موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


عاقبةُ مَن يَصبِرُ على كَيدِ الكائِدِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (يوسُفُ الصِّدِّيقُ كان قد كِيدَ غَيرَ مَرَّةٍ: أوَّلُها: أنَّ إخوتَه كادوا به كَيدًا؛ حيثُ احتالوا به في التَّفريقِ بينه وبينَ أبيه، ثمَّ إنَّ امرأةَ العزيزِ كادَتْه بما أظهَرَت أنَّه راودَها عن نفسِها، ثمَّ أُودِعَ السِّجنَ، ثمَّ إنَّ النِّسوةَ كادوه حتَّى استعاذ باللَّهِ من كَيدِهنَّ، فصَرَفه عنه، وقال له يعقوبُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا، وقال الشَّاهِدُ لامرأةِ العزيزِ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] ، وقال تعالى في حَقِّ النِّسوةِ: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [يوسف: 34] ، وقال للرَّسولِ: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: 50] . فكاد اللَّهُ له أحسَنَ كَيدٍ وألطَفَه وأعدَلَه، بأنْ جَمَع بينَه وبينَ أخيه، وأخرَجَه من أيدي إخوتِه بغيرِ اختيارِهم، كما أخرجوا يوسُفَ مِن يَدِ أبيه بغيرِ اختيارِه، وكاد له عِوَضَ كَيدِ المرأةِ بأن أخرَجَه من ضِيقِ السِّجنِ إلى فضاءِ المُلْكِ، ومكَّنَه في الأرضِ يتَبَوَّأُ منها حيثُ يشاءُ، وكاد له في تصديقِ النِّسوةِ اللَّاتي كذَّبْنَه وراوَدْنَه حتَّى شَهِدْنَ ببراءتِه وعِفَّتِه، وكاد له في تكذيبِ امرأةِ العزيزِ لنَفسِها، واعترافِها بأنَّها هي التي راوَدَتْه، وأنَّه من الصَّادقين؛ فهذه عاقبةُ مَن صَبَر على كَيدِ الكائِدِ له بغيًا وعُدوانًا) [6716] ((إعلام الموقعين)) (3/218). .
غايةُ كَيدِ الشَّيطانِ:
غايةُ كَيدِ الشَّيطانِ الوَسوَسةُ؛ فإنَّ شيطانَ الجِنِّ إذا غَلَب وَسْوَس، وشيطانَ الإنسِ إذا غَلَب كَذَب، والوَسْواسُ يَعرِضُ لكُلِّ مَن توَجَّه إلى اللَّهِ تعالى بذِكرٍ أو غيرِه، لا بُدَّ له من ذلك؛ فينبغي للعبدِ أن يَثبُتَ ويَصبِرَ، ويلازِمَ ما هو فيه من الذِّكرِ والصَّلاةِ، ولا يَضجَرَ؛ فإنَّه بملازمةِ ذلك ينصَرِفُ عنه كَيدُ الشَّيطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] [6717] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/608). .
فعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أحدَنا يجِدُ في نَفسِه، يعرِضُ بالشَّيءِ، لَأَن يكونَ حُمَمةً أحَبُّ إليه مِن أن يتكلَّمَ به! فقال: اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، الحَمدُ للهِ الذي رَدَّ كَيدَه إلى الوَسوَسةِ)) [6718] رواه أبو داود (5112) واللفظ له، وأحمد (2097). صحَّحه ابن حبان (147)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5112)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند)) (705)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/351)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5112). .
هل كَيدُ النِّساءِ أعظَمُ من كَيدِ الشَّيطانِ؟
استدَلَّ بعضُ أهلِ العِلمِ بقَولِه تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ مع قولِه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] على أنَّ كَيدَ النِّساءِ أعظَمُ من كَيدِ الشَّيطانِ؛ لأنَّ قولَه في النِّساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقَولَه في الشَّيطانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا يدُلُّ على أنَّ كَيدَهنَّ أعظَمُ مِن كَيدِه، وعن بعضِ العُلَماءِ: (إنِّي أخافُ من النِّساءِ ما لا أخافُ من الشَّيطانِ؛ فإنَّه تعالى يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وقال للنِّساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، ولأنَّ الشَّيطانَ يُوسوِسُ مُسارَقةً، وهنَّ يُواجِهنَ به الرِّجالَ) [6719] يُنظر: ((تفسير القنوجي)) (6/320)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/217). .
وقيل: لا دَلالةَ فيه؛ فالمقامُ مختَلِفٌ؛ فإنَّ ضَعفَ كَيدِ الشَّيطانِ إنَّما هو في مقابلةِ كَيدِ اللَّهِ تعالى، وعِظَمُ كَيدِهنَّ إنَّما هو بالنِّسبةِ إلى كَيدِ الرِّجالِ، وإنَّما كَيدُ النِّساءِ بَعضُ كَيدِ الشَّيطانِ [6720] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/415)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/238). .
وَصفُ اللَّهِ بالكَيدِ والمَكْرِ:
الكَيدُ والمَكْرُ صِفتانِ فِعليَّتانِ خَبَريَّتانِ ثابتتانِ للهِ عزَّ وجَلَّ، ولا يوصَفُ اللَّهُ سُبحانَه بهما وصفًا مُطلَقًا، إنَّما يوصَفُ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ بهما مقيَّدتينِ في مقابلةِ كَيدِ المخلوقِ ومَكْرِه؛ قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 16] ، وقال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ، فكاد له كما كادت إخوتُه لَمَّا قال له أبوه: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا. كاد اللَّهُ سُبحانَه ليوسُفَ عليه السَّلامُ بأن جَمَع بينه وبين أخيه، وأخرجَه من أيدي إخوتِه بغيرِ اختيارِهم كما أخرجوا يوسُفَ من يدِ أبيه بغيرِ اختيارِه، وكاد له بأن أوقَفَهم بَيْنَ يَدَيه مَوقِفَ الذَّليلِ الخاضِعِ المُستَجدي، فقالوا: يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: 88] . فهذا الذُّلُّ والخضوعُ في مقابلةِ ذُلِّه وخُضوعِه لهم يومَ إلقائِه في الجُبِّ وبَيعِه بيعَ العَبيدِ!
وكاد له بأن هيَّأَ له الأسبابَ التي سجَدوا له هم وأبوه وخالتُه، في مقابلةِ كَيدِهم له؛ حَذَرًا من وقوعِ ذلك، فإنَّ الذي حملهم على إلقائِه في الجُبِّ خَشيتُهم أن يرتفِعَ عليهم حتى يسجُدوا له كُلُّهم، فكادوه خشيةَ ذلك، فكاد اللَّهُ تعالى له حتَّى وقع ذلك كما رآه في منامِه!
وهذا كما كاد فِرعَونُ بني إسرائيلَ: يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيْسَتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص: 4] ؛ خشيةَ أن يَخرُجَ فيهم من يكونَ زَوالُ مُلكِه على يَدَيه، فكاده اللَّهُ سُبحانَه بأن أخرجَ له هذا المولودَ، ورَبَّاه في بيتِه وفي حِجرِه، حتَّى وقع به منه ما كان يحذَرُه [6721] ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (2/ 114). !
وقال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران54]، وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل50] [6722] ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص: 302، 325). ، وقال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] (وقد كادوا له أعظَمَ كَيدٍ؛ فإنَّهم اجتمعوا ماذا يَصنَعون بمُحمَّدٍ لَمَّا رأوا دعوتَه تنتَشِرُ، وأنَّه لا قِبَلَ لهم برَدِّها، اجتمعوا يتشاوَرون وذكروا ثلاثةَ آراءٍ: الحَبسُ، والقَتلُ، والإخراجُ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أي: يحبِسوك أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، واستقَرَّ رأيُهم على القَتلِ، لكِنْ من يستطيعُ أن يَقتُلَه؛ لأنَّ بني هاشِمٍ سوف يُطالِبون؟ قالوا: يجتَمِعُ عَشَرةُ شُبَّانٍ من قبائِلَ مُتفَرِّقةٍ من العَرَبِ، ويُعطى كُلُّ واحدٍ منهم سيفًا صارِمًا، ويَضرِبون محمَّدًا ضربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفَرَّقُ دَمُه في القبائِلِ، فتَعجِزُ بنو هاشِمٍ عن المطالبةِ) [6723] ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 199). . (وَيَمْكُرُونَ هذا المَكْرَ ليُوصِلوا إليك الشَّرَّ في خُفيةٍ. وَاللَّهُ جَلَّ وعلا خَيْرُ الْمَاكِرِينَ مَكَر لك بهم، وأخرَجك ونجَّاك، وأظفَرَك بهم يومَ بَدرٍ حتَّى قتَلْتَهم وأسَرْتَهم، هذا مَكرُهم، وهذا مَكرُ اللَّهِ!) [6724] ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (4/ 573). .

انظر أيضا: