موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: وُجودُ الجنَّةِ والنَّارِ قَبلَ يومِ القيامةِ


نسَبَ العُلَماءُ إلى الخَوارِجِ القَولَ بإنكارِ وُجودِ الجنَّةِ والنَّارِ قَبلَ يومِ القيامةِ.
قال ابنُ حزمٍ: (ذهَبَت طائفةٌ من المُعتَزِلةِ والخَوارِجِ إلى أنَّ الجنَّةَ والنَّارَ لم يُخلَقَا بَعْدُ). وقال عن أدِلَّتِهم على دَعواهم هذه: (وما نَعلَمُ لِمن قال: إنَّهما لم يُخلَقَا بَعدُ، حُجَّةً أصلًا أكَثَر من أنَّ بَعضَهم قال: قد صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: وذَكَر أشياءَ من أعمالِ البِرِّ مَن عَمِلَها غُرِس له في الجنَّةِ كذا وكذا شَجَرةً، ويقولُ اللهُ تعالى حاكيًا عن امرأةِ فِرعَونَ: إنَّها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11] . قالوا: ولو كانت مخلوقةً لم يكُنْ في الدُّعاءِ في استِئنافِ البناءِ والغَرسِ مَعنًى) [372] ((الفصل)) (4/81). .
والحَقُّ أنَّ الجنَّةَ والنَّارَ موجودتانِ الآنَ، وقد أُعِدَّت كُلٌّ منهما لأهلِها كما تُقَرِّرُه الآياتُ البَيِّناتُ والأحاديثُ الصَّحيحةُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا هو مذهَبُ جُمهورِ المُسلِمين كما حكاه ابنُ حَزمٍ [373] يُنظر: ((الفصل)) (4/81). .
وأمَّا ما احتَجَّ به المُنكِرون سابقًا من أنَّ الجنَّةَ لو كانت موجودةً الآنَ لَما ذُكِر في الأحاديثِ أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ يُغرَسُ بها لصاحِبِها شَجَرٌ في الجنَّةِ، فهو قولٌ غيرُ صحيحٍ؛ إذ إنَّ البيتَ الجميلَ المتكامِلَ البناءِ والحَسَنَ لا يمنَعُ أن يزدادَ فيه من أنواعِ التَّحسيناتِ والنُّقوشِ والزَّخرفةِ ما يَزيدُه جمالًا وحُسنًا.
وأمَّا الأدِلَّةُ على وجودِهما الآنَ فهي كثيرةٌ جِدًّا من الكتابِ والسُّنَّةِ، وقد ذكر العُلَماءُ كثيرًا من تلك الأدِلَّةِ، ومن ذلك قولُ اللهِ تعالى عن الجنَّةِ: إنَّها أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ، وعن النَّار: إنَّها أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وقَولُه تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13 - 15] .
ومن الأحاديثِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديثِ الإسراءِ والمِعراجِ: ((ثمَّ انطَلَق بي جبريلُ حتَّى نأتيَ سِدرةَ المُنتَهى، فغَشِيها ألوانٌ لا أدري ما هي، قال: ثُمَّ أُدخِلتُ الجنَّةَ فإذا فيها جَنابِذُ اللُّؤلُؤِ، وإذا تُرابُها المِسْكِ!)) [374] أخرجه البخاري (3342)، ومسلم (163) واللَّفظُ له من حديثِ أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومنها قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إن كان من أهلِ الجنَّةِ فمِن أهلِ الجنَّةِ، وإن كان من أهلِ النَّارِ فمِن أهلِ النَّارِ، يقالُ: هذا مَقعَدُك حتَّى يَبعَثَك اللهُ يومَ القيامةِ )) [375] أخرجه البخاري (1379) واللَّفظُ له، ومسلم (2866) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقد أخبر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه رأى الجنَّةَ وتناوَل منها عُنقودًا، وقال لهم: ((ولو أخَذْتُه لأكَلْتُم منه ما بَقِيت الدُّنيا )) [376] أخرجه البخاري (748)، ومسلم (907) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اطَّلَعتُ في الجنَّةِ فرأيتُ أكثَرَ أهلِها الفُقَراءَ، واطَّلَعتُ في النَّارِ فرأَيتُ أكثَرَ أهلِها النِّساءَ )) [377] أخرجه البخاري (3241) واللَّفظُ له، ومسلم (2738) بنحوِه. .
وفي حديثٍ آخَرَ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أبرِدوا بالصَّلاةِ؛ فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيحِ جَهنَّمَ )) [378] أخرجه البخاري (3259). .
إلى آخرِ ما وردَ من الأحاديثِ في هذا البابِ، وهي تَدحَضُ رأيَ القائِلينَ بعَدَمِ وُجودِ الجنَّةِ والنَّارِ الآنَ، كالخَوارِجِ ومَن قال بقَولِهم من المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ.

انظر أيضا: