موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: القولُ بكمالِ إيمانِ الفاسِقِ وتارِكِ جميعِ العِباداتِ


قال الآجُرِّيُّ: (احذَروا -رحِمكم اللهُ- قولَ مَن يقولُ: إنَّ إيمانَه كإيمانِ جِبريلَ وميكائيلَ، ومَن يقولُ: أنا مُؤمِنٌ عندَ اللهِ، وأنا مُؤمِنٌ مُستكمِلُ الإيمانِ؛ هذا كُلُّه مَذهَبُ أهلِ الإرجاءِ) [614] ((الشريعة)) (2/ 687). .
وبعضُ المُرجِئةِ يقولونَ: الإيمانُ قولٌ وعَملٌ، ويَعنونَ بالعَملِ قولَ اللِّسانِ أو عَملَ القلبِ، أمَّا عَملُ الجوارِحِ فهو عندَهم مِن الإيمانِ الواجِبِ أو المُستحَبِّ، ولا يدخُلُ في أصلِ الإيمانِ [615] يُنظر: ((السنة)) لعبدِ اللهِ بن أحمد (1/347)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/556)، (7/181)، (7/333)، (14/121). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (لكنَّهم إذا لم يُدخِلوا أعمالَ القُلوبِ في الإيمانِ لزِمهم قولُ جَهمٍ، وإن أدخَلوها في الإيمانِ لزِمهم عَملُ الجوارِحِ أيضًا؛ فإنَّها لازِمةٌ لها) [616] ((مجموع الفتاوى)) (7/194). .
وقال ابنُ رَجبٍ: (قد كان طائِفةٌ مِن المُرجِئةِ يقولونَ: (الإيمانُ قولٌ وعَملٌ) مُوافَقةً لأهلِ السُّنَّةِ، ثُمَّ يُفسِّرونَ العَملَ بالقولِ، ويقولونَ: هو عَملُ اللِّسانِ، وقد ذكَر الإمامُ أحمَدُ هذا القولَ عن شَبابةَ بنِ سَوَّارٍ [617] شَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ المَدائِنيُّ، مولى بني فَزارةَ، أصلُه من خُراسانَ، يقالُ: اسمُه مَروانُ، ثِقةٌ حافظٌ، رُمِيَ بالإرجاءِ. يُنظر: ((تقريب التهذيب)) لابن حجر (ص: 263). ، وأنكَره عليه، وقال: هو أخبَثُ قولٍ، ما سمعْتُ أنَّ أحدًا قال به، ولا بلَغني؛ يعني أنَّه بِدعةٌ، لم يقُلْه أحدٌ ممَّن سلَف) [618] ((فتح الباري)) (1/122). ويُنظر: ((السنة)) للخلال (3/571).  .
وكثيرٌ مِن المُرجِئةِ حينَ جعَلوا الأعمالَ غَيرَ داخِلةٍ في مُسمَّى الإيمانِ تساهَلوا في الأعمالِ الشَّرعيَّةِ بدعوى أنَّ الإيمانَ كامِلٌ في قُلوبِهم، وصار كثيرٌ مِن عامَّةِ النَّاسِ اليومَ مُرجِئةً، يتساهَلونَ في عَملِ الطَّاعاتِ، ويتهاوَنونَ في اقتِرافِ المُحرَّماتِ، ثُمَّ يقولونَ: الإيمانُ في القلبِ، معَ أنَّ اللهَ أمَر رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أن يقولَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الزمر: 11-13] ، ووصَف اللهُ المُؤمِنينَ بفِعلِ الطَّاعاتِ وتَركِ المُحرَّماتِ، وأنَّهم معَ ذلك يخافونَ عذابَه، فقال سبحانَه: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج: 23 - 28] .
فمَذهَبُ الإرجاءِ أعظَمُ سببٍ لتفريطِ العُصاةِ في حقِّ اللهِ، واستِهانتِهم في معصيتِه، ووُقوعِهم في الذُّنوبِ، فلا يبقى الدِّينُ إلَّا دعوى يدَّعونَها بألسِنتِهم، ويخالِفونَها في عقائِدِهم وأعمالِهم، وتتعطَّلُ معَها شعائِرُ الإسلامِ، كالصَّلواتِ الخَمسِ، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، والحُبِّ في اللهِ، والبُغضِ في اللهِ، والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، وغَيرِ ذلك، وبهذا تُعطَّلُ الشَّريعةُ، وتموتُ السُّنَنُ، وتُترَكُ الأحكامُ، ولا يبقى مِن الإسلامِ إلَّا اسمُه، ولا مِن القرآنِ إلَّا رَسمُه، ولا مِن المُسلِمينَ إلَّا تاريخُهم، ومُحصِّلةُ ذلك أن تعيشَ الأمَّةُ مِن غَيرِ رادِعٍ ومُوجِّهٍ مِن دينٍ أو قرآنٍ، على اعتِبارِ أنَّ الأعمالَ لا تأثيرَ لها على حقيقةِ الإيمانِ، فتكونُ الأمَّةُ في جاهِليَّةٍ عَمياءَ [619] يُنظر: ((الإيمان عند السَّلف ومخالفيهم)) للشبل (ص: 84). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (الإرجاءُ يُضعِفُ الإيمانَ بالوعيدِ، ويُهوِّنُ أمرَ الفرائِضِ والمحارِمِ) [620] ((مجموع الفتاوى)) (8/105). .
وقال أيضًا: (إن كان مِن المُرجِئةِ الذين إيمانُهم بالوعيدِ ضعيفٌ، استرسَلَت نَفسُه في المُحرَّماتِ وتَركِ الواجِباتِ، حتَّى يكونَ مِن شرِّ الخَلقِ، بخلافِ مَن وجَد حلاوةَ الإيمانِ بمحبَّةِ اللهِ، وعِلْمِه بأنَّه يُحِبُّ العِباداتِ، وأنَّه يُحِبُّ أفعالًا وأشخاصًا، ويُبغِضُ أفعالًا وأشخاصًا، ويرضى عن هؤلاء، ويغضَبُ على هؤلاء، ويفرَحُ بتوبةِ التَّائِبينَ، إلى غَيرِ ذلك ممَّا أخبَر به الرَّسولُ؛ فإنَّ هذا هو الإسلامُ الذي به يشهَدُ العبدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ) [621] ((منهاج السنة)) (5/327). .
وقد نبَّه ابنُ تيميَّةَ على خُطورةِ المُرجِئةِ، فقال: (وبإزاءِ هؤلاء المُكفِّرينَ بالباطِلِ أقوامٌ لا يعرِفونَ اعتِقادَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ كما يجِبُ، أو يعرِفونَ بعضَه ويجهَلونَ بعضَه، وما عرَفوه منه قد لا يُبيِّنونَه للنَّاسِ، بل يكتُمونَه، ولا ينهَونَ عن البِدَعِ المُخالِفةِ للكتابِ والسُّنَّةِ، ولا يذُمُّونَ أهلَ البِدَعِ ويُعاقِبونَهم، بل لعلَّهم يذُمُّونَ الكلامَ في السُّنَّةِ وأصولِ الدِّينِ ذمًّا مُطلَقًا، لا يُفرِّقونَ فيه بَينَ ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، وما يقولُه أهلُ البِدعةِ والفُرقةِ، أو يُقِرُّونَ الجميعَ على مذاهِبِهم المُختلِفةِ كما يُقِرُّ العُلَماءُ في مواضِعِ الاجتِهادِ التي يسوغُ فيها النِّزاعُ، وهذه الطَّريقةُ قد تغلِبُ على كثيرٍ مِن المُرجِئةِ وبعضِ المُتفقِّهةِ والمُتصوِّفةِ والمُتفلسِفةِ، كما تغلِبُ الأولى على كثيرٍ مِن أهلِ الأهواءِ والكلامِ، وكِلا هاتَينِ الطَّريقتَينِ مُنحرِفةٌ خارِجةٌ عن الكتابِ والسُّنَّةِ) [622] ((مجموع الفتاوى)) (12/467). .
وخُلاصةُ الأمرِ كما وضَّحها ابنُ تيميَّةَ؛ إذ قال عن المُرجِئةِ: (هؤلاء قصَّروا في النَّهيِ عن المُنكَرِ، وفي الأمرِ بكثيرٍ مِن المعروفِ) [623] ((مجموع الفتاوى)) (20/111). .

انظر أيضا: