إنَّ رَبِّي قد غَضِبَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قَبْلَه مِثلَه، ولن يَغضَبَ بَعْدَه مِثلَه )) [855] أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) مطولًا باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [856] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 582). .

انظر أيضا: