موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّاني: نماذِجُ من كِتاباتِ المَدرَسةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ


لا يحتاجُ القارئُ لمُؤَلَّفاتِ ومقالاتِ المُعتَزِلةِ المُعاصِرين إلى كبيرِ عَناءٍ في العُثورِ على الشَّواهِدِ لموقِفِهم من القرآنِ الكريمِ، الذي تجاوزَ موقِفَ المُعتَزِلةِ القُدامى، وقد اتَّخَذ هذا الموقِفُ أساليبَ مُتَعدِّدةً يَفرِضُها عليهم سُلطانُ الزَّمانِ تارةً، وسُلطانُ المكانِ أُخرى، ومن هذه الأساليبِ: تفسيرُ نُصوصِ القرآنِ تفسيرًا عَقلانيًّا مخالِفًا للُّغةِ والشَّرعِ.
لقد سلك المُعتَزِلةُ المُعاصِرون في تفسيرِ القرآنِ الكريمِ مَسلكًا يتَّسِمُ بفَهمِ النَّصِّ القرآنيِّ من خلالِ معارِفِهم وتجارِبِهم الذَّاتيَّةِ؛ لأنَّهم كانوا يزعُمون أنَّه لا يمكِنُ الاعتمادُ على فهمِه من خلالِ التَّفاسيرِ القديمةِ التي اشتمَلَت على كثيرٍ من الخُرافاتِ، كما يَزعُمون!
قال محمَّد شَحرور: (إنَّنا في القرآنِ والسَّبعِ المثاني غيرُ مُقَيَّدينَ بأيِّ شيءٍ قاله السَّلَفُ. إنَّنا مُقَيَّدون فقط بقواعِدِ البحثِ العِلميِّ، والتَّفكيرِ العِلميِّ، وبالأرضيَّةِ العِلميَّةِ في عصرِنا) [1705] ((الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)) (ص: 91). !
وقال جمال البَنَّا: (إنَّ الرُّجوعَ إلى هذه التَّفاسيرِ كان من أسبابِ تخَلُّفِ المُسلِمين؛ لأنَّها قدَّمَت صورةً مُشَوَّهةً للقرآنِ الكريمِ... تَنقيَتُها لن تُبقيَ إلَّا على العُشرِ ممَّا فيها) [1706] يُنظر: ((تجديد الإسلام وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية)) (ص: 233). !
وقاموا بتفسيرِ نصوصِ القرآنِ تفسيرًا عقليًّا بحتًا. ومن ذلك:
تفسيرُ محمَّد عَبدُه قَولَ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 1-5] ، فقد قال: (الطَّيرُ هو ما يطيرُ في الهواءِ سواءٌ كان صغيرًا أو كبيرًا، وسواءٌ كان مرئيًّا أم غيرَ مَرئيٍّ. إلى أن قال-: فيجوزُ لك أن تعتَقِدَ أنَّ هذا الطَّيرَ من جنسِ البَعوضِ، أو الذُّبابِ الذي يحمِلُ جراثيمَ بعضِ الأمراضِ، وأن تكونَ هذه الحِجارةُ من الطِّينِ المسمومِ اليابِسِ الذي تحمِلُه الرِّياحُ، فيَعلَقُ بأرجُلِ هذه الحيواناتِ) [1707] ((تفسير جزء عمّ)) (ص: 155- 156).
وقال محمَّد شَلتوت: (ليس في القرآنِ الكريمِ ولا في السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ مُستَنَدٌ يَصلُحُ لتكوينِ عقيدةٍ يَطمَئِنُّ إليها القَلبُ بأنَّ عيسى رُفِع بجِسمِه إلى السَّماءِ، وأنَّه حيٌّ إلى الآنَ فيها، وأنَّه سيَنزِلُ آخِرَ الزَّمانِ إلى الأرضِ) [1708] ((مجلة الرسالة)) العدد: 462، بتاريخ 11/5/1942م. !
ومن هؤلاء طنطاوي جوهري الذي أخذ بمبادئِ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ، وسار على نهجِها في تفسيرِه، وهو من المتأثِّرين كثيرًا بمحمَّد عَبدُه، بل كان من تلاميذِه، وقد توسَّع في تفسيرِه، وأطال فيه وذهب يملؤُه بكُلِّ ما توصَّل إليه العِلمُ مِن مُكتَشَفاتٍ، حتَّى قال عنه بعضُهم ما قيل في تفسيرِ الرَّازيِّ: "فيه كُلُّ شَيءٍ إلَّا التَّفسيرُ"! وقال محمَّد حُسَين الذَّهبيُّ: (بل هو أحَقُّ من تفسيرِ الفَخرِ بهذا الوَصفِ وأَولى به) [1709] ((التفسير والمفسرون)) (3/183). .
والنَّاظرُ إلى تفسيرِه يَجدُهُ يُحَمِّلُ الآياتِ ما لا تحتَمِلُه، ويُدخِلُ في تفسيرِها من المكتَشَفاتِ العِلميَّةِ ما لم تُشِرْ إليه، ويُبَرِّرُ هذا بأعذارٍ واهيةٍ لا تقومُ له بها حُجَّةٌ.
فمَثَلًا قال في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] الآيات: (وأمَّا عِلمُ تحضيرِ الأرواحِ فإنَّه من هذه الآيةِ استِخراجُه، إنَّ هذه الآيةَ تُتلى والمُسلِمون يُؤمِنون بها حتى ظَهَر عِلمُ تحضيرِ الأرواحِ بأمريكا أوَّلًا، ثمَّ بسائِرِ أُوروبَّا ثانيًا) [1710] ((الجواهر في تفسير القرآن الكريم)) (1/84). !
وقال أيضًا: (لَمَّا كانت السُّورةُ التي نحن بصَدَدِها قد جاء فيها حياةُ العُزَيرِ بَعدَ مَوتِه، وكذلك حِمارُه، ومسألةُ الطَّيرِ وإبراهيمَ الخليلِ، ومسألةُ الذين خَرَجوا من ديارِهم فِرارًا من الطَّاعونِ فماتوا ثمَّ أحياهم، وعَلِمَ اللهُ أنَّنا نَعجِزُ عن ذلك؛ جَعَل قَبلَ ذِكرِ تلك الثَّلاثةِ في السُّورةِ ما يَرمُزُ إلى استحضارِ الأرواحِ في مسألةِ البَقَرةِ، كأنَّه يقولُ: إذا قرَأتُم ما جاء عن بني إسرائيلَ في إحياءِ الموتى في هذه السُّورةِ عِندَ أواخِرِها، فلا تيأَسوا من ذلك؛ فإنِّي قد بدَأتُ بذِكرِ استحضارِ الأرواحِ فاستَحضِروها بطُرُقِها المعروفةِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الأنبياء: 7] ، ولكِنْ لِيَكُنِ المُحضِرُ ذا قَلبٍ نَقيٍّ خالِصٍ، على قَدَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين، كالعُزَيرِ، وإبراهيمَ، وموسى؛ فهؤلاء لخُلوصِ قُلوبِهم وعُلُوِّ نُفوسِهم أريتُهم بالمعايَنةِ ليَطمَئِنُّوا، وأنا أمرتُ نبيَّكم أن يقتدِيَ بهم، فقُلتُ: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ) [1711] ((الجواهر في تفسير القرآن الكريم)) (1/89). !
ولكِنَّ الذي تأثَّر بمَنهَجِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ أكثَرَ من هذا هو صاحِبُ تفسيرِ (الهدِايةُ والعِرفان في تفسيرِ القُرآنِ بالقُرآن)، وهو أبو زيدٍ الدَّمَنْهوريُّ، وقد أحدث هذا الكتابُ ضَجَّةً كُبرى في المحيطِ العِلميِّ، وثورةً ساخِطةً من شُيوخِ الأزهَرِ على مُؤَلِّفِه، وانتهى الأمرُ بمُصادَرةِ الكتابِ والحُكمِ على صاحِبِه بالزَّيغِ والضَّلالِ [1712] يُنظر: ((الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم)) للذهبي (ص: 94). .
ولعَلَّه من المناسِبِ هنا الإشارةُ إلى أهَمِّ ما ذهَب إليه في تفسيرِه:
1- إنكارُه لمُعجِزاتِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ:
قال: (إنَّ آيتَهم على صِدقِ دَعوتِهم لا تخرُجُ عن حُسنِ سِيرتِهم وصلاحِ رِسالتِهم، وأنَّهم لا يأتون بغيرِ المعقولِ، ولا بما يُبَدِّلُ سُنَّتَه ونظامَه في كونِه) [1713] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/201). .
وعن مُعجِزاتِ عيسى عليه السَّلامُ يقولُ: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يُفيدُك التَّمثيلَ لإخراجِ النَّاسِ مِن ثِقَلِ الجهلِ وظُلُماتِه إلى خِفَّةِ العِلمِ ونُورِه) [1714] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/201). !
وعن مُعجِزاتِ موسى عليه السَّلامُ قال كما في تفسيرِه لقَولِ الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا [الأعراف: 160] : (يَصِحُّ أن يكونَ الحَجَرُ اسمَ مكانٍ، واضرِبْ بعصاك الحَجَرَ، معناه: اطرُقْه واذهَبْ إليه، والغَرَضُ أنَّ اللهَ هداه إلى محَلِّ الماءِ وعُيونِه) [1715] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/203). !
وفي تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 107-108] يقولُ: (مثالٌ من قُوَّةِ حُجَّتِه وظُهورِ بُرهانِه) [1716] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/203). !
وعن مُعجِزةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ في قولِ اللهِ تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69] ، يقولُ: (معناه: نجَّاه من الوُقوعِ فيها) [1717] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/204). !
2- تفسيرُ الإسراءِ:
فهو يُفَسِّرُ الإسراءَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ المرادَ به هِجرتُه من مكَّةَ -وهي المسجِدُ الحرامُ- إلى المدينةِ، وهي "المسجِدُ الأقصى" [1718] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/206). !!
3- تفسيرُه للمَلائكةِ والجِنِّ والشَّياطينِ:
فيقولُ عن الملائكةِ: (الملائِكةُ رُسُلُ النِّظامِ وعالَمُ السُّنَنِ، وسُجودُهم للإنسانِ معناه: أنَّ الكونَ مُسَخَّرٌ له) [1719] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/207). . أمَّا إبليسُ فهو (اسمٌ لكُلِّ مُستكبِرٍ على الحَقِّ، ويَتبَعُه لَفظُ الشَّيطانِ والجانِّ، وهو النَّوعُ المُستعصي على الإنسانِ تَسخيرُه) [1720] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/207). .
4- الحُدودُ:
ما دام بابُ الاجتهادِ مفتوحًا وميسورًا، وما دامت الشُّروطُ التي وضعَها الفُقَهاءُ لبلوغِ رُتبةِ الاجتهادِ افْتياتًا على اللهِ ونَسخًا لكتابِه، كما قال أصحابُ المَدرَسةِ العقليَّةِ [1721] يُنظر: ((تفسير المنار)) لرضا (1/114). ، فلا عجَبَ أن يبادِرَ أبو زيدٍ الدَّمَنْهوريُّ وغيرُه ممَّن استجاب لدعوتِهم، فيبدأَ في "تطويرِ" الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وذهب فيها "مجتَهِدًا" مذهبًا عجيبًا.
ففي تفسيرِ قَولِه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] يقولُ: (اعلَمْ أنَّ لفظَ السَّارِقِ والسَّارِقةِ يُعطي معنى التَّعَوُّدِ، أي: أنَّ السَّرِقةَ صِفةٌ من صفاتِهم الملازِمةِ لهم، ويظهَرُ لك من هذا المعنى أنَّ من سَرَق مرَّةً أو مرَّتينِ ولا يستَمِرُّ في السَّرِقةِ، ولم يتعوَّدِ اللُّصوصيَّةَ، لا يُعاقَبُ بقَطعِ يَدِه؛ لأنَّ قَطْعَها فيه تعجيزٌ له، ولا يكونُ ذلك إلَّا بَعدَ اليأسِ من علاجِه) [1722] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (36/208). !
وإلى هذا ذهَب مِن بَعدِه المُستَشارُ مصطفى كمال المهدوي، وأيَّدَ رأيَه مصطفى محمود، وزَعَم أنَّ فيه التِزامًا واحترامًا، وأنَّ فَهْمَه جديرٌ بالاستماعِ والتَّأمُّلِ والبَحثِ [1723] ((مجلة صباح الخير)) (العدد 1093) في 16 ديسمبر 1976م: مقال ((قطع اليد في القرآن)) لمصطفى محمود. .
وكذا الزَّاني والزَّانيةُ عِندَهم يُشتَرَطُ أن يكونا معروفَينِ بالزِّنا، وكان من عادتِهما وخُلُقِهما، فهُما بذلك يَستَحِقَّانِ "الجَلْدَ" [1724] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/208). .
-5 تعَدُّدُ الزَّوجاتِ:
ولا يُبيحُ تعَدُّدَ الزَّوجاتِ إلَّا إذا كنَّ يتامى في حِجْرِه، وأمِنَ من نَفسِه عَدَمَ الجَورِ [1725] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/209). ، وهو ما ذهب إليه مِن بَعدِه أيضًا المَهدويُّ، ومصطفى محمود [1726] ((مجلة صباح الخير)) (العدد 1093) في 16 ديسمبر 1976م، مقال ((قطع اليد في القرآن)) لمصطفى محمود. ، ولم يَقُلْ أحَدٌ بالشَّرطِ الأوَّلِ مُطلقًا، ومن يطَّلِعْ على سبَبِ النُّزولِ يعلَمْ خَطَأَ من يشتَرِطُ هذا الشَّرطَ في التَّعَدُّدِ [1727] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (2/209). .
6- الرِّبا:
ويجعَلُ الرِّبا المحَرَّمَ شَرعًا هو الرِّبا الفاحِشَ فقط [1728] ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (3/210). .

انظر أيضا: