موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: الشَّفاعةُ


تناوَل أصحابُ المقالاتِ والفِرَقِ رأيَ الخَوارِجِ في الشَّفاعةِ، وذكَروا أنَّه قد أنكر مُعظَمُ الخَوارِجِ ما ورد عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ثُبوتِ الشَّفاعةِ في أهلِ المعاصي من أمَّتِه، كما ورَدَت بذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ المُتواتِرةُ.
قال ابنُ حزمٍ: (اختلف النَّاسُ في الشَّفاعةِ؛ فأنكرها قومٌ وهم المُعتَزِلةُ والخَوارِجُ وكُلُّ مَن تَبِع؛ ألَّا يخرُجَ أحدٌ من النَّارِ بَعدَ دُخولِها) [386] ((الفصل)) (4/63). .
وقال ابنُ تيميَّة: (وأمَّا الوَعيديَّةُ من الخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ فزعَموا أنَّ شفاعتَه إنَّما هي للمُؤمِنين خاصَّةً في رَفعِ الدَّرَجاتِ، ومنهم من أنكَر الشَّفاعةَ مُطلَقًا)، وقال أيضًا: (وعند الخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ أنَّه لا يُشفَعُ لأهلِ الكبائِرِ؛ لأنَّ الكبائِرَ لا تُغفَرُ، ولا يَخرُجون من النَّارِ بَعدَ أن يدخُلوها لا بشفاعةٍ ولا بغيرِها) [387] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/10- 11). ويُنظر: ((التوسل والوسيلة)) (ص: 131). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (والمُعتَزِلةُ والخَوارِجُ أنكروا شفاعةَ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغيرِه في أهلِ الكبائِرِ) [388] ((شرح الطحاوية)) (ص: 181). .
وقال المَرداويُّ: (شفاعةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نوعٌ من السَّمعيَّاتِ قد وردت بها الآثارُ حتَّى بلغَت مبلَغَ التَّواتُرِ المعنويِّ، وانعقد عليها إجماعُ أهلِ الحَقِّ، قَبلَ ظهورِ الخَوارِجِ الذين يُنكِرون الشَّفاعةَ) [389] ((اللآلي البهية)) (ص: 94). .
وقد استند الخَوارِجُ في نفيِهم الشَّفاعةَ إلى آياتٍ من القرآنِ الكريمِ أخذوها على ظاهِرِها، وقَصَروا معناها على ما يُريدون من حُكمٍ، غيرَ مُلتَفِتين إلى غيرِها من الآياتِ والأحاديثِ التي أثبَتَت الشَّفاعةَ، ومن هذه الأدِلَّةِ التي استَنَدوا إليها في نفيِ الشَّفاعةِ:
قَولُ اللهِ تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] ، وقَولُ اللهِ تعالى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [الشعراء: 100] ، وقَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 254] ، وأمثالُ هذه الآياتِ التي يدُلُّ ظاهِرُها على إبطالِ الشَّفاعةِ عُمومًا [390] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/63)، ((التوسل والوسيلة)) (ص: 11)، ((مجموع الفتاوى)) (1/116) كلاهما لابن تيميَّة. .
أمَّا الإباضيَّةُ فإنَّهم يُثبِتونها ولكِنْ لغَيرِ العُصاةِ بل للمُتَّقينَ.
قال صاحِبُ كتابِ الأديانِ منهم: (الشَّفاعةُ حَقٌّ للمتَّقينَ، وليست للعاصِينَ) [391] ((الأديان)) (ص: 53). .
وقال السَّالميُّ:
وما الشَّفاعةُ إلَّا للتَّقِيِّ كما
قد قال رَبُّ العُلا فيها وقد فَصلَا [392] ((غايَة المراد)) (ص: 9). .
قال الخليليُّ عن الشَّفاعةِ في شَرحِه لهذا النَّظْمِ: (هي للنَّبيِّينَ، وقد تكونُ لغيرِهم كالشُّهَداءِ، ولكِنَّ الشَّفاعةَ العامَّةَ هي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَحدَه؛ فإنَّه يَشفَعُ إلى اللهِ في الموقِفِ العظيمِ بأن يُعَجِّلَ لعبادِه الفَرَجَ فيُدخِلَ المؤمِنين الجنَّةَ، وليست الشَّفاعةُ لمن أصرَّ على فُجورِه ومات على ضلالِه، وإنَّما هي للتَّائِبِ من ذنبِه، وهو المرادُ بالتَّقيِّ في كلامِ المصنِّفِ) [393]  ((شرح غاية المراد)) (ص: 107- 108). .
وممَّا استشهد به الرَّبيعُ بنُ حبيبٍ لهذا الرَّأيِ في مُسنَدِه ما رواه عن جابِرِ بنِ زَيدٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((ليست الشَّفاعةُ لأهلِ الكبائِرِ من أمَّتي )) [394] أخرجه الربيع بن حبيب في ((المسند)) (1004). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (5964): باطلٌ، وقال الوادعي في ((الشفاعة)) (123): موضوعٌ باطِلٌ. ، يحلِفُ جابِرُ بنُ زيدٍ عِندَ ذلك: (ما لأهلِ الكبائِرِ شَفاعةٌ؛ لأنَّ اللهَ قد أوعَدَ أهلَ الكبائِرِ النَّارَ في كتابِه، وإن جاء الحديثُ عن أنسِ بنِ مالكٍ أنَّ الشَّفاعةَ لأهلِ الكبائِرِ فواللهِ ما عنى القَتْلَ والزِّنا والسِّحرَ، وما أوعَدَ اللهُ عليه النَّارَ) [395] أخرجه الربيع بن حبيب في ((المسند)) (1004). قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) ( 6302/م) باطلٌ، لا أصلَ له عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وحديثُ أنس بن مالك ((أن الشفاعة لأهل الكبائر)). أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (4739)، والترمذيُّ (2435)، وأحمد (13222) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (6468)، والحاكِمُ على شرطِ الشَّيخَينِ في ((المستدرك)) (228)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4739)، وقال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجهِ. . ويقولُ الرَّبيعُ أيضًا: ((حتَّى بلَغَنا أنَّ الشَّهيدَ يشفَعُ في سبعينَ من أهلِ بَيتِه إذا كانوا مُؤمِنينَ متَّقينَ )) [396] لم نَقِفْ عليه بتمامِه فيما لدينا من كتُبٍ مُسنَدةٍ. وذكره الرَّبيعُ بنُ حَبيبٍ في ((المسند)) (ص381). ولفظُه: ((الشَّهيدُ يَشفَعُ في سبعينَ من أهلِ بيتِه)). أخرجه أبو داود (2522)، وابن حبان (4660) واللَّفظُ له، والبيهقي (18997) من حديثِ أبي الدرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حِبان، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (4/338)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2522)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2522). .
وهذا ما قرَّره الحارثيُّ أيضًا في نفيِ الشَّفاعةِ في كتابِه (العقودُ الفِضِّيَّةُ) [397] يُنظر: (ص: 286). .
والواقِعُ أنَّ الآياتِ التي استدَلَّ بها الخَوارِجُ على نفيِ الشَّفاعةِ إنَّما تدُلُّ على نفيِ الشَّفاعةِ عن أهلِ الشِّرْكِ، أو نفيِ الشَّفاعةِ التي يُثبِتُها الكُفَّارُ لشُرَكائِهم من الأصنامِ، أو نفيِ الشَّفاعةِ التي تكونُ بغيرِ إذنِ اللهِ ورِضاه [398] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (ص: 128). ، كما تدُلُّ على ذلك ظواهِرُ الآياتِ.
وأمَّا ما ورد في مُسنَدِ الرَّبيعِ بنِ حَبيبٍ فهو خالٍ من السَّنَدِ الصَّحيحِ ومُعارَضٌ بما ورد في الصَّحيحَينِ من الأحاديثِ التي تُثبِتُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنواعَ الشَّفاعاتِ المختَلِفةِ، ومن ذلك قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يخرُجُ قومٌ من النَّارِ بَعدَ ما مَسَّهم منها سَفعٌ، فيَدخُلون الجنَّةَ فيُسَمِّيهم أهلُ الجنَّةِ الجَهَنَّميِّينَ )) [399] أخرجه البخاري (6559) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ نبيٍّ دَعوةٌ مُستجابةٌ، فتَعَجَّل كُلُّ نَبيٍّ دَعوتُه، وإنِّي اختبَأْتُ دعوتي شفاعةً لأمَّتي يومَ القيامةِ، فهي نائِلةٌ -إن شاء اللهُ- من مات من أمَّتي لا يُشرِكُ باللهِ شَيئًا )) [400] رواه مُسلِم (199). .
والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ، والإيمانُ بثُبوتِ الشَّفاعةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بناءً على ما صَحَّ فيها من الأحاديثِ هو إجماعُ الأمَّةِ، وهو مَذهَبُ السَّلَفِ الصَّالحِ رَضيَ اللهُ عنهم جميعًا.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أجمع المُسلِمون على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشفَعُ للخَلقِ يومَ القيامةِ بَعدَ أن يَسألَ النَّاسُ ذلك، وبَعدَ أن يأذَنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ). وقال أيضًا: (والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُستَشفَعُ به إلى اللهِ، أي: يُطلَبُ منه أن يَسأَلَ رَبَّه الشَّفاعةَ في الخَلقِ أن يقضِيَ اللهُ بَينَهم، وفي أن يُدخِلَهم الجنَّةَ، ويَشفَعُ في أهلِ الكبائِرِ من أمَّتِه، ويشفَعُ في بعضِ مَن يَستَحِقُّ النَّارَ ألَّا يَدخُلَها، ويشفَعُ فيمن دخَلها أن يخرُجَ منها، ولا نِزاعَ بَينَ جماهيرِ الأمَّةِ أنَّه يجوزُ أن يشفَعَ لأهلِ الطَّاعةِ المُستَحِقِّين للثَّوابِ)، وقال أيضًا: (وذهب أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أن يُشفَعَ في أهلِ الكبائِرِ، ولا يُخلَّدُ أحَدٌ في النَّارِ من أهلِ الإيمانِ، بل يخرُجُ من النَّارِ مَن في قَلبِه حبَّةُ إيمانٍ أو مِثقالُ ذَرَّةٍ) [401] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (1/10- 11)، ((التوسل والوسيلة)) (ص: 11 - 131)، ((مجموع الفتاوى)) (1/116). .

انظر أيضا: