موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: الخَوارِجُ بَينَ العَقلِ والشَّرعِ في التَّحسينِ والتَّقبيحِ


للعُلَماءِ اتِّجاهانِ في تحديدِ مَوقِفِ الخَوارِجِ من العَقلِ:
الاتِّجاهُ الأوَّلُ: أنَّ الخَوارِجَ يَرَونَ قُدرةَ العَقلِ على إدراكِ المَعرِفةِ بنَفسِه مُستَقِلًّا عن السَّمعِ، وأنَّ السَّمعَ إنَّما يأتي مُصَدِّقًا لأحكامِه.
وبناءً على هذا الاتِّجاهِ يَصِحُّ وَصْفُ الخَوارِجِ بأنَّهم عَقلانيُّون؛ لأنَّهم قَدَّموا العقلَ في كثيرٍ من القضايا مُدَّعين أنَّه يستطيعُ أن يَصِلَ إلى معرفةِ الأشياءِ الحَسَنةِ والأشياءِ القبيحةِ بنَفسِه، وأنَّ العَدلَ ما يقتَضيه العَقلُ، وهذا هو مَذهَبُ المُعتَزِلةِ.
وفي هذا يَذكُرُ الشَّيخُ المُفيدُ [257] هو محمَّدُ بنُ محمَّدِ بنِ النُّعمانِ البغداديُّ، عالمٌ رافضيٌّ يُعرَفُ بابنِ المعَلِّمِ، صاحِبُ تصانيفَ وبحوثٍ وكلامٍ، واعتزالٍ. تُوفِّي سنةَ 413هـ. يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (17/ 344). أنَّ المُعتَزِلةَ والخَوارِجَ والزَّيديَّةَ مُتَّفِقون في هذا الاعتقادِ، أي: القَولِ باستِطاعةِ العَقلِ مَعرِفةَ الواجِباتِ الشَّرعيَّةِ دونَ السَّمعِ، فقال الشَّيخُ المفيدُ في هذا: (أمَّا المُعتَزِلةُ والخَوارِجُ والزَّيديَّةُ فعلى خِلافِ ذلك؛ أجمعوا وزعَموا أنَّ العُقولَ تعمَلُ بمجَرَّدِها عن السَّمعِ) [258] يُنظر: ((آراء الخوارج الكلامية)) للطالبي (ص: 165). .
وقد ظهر تمسُّكُ الخَوارِجِ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العَقليَّينِ في أكثَرِ أمورِهم التي ادَّعَوا أنَّ العقلَ يُدرِكُ حقيقتَها دونَ الرُّجوعِ إلى الحُكمِ الشَّرعيِّ فيها لتصحيحِ الحُكمِ بحُسنِها أو قُبحِها، بل العقلُ يُدرِكُ في كُلِّ خَصلةٍ مدى قُبحِها أو حُسنِها، بما في الفِعلِ من خاصيَّةٍ يُدرِكُ العَقلُ حينَ وُرودِها عليه الحُكمَ فيها، والشَّرعُ حينَ يَحكُمُ فيها بحُكمٍ إنَّما يأتي كمُخبِرٍ عنه، وليس مُثبِتًا للحُكمِ فيها.
وفي هذا قال الشَّهْرَسْتانيُّ بَعدَ أن ذَكَر بَعضَ الفِرَقِ التي اتَّفَقت في الاعتقادِ في هذا البابِ، وهم الثَّنَويَّةُ والتَّناسُخيَّةُ والبَراهِمةُ والخَوارِجُ والكَرَّاميَّةُ والمُعتَزِلةُ... إلخ، اتَّفق هؤلاء كُلُّهم فيما يَذكُرُ: (فصاروا إلى أنَّ العَقلَ يُستدَلُّ به على حُسنِ الأفعالِ وقُبحِها، على معنى أنَّه يجِبُ على اللهِ الثَّوابُ والثَّناءُ على الفِعلِ الحَسَنِ، ويجِبُ عليه المَلامُ والعقابُ على الفِعلِ القبيحِ، والأفعالُ على صِفةٍ نَفسيَّةٍ من الحَسَنِ والقَبيحِ، وإذا ورد الشَّرعُ بها كان مُخبِرًا عنها لا مثبِتًا لها) [259] ((نهاية الأقدام)) (ص: 370- 371). .
بينما الأمرُ عِندَ غَيرِهم (أنَّ العَقلَ لا يدُلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وقُبحِه في حُكمِ التَّكليفِ من اللهِ شَرعًا) [260] ((نهاية الأقدام)) (ص: 370 - 371). .
وقد اعتَبَر ابنُ الجوزيِّ الخَوارِجَ أوَّلَ من نادى بتحسينِ العقلِ وتقبيحِه، أي: قَبلَ ظُهورِ المُعتَزِلةِ، وما المُعتَزِلةُ عِندَه إلَّا آخِذةٌ عن الخَوارِجِ هذا الأصلَ ومُقَلِّدةٌ لهم، وقال في ذلك: (مِن رأيِ هؤلاء يعني الخَوارِجَ أحدَث المُعتَزِلةُ في التَّحسينِ والتَّقبيحِ إلى العَقلِ، وأنَّ العَدلَ ما يَقتَضيه) [261] ((تلبيس إبليس)) (ص: 96). .
وقال عنهم عُثمانُ بنُ عَبدِ العزيزِ الحَنبليُّ في (مَنهَج المعارِج): (ومن رأيِهم أخذت المُعتَزِلةُ التَّحسينَ والتَّقبيحَ بالعَقلِ، وضَربَ الأمثالِ به، وأنَّ العَدلَ ما يقتَضيه) [262] نقلًا عن ((آراء الخوارج)) للطالبي (ص: 117). .
وهناك فِرقةٌ من الخَوارِجِ -وهي (الأطرافيَّةُ)- تزعُمُ أنَّ العقلَ يَعرِفُ الواجباتِ العقليَّةَ، وأنَّه يَعرِفُ به أيضًا الواجِباتِ الدِّينيَّةَ؛ ولهذا فقد رأَوا أنَّ أهلَ الأطرافِ النَّائيةِ من البُلدانِ مَعذورون فيما لم يَعرِفوا عن الشَّرعِ نَصًّا في أمرٍ من الأمورِ إذا عَمِلوا ما يُقِرُّه العَقلُ.
قال الشَّهْرَسْتانيُّ عن هذه الفِرقةِ: إنَّهم (عَذَروا أصحابَ الأطرافِ في تَركِ ما لم يَعرِفوه من الشَّريعةِ إذا أتَوا بما يُعرَفُ لزومُه من طريقِ العَقلِ، وأثبَتوا واجباتٍ عقليَّةً) [263] ((الملل والنحل)) (1/ 130). ، وقد وصف الشَّهْرَسْتانيُّ كذلك المُحَكِّمةَ الأولى بأنَّهم من (أشَدِّ النَّاسِ قَولًا بالقياسِ) [264] ((الملل والنحل)) (1/ 116). ، والقياسُ: استعمالٌ للعقلِ في تعديةِ الحُكمِ، وإن كان قائمًا على أساسٍ من النَّصِّ الشَّرعيِّ.
بل أسند الشَّهْرَسْتانيُّ إلى ذي الخُوَيصِرةِ -الذي يعتَبِرُه زعيمَ الخَوارِجِ الأوَّلَ- القولَ بالتَّحسينِ والتَّقبيحِ العَقليَّينِ؛ حيثُ قال: (وذلك -يعني به قولَ ذي الخُوَيصِرةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (هذه قِسمةٌ ما أُريدَ بها وَجهُ اللهِ!) [265] أخرجه البخاري (3405)، ومُسلِم (1062) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه دونَ ذِكرِ اسمِ ذي الخُوَيصِرةِ. وجاء اسمُ ذي الخُوَيصِرةِ في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (بينما نحن عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَقسِمُ قَسْمًا أتاه ذو الخُوَيصِرةِ -وهو رجلٌ من بني تميمٍ- فقال: يا رسولَ اللهِ، اعدِلْ. فقال: وَيْلَكَ! ومن يعدِلُ إذا لم أعدِلْ؟! قد خِبتَ وخَسِرتَ إنْ لم أكنْ أعدِلُ) أخرجه البخاري (3610) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1064). - خُروجٌ صريحٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو صار من اعتَرَض على الإمامِ الحَقِّ خارِجيًّا، فمَن اعترض على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَقُّ بأن يكونَ خارِجيًّا، أوَليس قولًا بتحسينِ العقلِ وتقبيحِه، وحُكمًا بالهوى في مقابَلةِ النَّصِّ، واستكبارًا على الأمرِ بقياسِ العَقلِ؟) [266] ((الملل والنحل)) (1/21). .
الاتِّجاهُ الثَّاني: أنَّ الخَوارِجَ لا ترى للعَقلِ أيَّ مِيزةٍ في الحُكمِ على الأفعالِ من حَسَنٍ وقبيحٍ.
وهذا الرَّأيُ قال به أحمدُ الصَّابونيُّ الماتُريديُّ فيما يرويه عنه الطَّالِبيُّ بقَولِه: (يزعُمُ أنَّ الخَوارِجَ المُحَكِّمةَ يَرَونَ مع الملاحِدةِ والرَّوافِضِ والمُشَبِّهةِ أنَّ العقلَ لا يُعرَفُ به شيءٌ، ولا يوجِبُ شيئًا من الأحكامِ العقليَّةِ أو الشَّرعيَّةِ، لا على الأفعالِ ولا على الأشياءِ)، وقد اعتبَرَ الطَّالبيُّ رأيَ أحمدَ الصَّابونيِّ خبرًا منفَرِدًا خاصَّةً أنَّه لم يُبَيِّنْ سَنَدَه ولا مصدَرَه، بخلافِ من تقدَّم النَّقلُ عنهم، وهم القائِلون بعقلانيَّةِ الخَوارِجِ؛ فإنَّهم أَولى عِندَه بقَبولِ قَولِهم منه لكثرةِ اطِّلاعِهم على آراءِ الخَوارِجِ [267] يُنظر: ((آراء الخوارج)) للطالبي (ص: 168). ويُنظر: ((البداية)) للصابوني (ص: 168). .
وما قاله الصَّابونيُّ هنا عن الخَوارِجِ يتَّفِقُ مع ما ذكَره الأشعَريُّ عن حاكٍ لم يُعَيِّنِ اسمَه، حكى عن الخَوارِجِ أنَّهم لا يَرَونَ على النَّاسِ فَرضًا ما لم تأتِهم الرُّسُلُ، وأنَّ الفرائِضَ تلزَمُ بالرُّسُلِ، واعتلُّوا بقولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] [268] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/206). .
ولعلَّه بَعدَ عرضِ هذينِ الاتِّجاهينِ في تحديدِ مَوقِفِ الخَوارِجِ بَينَ العقلِ والنَّقلِ فيما يتعلَّقُ بالمعرفةِ وإدراكِ حُسنِ الأفعالِ وقُبحِها، يتبيَّنُ أنَّ الاتجاهَ الأوَّلَ -وهو القولُ بأنَّ الخَوارِجَ عقليُّون- قد تضافَرت على توثيقِه وشَرحِه أقوالُ كثيرٍ من العُلَماءِ، ولم تتوافَرْ للاتِّجاهِ الثَّاني، وهناك احتمالٌ آخَرُ، وهو أنَّ الخَوارِجَ مختَلِفون في هذا؛ فمنهم من يقدِّمُ العقلَ، ومنهم من يقدِّمُ السَّمعَ.
وإذا وُضِع الاتِّجاهُ العَقليُّ في ميزانِ الإسلامِ؛ فالواجِبُ أن يُقالَ: إنَّ (ما أخبَرَت به الرُّسُلُ من تفاصيلِ اليومِ الآخِرِ وأمَرَت به من تفاصيلِ الشَّرائِعِ، لا يَعلَمُه النَّاسُ بعقولِهم، كما أنَّ ما أخبَرَت به الرُّسُلُ من تفصيلِ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه لا يَعلَمُه النَّاسُ بعُقولِهم، وإن كانوا قد يَعلَمون بعقولِهم جُمَلَ ذلك) [269] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/115). .
ويجِبُ أن يَعتَقِدَ كُلُّ مُسلِمٍ أنْ لا حُسنَ ولا قُبحَ ولا عَقلَ في مُقابَلةِ الشَّرعِ؛ فإذا صَحَّ النَّصُّ عن اللهِ تعالى، أو عن رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وَجَب التَّسليمُ له دونَ مُعارَضتِه بأيِّ نوعٍ من المعارَضةِ؛ فإنَّ معارضةَ العقلِ للنَّقلِ خَطَأٌ واضِحٌ مَعلومُ الفَسادِ [270] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن الموصلي (ص: 84). .

انظر أيضا: