موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذجُ من الكَيدِ الذي كِيدَ به يُوسُفُ عليه السَّلامُ


فيوسُفُ صَلَواتُ اللَّهِ عليه وسلامُه كِيدَ من وُجوهٍ عديدةٍ:
أحَدُها: أنَّ إخوتَه كادوه؛ حيثُ احتالوا في التَّفريقِ بينَه وبينَ أبيه، كما قال له يعقوبُ عليه السَّلامُ: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5] .
وثانيها: أنَّهم كادوه حيثُ باعوه بيعَ العَبيدِ، وقالوا: إنَّه غلامٌ لنا أَبِق.
وثالِثُها: كَيدُ امرأةِ العزيزِ له بتغليقِ الأبوابِ ودعائِه إلى نفسِها.
ورابعُها: كَيدُها له بقولِها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] .
فكادَتْه بالمراودةِ أوَّلًا، وكادَتْه بالكَذِبِ عليه ثانيًا.
وخامِسُها: كَيدُها له حيثُ جمَعَت له النِّسوةَ، وأخرجَتْه عليهنَّ، تستعينُ بهِنَّ عليه، وتستعذِرُ إليهنَّ مِن شَغَفِها به.
وسادِسُها: كَيدُ النِّسوةِ له، حتَّى استجار باللَّهِ تعالى من كَيدِهنَّ، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33- 34] .
ولهذا لَمَّا جاء الرَّسولُ بالخروجِ من السِّجنِ قال له: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف: 50] .
وأمَّا مَكرُ النِّسوةِ اللَّاتي مكَرْنَ به، وسَمِعَت به امرأةُ العزيزِ، فقد أشار اللَّهُ إليه بقولِه: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف: 30] .
وهذا الكلامُ مُتضَمِّنٌ لوُجوهٍ من المَكْرِ:
أحدُها: قَولُهنَّ: امْرَأَةُ الْعِزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا [يوسف: 30] ، ولم يُسَمُّوها باسمِها، بل ذكَروها بالوَصفِ الذي يُنادي عليها بقبيحِ فِعلِها، بكونِها ذاتَ بَعلٍ. فصُدورُ الفاحشةِ منها أقبَحُ من صدورِها ممَّن لا زوجَ لها.
الثَّاني: أنَّ زوجَها عزيزُ مِصرَ ورئيسُها وكبيرُها، وذلك أقبَحُ لوقوعِ الفاحِشةِ منها.
الثَّالِثُ: أنَّ الذي تراوِدُه مملوكٌ لا حُرٌّ، وذلك أبلَغُ في القبحِ.
الرَّابعُ: أنَّه فتاها الذي هو في بيتِها وتحتَ كَنَفِها، فحُكمُه حُكمُ أهلِ البيتِ، بخلافِ من طَلَب ذلك من الأجنبيِّ البعيدِ.
الخامِسُ: أنَّها هي المراوِدةُ الطَّالبةُ.
السَّادِسُ: أنَّها قد بلَغَ بها عِشقُها له كُلَّ مبلغٍ، حتى وصَل حبُّها له إلى شَغافِ قَلبِها.
السَّابعُ: أنَّ في ضِمنِ هذا أنَّه أعَفُّ منها وأبَرُّ وأوفى؛ حيث كانت هي المراوِدةَ الطَّالبةَ، وهو الممتَنِعَ، عَفافًا وكَرَمًا وحياءً، وهذا غايةُ الذَّمِّ لها.
الثَّامِنُ: أنَّهنَّ أتَينَ بفِعلِ المراوَدةِ بصيغةِ المستقبَلِ الدَّالَّةِ على الاستمرارِ والوقوعِ حالًا واستقبالًا، وأنَّ هذا شأنُها، ولم يَقُلْنَ: راوَدَت فتاها. وفَرقٌ بَيْنَ قولِك: فلانٌ أضاف ضَيفًا، وفلانٌ يَقري الضَّيفَ، ويُطعِمُ الطَّعامَ، ويحمِلُ الكَلُّ؛ فإنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هذا شأنُه وعادتُه.
التَّاسِعُ: قَولُهنَّ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف: 30] ، أي: إنَّا لنستقبِحُ منها ذلك غايةَ الاستقباحِ، فنَسَبْنَ الاستقباحَ إليها، ومن شأنِهنَّ مساعدةُ بعضِهنَّ بعضًا على الهوى، ولا يَكَدْنَ يَرَينَ ذلك قبيحًا، كما يساعِدُ الرِّجالُ بعضُهم بعضًا على ذلك، فحيثُ استقبَحْنَ منها ذلك كان هذا دليلًا على أنَّه من أقبحِ الأمورِ، وأنَّه ممَّا لا ينبغي أن تُساعَدَ عليه، ولا يحسُنُ مُعاونتُها عليه.
العاشِرُ: أنَّهنَّ جمَعْنَ لها في هذا الكلامِ واللَّومِ بَيْنَ العِشقِ المُفرِطِ والطَّلَبِ المُفرِطِ، فلم تقتَصِدْ في حُبِّها ولا في طَلَبِها؛ أمَّا العِشقُ فقولُهنَّ: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا [يوسف: 30] ، أي: وَصَل حُبُّه إلى شَغافِ قَلْبِها. وأمَّا الطَّلَبُ المُفرِطُ فقَولُهنَّ: تُرَاوِدُ فَتَاهَا [يوسف: 30] .
والمراودةُ: الطَّلَبُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ؛ فنَسَبوها إلى شِدَّةِ العِشقِ، وشِدَّةِ الحِرصِ على الفاحشةِ.
فلمَّا سَمِعَت بهذا المَكْرِ منهُنَّ هيَّأَت لهن مَكرًا أبلَغَ منه، فهيَّأَت لهنَّ متَّكَأً، ثمَّ أرسَلَت إليهنَّ، فجمعَتْهنَّ وخَبَّأَت يوسُفَ عليه السَّلامُ عنهنَّ. وقيل: إنَّها جمَّلَتْه وألبسَتْه أحسَنَ ما تَقدِرُ عليه، وأخرجَتْه عليهنَّ فجأةً، فلم يَرُعْهنَّ إلَّا وأحسَنُ خَلقِ اللَّهِ وأجمَلُهم قد طَلَع عليهنَّ بَغتةً! فراعَهنَّ ذلك المنظَرُ البَهيُّ، وفي أيديهنَّ مُدًى يَقطَعْنَ بها ما يأكُلْنَه فدُهِشْنَ حتَّى قَطَّعْنَ أيديَهنَّ، وهنَّ لا يَشعُرْنَ! فقابلَت مكْرَهنَّ القوليَّ بهذا المَكْرِ الفِعليِّ، وكانت هذه في النِّساءِ غايةً في المَكْرِ [6715] ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (2/ 114). .

انظر أيضا: