موسوعة الفرق

الفَصْلُ الخامِسُ: الإيمان بعدم بَقاءِ نُبُوَّةِ الأَنْبِياءِ بَعْدَ مَوْتِهم


نُسِب إلى بَعْضِ الأشاعِرةِ مَسْألةٌ مُحدَثةٌ تَتَعلَّقُ بالإيمانِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعدمُ بَقاءِ صِفةِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَوْتِه، وهذا القَوْلُ بِناءً على اعْتِقادِ أنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِن أعْراضِ البَدَنِ كالحَياةِ، فإذا زالَتْ بالمَوْتِ تَبِعَتْها صِفاتُه فزالَتْ بزَوالِها.
قالَ ابنُ حَزْمٍ: (الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ الأَنْبِياءَ عليهم السَّلامُ ليسوا أَنْبِياءَ اليَوْمِ ولا الرُّسُلُ اليَوْمَ رُسُلًا...، حَديثُ فِرْقةٍ مُبْتدِعةٍ تَزعُمُ أنَّ مُحمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس هو الآنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وهذا قَوْلٌ ذَهَبَ إليه الأشْعَريَّةُ، وأَخبَرَني سُلَيْمانُ بنُ خَلَفٍ الباجيُّ، وهو مِن مُقدَّميهم اليَوْمَ أنَّ مُحمَّدَ بنَ الحَسَنِ بنِ فورَكٍ الأصْبَهانيَّ على هذه المَسْألةِ قَتَلَه بالسُّمِّ مَحْمودُ بنُ سُبُكْتُكينَ صاحِبُ ما دونَ وَراءِ النَّهَرِ مِن خُراسانَ رَحِمَه اللهُ...، وهذه مَقالةٌ خَبيثةٌ مُخالِفةٌ للهِ تَعالى ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِما أَجمَعَ عليه جَميعُ أهْلِ الإسْلامِ إلى يَوْمِ القِيامةِ، وإنَّما حَمَلَهم على هذا قَوْلُهم الفاسِدُ إنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ، والعَرَضُ يَفْنى أبَدًا ويَحدُثُ، ولا يَبْقى وَقْتَينِ، فروحُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنْدَهم قد فَنِيَتْ وبَطَلَتْ، ولا روحَ الآنَ عنْدَ اللهِ تَعالى، وأمَّا جَسَدُه ففي قَبْرِه مَواتٌ، فبَطَلَتْ نُبُوَّتُه بذلك ورِسالتُه...! نَعوذُ باللهِ مِن هذا القَوْلِ؛ فإنَّه كُفْرٌ صُراحٌ لا تَرْدادَ فيه، ويَكْفي مِن بُطْلانِ هذا القَوْلِ الفاحِشِ الفَظيعِ أنَّه مُخالِفٌ لِما أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ به، ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتَّفَقَ عليه جَميعُ أهْلِ الإسْلامِ مِن كلِّ فِرْقةٍ ومِن كلِّ نِحْلةٍ، مِن الأذانِ في الصَّوامِعِ كلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، في كلِّ قَرْيةٍ مِن شَرْقِ الأرْضِ إلى غَرْبِها بأَعْلى أصْواتِهم، قد قَرَنَه اللهُ تَعالى بذِكْرِه: أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، فعلى قَوْلِ هؤلاء المُوَكَّلينَ إلى أنْفُسِهم يكونُ الأذانُ كَذِبًا، ويكونُ مَن أَمَرَ به كاذِبًا، وإنَّما كانَ يَجِبُ أن يكونَ الأذانُ على قَوْلِهم: أَشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا كانَ رَسولَ اللهِ، وإلَّا فمَن أَخبَرَ عن شيءٍ كانَ وبَطَلَ أنَّه كائِنٌ الآنَ فهو كاذِبٌ، فالأذانُ كَذِبٌ على قَوْلِهم، وهذا كُفْرٌ مُجَرَّدٌ...، فإن قالوا: كيف يكونُ مَيِّتًا رَسولَ اللهِ، وإنَّما الرَّسولُ هو الَّذي يُخاطَبُ عن اللهِ بالرِّسالةِ؟ قيلَ لهم: نَعمْ، مَن أَرسَلَه اللهُ مَرَّةً واحِدةُ فقط رَسولٌ للهِ تَعالى أبَدًا؛ لأنَّه حاصِلٌ على مَرْتبةِ جَلالةٍ لا يَحَطُّه عنها شيءٌ أبَدًا، ولا يَسقُطُ عنه هذا الاسْمُ أبَدًا، ولو كانَ ما قُلْتُم لَوَجَبَ ألَّا يكونَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَسولًا إلى أهْلِ اليَمَنِ في حَياتِه؛ لأنَّه لم يُكَلِّمْهم ولا شافَهَهم، ويَلزَمُ أيضًا ألَّا يكونَ رَسولَ اللهِ إلَّا ما دامَ يُكلِّمُ النَّاسَ، فإذا سَكَتَ أو أَكَلَ أو نامَ أو جامَعَ لم يكنْ رَسولَ اللهِ، وهذا حُمْقٌ مَشوبٌ بكُفْرٍ، وخِلافٌ للإجْماعِ المُتَيَقَّنِ، ونَعوذُ باللهِ مِن الخِذْلانِ! وأيضًا فإنَّ خَبَرَ الإسْراءِ الَّذي ذَكَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ في القُرْآنِ، وهو مَنْقولٌ نَقْلَ التَّواتُرِ، وأحَدُ أعْلامِ النُّبُوَّةِ، ذَكَرَ فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه رأى الأَنْبِياءَ عليهم السَّلامُ في سَماءٍ سَماءٍ، فهل رأى إلَّا أرْواحَهم الَّتي هي أنْفُسُهم؟ ومَن كَذَّبَ بِهذا أو بَعضِه فقدِ انْسَلَخَ عن الإسْلامِ بلا شَكٍّ، ونَعوذُ باللهِ مِن الخِذْلانِ، وهذه بَراهينُ لا مَحيدَ عنها) [865] ((الفَصْل في الملل والأهواء والنحل)) (1/ 75). .
وقالَ ابنُ القَيِّمِ: (قالَ خادِمُ شَيْخِ الإسْلامِ الأنْصاريِّ: حَضَرْتُ معَ شَيْخِ الإسْلامِ عنْدَ الوَزيرِ أبي علِيٍّ الحَسَنِ بنِ علِيٍّ الطُّوسيِّ نِظامِ المُلْكِ...، فلمَّا دَخَلَ واسْتَقَرَّ به المَجلِسُ انْتُدِبَ له رَجُلٌ فقالَ: يَأذَنُ الشَّيْخُ الإمامُ في أن أَسأَلَ مَسْألةً؟ فقالَ: سَلْ، فقالَ: لِمَ تَلعَنُ أبا الحَسَنِ الأَشْعَرِيَّ؟ فسَكَتَ، وأَطرَقَ الوَزيرُ لِما عَلِمَ مِن جَوابِه، فلمَّا كانَ بَعْدَ ساعةٍ قالَ له الوَزيرُ: أَجِبْه، فقالَ: أنا لا أَلعَنُ الأَشْعَرِيَّ، وإنَّما أَلعَنُ مَن لم يَعْتقِدْ أنَّ اللهَ في السَّماءِ، وأنَّ القُرْآنَ في المُصْحَفِ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ اليَوْمَ نَبيٌّ! ثُمَّ قامَ وانْصَرَفَ، فلم يُمكِنْ أحَدًا أن يَتَكلَّمَ بكَلِمةٍ مِن هَيْبتِه وصَوْلتِه وصَلابتِه...، وهذا القَوْلُ في النُّبُوَّةِ بِناءً على أصْلِ الجَهْميَّةِ وأفْراخِهم: أنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ مِن أعْراضِ البَدَنِ كالحَياةِ، وصِفاتُ الحَيِّ مَشْروطةٌ بِها، فإذا زالَتْ بالمَوْتِ تَبِعَتْها صِفاتُه فزالَتْ بزَوالِها، ولَجَأَ مُتَأخِّروهم مِن هذا الإلْزامِ وفَرُّوا إلى القَوْلِ بحَياةِ الأَنْبِياءِ عليهم السَّلامُ في قُبورِهم، فجَعَلوا لهم مَعادًا يَختَصُّ بهم قَبْلَ المَعادِ الأَكبَرِ؛ إذ لم يُمكِنْهم التَّصْريحُ بأنَّهم لم يَذوقوا المَوْتَ) [866] ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) (2/ 185 - 187). .
لكنَّ أئمَّةَ الأشاعرةِ لم يُصرِّحوا بنَفيِ نبُوَّةِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدَ مَوتِه، بل صرَّح بعضُهم بإثباتِها، ولعلَّه نُسِبَ إليهم ذلك على أنَّه لازمٌ لقولِهم بأنَّ الصِّفاتِ أعراضٌ، والعَرَضُ لا يبقى زمانَينِ، ولكِنَّهم لا يُقِرُّونَ بهذا اللَّازمِ [867] يُنظر: ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 87). ، ومن ذلك قَولُ الباقِلَّانيِّ: (يجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ نبُوَّاتِ الأنبياءِ صلَواتُ اللهِ عليهم لا تَبطُلُ ولا تنخَرِمُ بخروجِهم عن الدُّنيا وانتقالِهم إلى دارِ الآخِرةِ، بل حُكمُهم في حالِ خُروجِهم من الدُّنيا كحُكمِهم في حالةِ نومِهم، وحالةِ اشتغالِهم، إمَّا بأكلٍ أو شُربٍ، أو قَضاءِ وَطَرٍ.
والدَّليلُ عليه: أنَّ حقيقةَ النبُوَّةِ لو كانت ثابتةً لهم في حالةِ اشتغالِهم بأداءِ الرِّسالةِ دونَ غيرِها من الحالاتِ، لكانوا في غيرِها من الأحوالِ غيرَ موصوفينَ بذلك. وقد غَلِط من نسَبَ إلى مذهَبِ المحقِّقينَ من المُوحِّدينَ إبطالَ نبُوَّةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بخُروجِهم من دارِ الدُّنيا، وليس ذلك بصحيحٍ؛ لأنَّ مذهَبَ المحقِّقينَ أنَّ الرَّسولَ ما استحَقَّ شَرَفَ الرِّسالةِ بتأديةِ الرِّسالةِ، وإنَّما صار رسولًا واستحَقَّ شَرَفَ الرِّسالةِ والنبُوَّةِ بقَولِ مُرسِلِه وهو اللهُ تعالى: أنت رَسولٌ ونبيٌّ. وقولُ اللهِ تعالى قديمٌ لا يزولُ ولا يتغيَّرُ.... فحاصِلُ الجوابِ في هذا: أنَّ شرَفَ النبُوَّةِ وكمالَ المنصِبِ ثابتٌ للأنبياءِ صلَواتُ اللهِ عليهم أجمعينَ الآنَ، حَسَبَ ما كان ثابتًا لهم في حالِ الحياةِ، لم ينثَلِمْ ولم ينتَقِصْ، سواءٌ نُسِخَت شرائِعُهم أو لم تُنسَخْ، ومَن راجَع نفسَه ولم يغالِطْ حِسَّه عرَف وتحقَّق أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الآنَ لم يخاطِبْ شِفاهًا، ولا يأمُرُهم ولا يُكلِّمُهم من غيرِ واسطةٍ، لكِنْ حُكمُ شريعتِه وصِحَّةُ نبوَّتِه ثابتٌ لم يُنتقَضْ لأجْلِ خروجِه من الدُّنيا، ولم تَزُلْ مرتبتُه، ولا انخَرَمت رسالتُه، ولا بطَلَت مُعجِزتُه؛ فاعلَمْ ذلك وتحقَّقْه) [868] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده)) (ص: 60، 61). .
وقال أبو القاسِمِ القُشَيريُّ في شِكايتِه التي دافَع فيها عن الأشعَريِّ: (فأمَّا ما حُكِي عنه وعن أصحابِه أنَّهم يقولونَ: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس بنبيٍّ فى قبرِه ولا رسولٍ بعدَ موتِه، فبُهتانٌ عظيمٌ وكَذِبٌ مَحضٌ لم ينطِقْ منهم أحدٌ، ولا سُمِعَ فى مجلِسِ مُناظرةٍ ذلك عنهم، ولا وُجِد ذلك فى كتابٍ لهم، وكيف يصِحُّ ذلك وعندَهم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ فى قبرِه؟ قال اللهُ تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ، فأخبَرَ سُبحانَه بأنَّ الشُّهَداءَ أحياءٌ عندَ رَبِّهم، والأنبياءُ أَولى بذلك لتقاصُرِ رتبةِ الشَّهيدِ عن دَرَجةِ النبُوَّةِ... فإن قيل: فمِن أين وقعت هذه المسألةُ إن لم يكُنْ لها أصلٌ؟ قيل: إنَّ بعضَ الكَرَّاميَّةِ -ملأَ اللهُ قَبْرَه نارًا، وظنِّي أنَّ اللهَ قد فعَل- ألزم بعضَ أصحابِنا وقال: إذا كان عِندَكم الميِّتُ في حالِ مَوتِه لا يحِسُّ ولا يعلَمُ، فيجِبُ أن يكونَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قبرِه غيرَ مؤمِنٍ؛ لأنَّ الإيمانَ عِندَكم المعرفةُ والتَّصديقُ، والموتُ ينافي ذلك، فإذا لم يكُنْ له عِلمٌ وتصديقٌ لا يكونُ له إيمانٌ، ومن لا يكونُ مُؤمِنًا لا يكونُ نبيًّا، ولأنَّ عندهم الإيمانَ الإقرارُ الفرْدُ، وذلك قَولُهم لمَّا قال اللهُ لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، وزَعَموا أنَّ قولَهم: بَلَى باقٍ، والإيمانُ ذلك، وفي حالِ الموتِ عندَهم الميِّتُ يحِسُّ ويعلَمُ، وقَولُه: بَلَى باقٍ عينُه.
وهذه المذاهِبُ لهم مع ركاكتِها وفسادِها غيرُ مُلزِمةٍ لنا ما ألزَمونا؛ لأنَّ عِندَنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ يحِسُّ ويعلَمُ، وتُعرَضُ عليه أعمالُ الأمَّةِ، ويُبَلَّغُ الصَّلاةَ والسَّلامَ) [869] ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (3/ 406، 412). .

انظر أيضا: