موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّاني: الجَهْميَّةُ


الجَهْميَّةُ فِرقةٌ مِن غُلاةِ المُرجِئةِ، ينتسِبونَ إلى الجَهمِ بنِ صَفوانَ المقتولِ سنةَ 128هـ، وقد ظهرَت في أواخِرِ العَهدِ الأُمَويِّ، والجَهمُ بنُ صَفوانَ السَّمَرقَنديُّ هو تلميذُ الجَعدِ بنِ دِرهَمٍ الذي قتَله خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ سنةَ 124هـ بسببِ الزَّندَقةِ والإلحادِ.
قال عبدُ القاهِرِ البَغداديُّ عن جَهمٍ: (زعَم أيضًا أنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ باللهِ تعالى فقط، وأنَّ الكُفرَ هو الجَهلُ به فقط) [79] ((الفرق بين الفرق)) (1/199). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (كان ظُهورُ جَهمٍ ومقالتِه في تعطيلِ الصِّفاتِ وفي الجَبرِ والإرجاءِ في أواخِرِ دولةِ بَني أميَّةَ، بَعدَ حُدوثِ القَدَريَّةِ والمُعتزِلةِ وغَيرِهم) [80] ((مجموع الفتاوى)) (8/460). .
وقال الذَّهبيُّ في ترجمةِ الجَهمِ بنِ صَفوانَ: (المُتكلِّمُ الضَّالُّ، رأسُ الجَهْميَّةِ، وأساسُ البِدعةِ، كان ذا أدبٍ ونَظرٍ، وذكاءٍ وفِكرٍ وجِدالٍ ومِراءٍ، وكان الجَهمُ يُنكِرُ صِفاتِ الرِّبِّ عزَّ وجلَّ، ويُنزِّهُه بزَعمِه عن الصِّفاتِ كُلِّها، ويقولُ بخَلقِ القرآنِ، ويزعُمُ أنَّ اللهَ ليس على العرشِ، بل في كُلِّ مكانٍ، فقيل: كان يُبطِنُ الزَّندَقةَ، واللهُ أعلَمُ بحقيقتِه، قال أبو مُحمَّدِ بنُ حزمٍ: كان جَهمٌ يقولُ: إنَّ الإيمانَ عَقدٌ بالقلبِ، وإن كفَر بلِسانِه مِن غَيرِ تقيَّةٍ أو إكراهٍ، وإن عبَد الصَّليبَ والأوثانَ في الظَّاهِرِ، ومات على ذلك؛ فهو مُؤمِنٌ وليٌّ للهِ مِن أهلِ الجنَّةِ) [81] ((تاريخ الإسلام)) (3/ 389 - 392) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقال ابنُ القيِّمِ: (لمَّا كثُرَت الجَهْميَّةُ في أواخِرِ عَصرِ التَّابِعينَ كانوا هم أوَّلَ مَن عارَض الوَحيَ بالرَّأيِ، ومعَ هذا كانوا قليلينَ أوَّلًا، مقموعينَ مذمومينَ عندَ الأئمَّةِ، وأوَّلُهم شيخُهم الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ، وإنَّما نَفَق عندَ النَّاسِ بعضَ الشَّيءِ؛ لأنَّه كان مُعلِّمَ مَروانَ بنِ مُحمَّدٍ وشيخَه؛ ولهذا كان يُسمَّى مَروانَ الجَعْديَّ، وعلى رأسِه سلَب اللهُ بَني أميَّةَ المُلكَ والخلافةَ، وشتَّتهم في البلادِ، ومزَّقهم كُلَّ مُمزَّقٍ، ببركةِ شيخِ المُعطِّلةِ النُّفاةِ! فلمَّا اشتَهر أمرُه في المُسلِمينَ طلَبه خالِدُ بنُ عبدِ اللهِ القَسْريُّ، وكان أميرًا على العِراقِ، حتَّى ظفِرَ به، فخطَب النَّاسَ في يومِ الأضحى، وكان آخِرَ ما قال في خُطبتِه: أيُّها النَّاسُ، ضحُّوا، تقبَّل اللهُ ضحاياكم؛ فإنِّي مُضَحٍّ بالجَعدِ بنِ دِرهَمٍ؛ فإنَّه زعَم أنَّ اللهَ لم يُكلِّمْ موسى تكليمًا، ولم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الجَعدُ عُلوًّا كبيرًا، ثُمَّ نزَل، فذبَحه في أصلِ المِنبَرِ) [82] ((الصواعق المرسلة)) (3/ 1070). .
ومِن غُلاةِ الجَهْميَّةِ: بِشرُ بنُ غِياثٍ المِرِّيسيُّ المُتوفَّى سنةَ 218هـ.
قال الغَزِّيُّ في ترجمتِه: (أخَذ الفِقهَ عن أبي يوسُفَ القاضي، واشتغَل بالكلامِ، وحُكِي عنه أقوالٌ شنيعةٌ، ومذاهِبُ مُستنكَرةٌ، أساء أهلُ العِلمِ قولَهم فيه بسببِها، وكفَّره أكثَرُهم لأجْلِها؛ فإنَّه كان سيِّئةً مِن سيِّئاتِ الزَّمانِ، ونِقمةً مِن نِقَمِ الحَدَثانِ، والمشهورُ أنَّه كان غَيرَ مُتقيِّدٍ بدينٍ ولا مَذهَبٍ، قال في الجواهِرِ: أخَذ الفِقهَ عن أبي يوسُفَ، برَع فيه، ونظَر في الكلامِ والفلسفةِ، وقال الصَّيمَريُّ: بِشرُ بنُ غِياثٍ المِرِّيسيُّ، له تصانيفُ ورواياتٌ كثيرةٌ عن أبي يوسُفَ، وكان مِن أهلِ الوَرَعِ والزُّهدِ، غَيرَ أنَّه رغِب النَّاسُ عنه في ذلك الزَّمانِ لاشتِهارِه بعِلمِ الكلامِ، وكان أبو يوسُفَ يذُمُّه...، وقال العِجْليُّ: رأَيتُ بِشرًا المِرِّيسيَّ -عليه لعنةُ اللهِ- مرَّةً واحِدةً، شيخًا قصيرًا، ذميمَ المَنظَرِ، وسِخَ الثِّيابِ، وافِرَ الشَّعرِ، أشبَهَ شيءٍ باليهودِ، وكان أبوه يهوديًّا صبَّاغًا بالكوفةِ، ثُمَّ قال: لا رحِمه اللهُ؛ فقد كان فاسِقًا، وكان أبو زُرْعةَ الرَّازيُّ يقولُ: بِشرٌ المِرِّيسيُّ زِنديقٌ، وكان يَزيدُ بنُ هارونَ يُحرِّضُ أهلَ بَغدادَ على قَتلِ بِشرٍ المِرِّيسيِّ) [83] ((الطبقات السنية في تراجم الحنفية)) (2/ 230 - 235) باختصارٍ وتصرُّفٍ. .
وقد بيَّن كثيرًا مِن ضَلالاتِ المِرِّيسيِّ الحافِظُ عُثمانُ الدَّارِميُّ في كتابِه المشهورِ باسمِ: نَقضُ الإمامِ أبي سعيدٍ عُثمانَ بنِ سعيدٍ على المِرِّيسيِّ الجَهْميِّ العنيدِ فيما افترى على اللهِ عزَّ وجلَّ مِن التَّوحيدِ.

انظر أيضا: