موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الحَذَرِ واليَقَظةِ والحَيطةِ


إنَّ حاجةَ المُسلِمِ لأن يكونَ يَقِظًا واعيًا يتحلَّى بالحَذَرِ والحَيطةِ في أمورِه تظهَرُ في مجالاتٍ وصُوَرٍ عديدةٍ يتوجَّبُ على المُسلِمِ فيها استعمالُ هذه المعاني حتى يحقِّقَ لنفسِه الوقايةَ الكافيةَ ممَّا يؤذيه في دينِه أو دُنياه، فمِن تلك الصُّوَرِ التي يتوجَّبُ عليه مراعاةُ الحَذَرِ واليَقَظةِ والحَيطةِ فيها:
1- في امتثالِ أوامِرِ اللَّهِ سُبحانَه ونواهيه، وما جاء به الشَّرعُ، فإذا كان الإنسانُ بطبيعتِه يرجو الخيرَ والرَّحمةَ، ويَطمَعُ في الفَضلِ والثَّوابِ، فإنَّ واجِبَه الدِّينيَّ يقتضيه ألَّا يَغُرَّه الرَّجاءُ أو يخدَعَه الطَّمَعُ عن التَّحَلِّي بالحَذَرِ والحَيطةِ بالخَوفِ من عقابِ اللَّهِ سُبحانَه.
قال تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] .
قال السَّعديُّ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا أي: هو الذي ينبغي شِدَّةُ الحَذَرِ منه والتَّوقِّي من أسبابِه) [2958] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 460). .
2- في تعامُلِه مع أوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونواهيه، فيَحذَرُ مخالفةَ ما جاء به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أمرٍ ونهيٍ؛ فقد أمر سُبحانَه أن يُبَجَّـلَ نبيُّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُعَظَّـَم، فلا يُدعى باسمِه بأن يقالَ: يا محمَّدُ، ولكِنْ يقالُ: يا نبيَّ اللَّهِ، يا رسولَ اللَّهِ، ولا يقاسُ دُعاؤه بدعاءِ بعضِنا بعضًا في جوازِ الإعراضِ والتَّساهُلِ في الإجابةِ، ولا يخالَفُ أمرُه، فينبغي للمُسلِمِ أن يكونَ يَقِظًا في تعامُلِه مع تلك الأوامِرِ الرَّبَّانيَّةِ وألَّا يخالِفَها.
قال تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: يخافون أمرَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وينصَرِفون بغيرِ إذنِه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ بليَّةٌ تُظهِرُ نِفاقَهم أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عاجِلٌ في الدُّنيا) [2959] ((الوجيز)) للواحدي (ص: 722). .
3- عِندَ التَّعرُّضِ لفِتَنِ الدُّنيا،ولعَلَّ أعظَمَ فِتنةٍ قد تصيبُ العَبدَ فِتنةُ الإعراضِ والصَّدِّ عن الصِّراطِ المستقيمِ، ولقد حذَّر اللَّهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هذه الفِتنةِ؛ قال تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49]
(والمعنى: وأنزَلْنا إليك الكتابَ -يا محمَّدُ- فيه حُكمُ اللَّهِ، وأنزَلْنا إليك فيه أنِ احكُمْ بَيْنَهم بما أنزَل اللَّهُ، ولا تتَّبِعْ أهواءَ هؤلاء اليهودِ الذين اتَّخذوا دينَهم لهوًا ولَعِبًا، واحذَرْهم أن يُضِلُّوك أو يَصُدُّوك عن بعضِ ما أنزَلْناه إليك، ولو كان أقلَّ قليلٍ بأن يُصَوِّروا لك الباطِلَ في صورةِ الحَقِّ، أو بأن يحاوِلوا حَمْلَك على الحُكمِ الذي يناسِبُ شَهَواتِهم) [2960] ((التفسير الوسيط)) لمحمد سيد طنطاوي (4/ 185). .
4- عِندَ ملاقاةِ العَدُوِّ ومواجهتِه؛ فعلى المُسلِمين أن يكونوا في أعلى دَرَجاتِ اليَقَظةِ، وأتمِّ دَرَجاتِ الحَذَرِ، وأعلى دَرَجاتِ الحَيطةِ؛ لئلَّا يكونوا فريسةً سهلةً لعَدُوِّهم، إلى أن يحَقِّقوا النَّصرَ والظَّفَرَ عليهم؛ ولذلك خاطَب اللَّهُ المُؤمِنين، وأمَرهم بجهادِ الكُفَّارِ والخروجِ في سبيلِ اللَّهِ وحمايةِ الشَّرعِ، وأمرَهم أن لا يقتَحِموا على عَدُوِّهم على جهالةٍ؛ حتى يتحَسَّسوا ما عندَهم ويَعلَموا كيف يردُّون عليهم، فذلك أثبَتُ لهم.
 قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 71 - 73] .
قال السَّعديُّ: (يأمُرُ تعالى عبادَه المُؤمِنين بأخْذِ حَذَرِهم من أعدائِهم الكافِرين. وهذا يَشمَلُ الأخذَ بجَميعِ الأسبابِ التي بها يُستعانُ على قتالِهم، ويُستدفَعُ مَكرُهم وقُوَّتُهم، من استعمالِ الحُصونِ والخنادِقِ، وتعلُّمِ الرَّميِ والرُّكوبِ، وتعلُّمِ الصِّناعاتِ التي تُعينُ على ذلك، وما به يُعرَفُ مداخِلُهم ومخارِجُهم ومَكرُهم، والنَّفيرُ في سبيلِ اللَّهِ؛ ولهذا قال: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أي: متفَرِّقين بأن تنفِرَ سَريَّةٌ أو جيشٌ، ويُقيمَ غيرُهم أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا، وكُلُّ هذا تَبَعٌ للمصلحةِ والنِّكايةِ، والرَّاحةِ للمُسلِمين في دينِهم، وهذه الآيةُ نظيرُ قَولِه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [2961] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 186). .
5- إذا خَشِيَ المُسلِمون غَدرًا من عَدُوِّهم في مَيدانِ القِتالِ؛ فقد أمر اللَّهُ سُبحانَه بأخذِ الحَذَرِ، وبَينَ ما يجِبُ على المُسلِمين مراعاتُه من الحَيطةِ والتَّيقُّظِ في ذلك.
قال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102] .
قال ابنُ جُزَيٍّ: (الآيةُ إخبارٌ عمَّا جرى في غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ، من عزمِ الكُفَّارِ على الإيقاعِ بالمُسلِمين إذا اشتَغَلوا بصلاتِهم، فنَزَل جبريلُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخبَرَه بذلك، وشُرِعت صلاةُ الخوفِ حَذَرًا من الكُفَّارِ) [2962] ((التسهيل لعلوم التنزيل)) (1/208). .
فهذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ دَلالةً صريحةً قاطعةً على وُجوبِ أخذِ الحَذَرِ والحَيطةِ، بل وتُبَيِّنُ للمُسلِمين كيفيَّةَ ذلك؛ ممَّا يدُلُّ على أهمِّيَّتِه، فالأمرُ بأخذِ الأسلحةِ، والأمرُ بأن يكونَ بعضُ المُسلِمين وراءَ المُصَلِّين يَحمونَهم من العَدُوِّ، وتقسيمِ المُسلِمين إلى طائفتَينِ؛ طائفةٍ تُصَلِّي، وطائفةٍ تَحرُسُ، والأمرُ بأخذِ الحَذَرِ، مع بيانِ ما لأجْلِه أُمِروا بأخذِ الحَذَرِ والسِّلاحِ، وهو أنَّ الكُفَّارَ يَودُّون غَفلتَكم عن أخذِ السِّلاحِ، وعن الحَذَرِ ليَصِلوا إلى مقصودِهم، وينالوا فُرصتَهم، فيَشُدُّون عليكم شَدَّةً واحدةً، وكُلُّ ذلك دليلٌ على وجوبِ الحَيطةِ والتَّحرُّزِ، وأخذِ الحَذَرِ من المكروهِ المتوقَّعِ.
6- في الأمنِ من الشَّيطانِ وهو عدُوُّ المُسلِمِ الأكبَرُ الذي يسعى لإفسادِ دُنياه وأُخراه، ولا يتوقَّفُ عن الوَسْوسةِ له بالشُّرورِ والآثامِ، فهو أوَّلُ عَدُوٍّ في طريقِ المُؤمِنين إلى دارِ السَّلامِ، عداوتُه قديمةٌ قِدَمَ الحياةِ، مُنذُ بدءِ الخليقةِ.
قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .
ومِن أعظَمِ مداخِلِ الشَّيطانِ على العِبادِ: إيقاعُ العداوةِ والبغضاءِ بَيْنَ المُسلِمين، وصَدُّهم عن ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاةِ.
قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] .
فإذا لم يكُنِ المُسلِمون على يَقَظةٍ من أمرِهم وحَذَرٍ من كَيدِ الشَّيطانِ، فلا شَكَّ أنَّه متمَكِّنٌ منهم، واصِلٌ إليهم بالسُّوءِ.
7- في تعامُلِه مع رَغَباتِ الأزواجِ والأولادِ؛ فحُبُّ المُسلِمِ لأهلِه ووَلَدِه قد يقعُدُ به عن الجهادِ في سَبيلِ اللَّهِ، ويمنَعُه عن البَذلِ حيثُ يحِبُّ اللَّهُ منه البَذلَ، وقد يصُدُّونه عن الطَّاعةِ وعَمَلِ الخيرِ، وقد يستجيبُ لهم فيكونُ فِعلُهم هذا فِعلَ الأعداءِ، والعَدُوُّ يَستَحِقُّ اليَقَظةَ والحَذَرَ والحَيطةَ للإفلاتِ من مكيدتِه.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إنما أموالكم وأولادكم فتنة واللَّه عنده أجر عظيم [التغابن: 14-15] .
(حذَّر اللَّهُ تعالى من فتنةِ الأزواجِ والأموالِ والأولادِ الذين يكونون سبَبًا في التَّقصيرِ بالطَّاعةِ، والتَّورُّطِ أحيانًا في المعصيةِ، وناسَب ذلك أن يأمُرَ اللَّهُ بالتَّقوى والإنفاقِ في سبيلِ اللَّهِ؛ لأنَّ ذلك هو رأسُ مالِ الإنسانِ، وسَبيلُ إسعادِه في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فلكُلِّ مَرَضٍ عِلاجٌ، وعلاجُ الانحرافِ المبادرةُ إلى الاستقامةِ، والتِزامُ جادَّةِ الامتثالِ والطَّاعةِ) [2963] ((التفسير الوسيط)) للزحيلي (3/ 2675). .
8- حِفظُ الأوقاتِ؛ قال أبو القاسِمِ النَّصرآباذيُّ: (مراعاةُ الأوقاتِ من علاماتِ التَّيقُّظِ) [2964] ((الزهد الكبير)) للبيهقي (ص: 197). .
فجميعُ المصالحِ إنَّما تنشَأُ من الوَقتِ، وإن ضَيَّعه لم يستدرِكْه أبدًا [2965] ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) لابن القيم (ص: 156). .

انظر أيضا: