موسوعة الأخلاق والسلوك

سادِسًا: صُوَرُ البِرِّ ومظاهِرُه


البِرُّ لفظةٌ تَعُمُّ جميعَ أعمالِ الإحسانِ، وتَشمَلُ كُلَّ خصالِ الخيرِ، وعلى هذا فللبِرِّ أشكالٌ وصُوَرٌ كثيرةٌ، لكِنْ من أبرَزِ صُوَرِ البِرِّ والإحسانِ:
- البِرُّ بالوالِدَينِ:
قال اللهُ تعالى مثنيًا على نبيِّه عيسى عليه السَّلامُ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم: 32] .
وقال عن نبيِّه يحيى عليه السَّلامُ: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم: 14] .
وقَرَن بِرَّ الوالِدَينِ بتوحيدِه، فقال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ قال: الصَّلاةُ على ميقاتِها. قُلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ بِرُّ الوالِدَينِ. قُلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ)) [1201] أخرجه البخاري (2782) واللفظ له، ومسلم (85). ، فجَعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِرَّ الوالِدَينِ أفضَلَ من الجهادِ في سبيلِ اللهِ، (ويكادُ الإنسانُ لا يفي والِدَيه حَقَّهما عليه مهما أحسَنَ إليهما؛ لأنَّهما كانا يُحسِنانِ إليه حينما كان صغيرًا، وهما يتمنَّيانِ له كُلَّ خيرٍ، ويخشَيانِ عليه مِن كُلِّ سوءٍ، ويسألانِ اللهَ له السَّلامةَ وطُولَ العُمُرِ، ويَهونَ عليهما من أجْلِه كُلُّ بَذلٍ مهما عَظُم، ويَسهَرانِ على راحتِه دونَ أن يَشعُرا بأيِّ تضَجُّرٍ من مطالِبِه، ويحزنانِ عليه إذا آلَمه أيُّ شيءٍ) [1202] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (2/22). .
ولا يقتَصِرُ بِرُّ الوالِدَين على حالِ حياتِهما، بل يمتدُّ أيضًا إلى ما بعدَ مماتِهما؛ فعن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عمَلُه إلَّا من ثلاثةٍ: إلَّا من صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له)) [1203] أخرجه مسلم (1631). .
قال الصَّنعانيُّ: (فيه أنَّه لا يُقبَلُ إلَّا دعاءُ الصَّالحِ، قيل: وفائدةُ تقييدِه بالوَلَدِ مع أنَّ دُعاءَ غيرِه ينفَعُه: تحريضٌ للوَلَدِ على الدُّعاءِ) [1204] ((التنوير)) (2/208). .
وفي الحديثِ الآخَرِ: ((مِن أبَرِّ البِرِّ صِلةُ الرَّجُلِ أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ)) [1205] أخرجه مسلم (2552) من حديثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. . فصِلَةُ أقارِبِ الميِّتِ وأصدِقائِه بعدَ مَوتِه هو من تمامِ بِرِّه.
 (وإذا قيل: فما هو البِرُّ الذي أمَرَ اللهُ به ورسولُه؟ قيل: قد حَدَّه اللهُ ورسولُه بحَدٍّ معروفٍ، وتفسيرٍ يفهَمُه كُلُّ أحَدٍ؛ فاللهُ تعالى أطلَق الأمرَ بالإحسانِ إليهما، وذكَرَ بعضَ الأمثلةِ التي هي أنموذَجٌ من الإحسانِ، فكُلُّ إحسانٍ قوليٍّ أو فِعليٍّ أو بَدَنيٍّ، بحسَبِ أحوالِ الوالِدَينِ والأولادِ، والوقتِ والمكانِ، فإنَّ هذا هو البِرُّ... فكُلُّ ما أرضى الوالِدَينِ من جميعِ أنواعِ المعامَلاتِ العُرفيَّةِ، وسُلوكِ كُلِّ طريقٍ ووسيلةٍ ترضيهما، فإنَّه داخِلٌ في البِرِّ، كما أنَّ العقوقَ: كُلُّ ما يُسخِطُهما من قولٍ أو فعلٍ، ولكِنَّ ذلك مقيَّدٌ بالطَّاعةِ لا بالمعصيةِ، فمتى تعذَّر على الوَلَدِ إرضاءُ والِدَيه إلَّا بإسخاطِ اللَّهِ، وجَب تقديمُ محبَّةِ اللهِ على محبَّةِ الوالِدَينِ، وكان اللَّومُ والجنايةُ من الوالِدَينِ، فلا يلومانِ إلَّا أنفُسَهما) [1206] ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (216-217). .
- برُّ الأقاربِ وذوي الأرحامِ بصِلَتِهم والإحسانِ إليهم، وتفَقُّدِ أحوالِهم، والقيامِ على حاجاتِهم ومواساتِهم.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَلَق اللهُ الخَلْقَ، فلمَّا فَرَغ منه قامت الرَّحِمُ، فأخذت بحَقْوِ [1207] الحَقْوُ: مَعقِدُ الإزارِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (37/ 454)، ويُنظَر: أيضًا: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) (ص: 125). الرَّحمنِ، فقال لها: مَهْ! قالت: هذا مقامُ العائِذِ بك من القطيعةِ، قال: ألَا ترضَينَ أن أصِلَ مَن وَصَلكِ، وأقطَعَ مَن قَطَعكِ؟ قالت: بلى، يا رَبِّ، قال: فذاك لكِ)) [1208] أخرجه البخاري (4830) واللفظ له، ومسلم (2554). .
- برُّ الجارِ، وحُسنُ معاملتِه، واجتنابُ الإساءةِ إليه؛ فقد تواترت النَّصوصُ من الكتابِ والسُّنَّةِ في الحثِّ على حُسنِ معاملةِ الجارِ، وحذَّرت من الإساءةِ إليه أشَدَّ التَّحذيرِ.
قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36] .
قال القُرطبيُّ: (أمَّا الجارُ فقد أمَرَ اللهُ تعالى بحِفظِه والقيامِ بحَقِّه والوَصاةِ برَعيِ ذِمَّتِه في كتابِه وعلى لسانِ نبيِّه، ألا تراه سُبحانَه أكَّد ذِكرَه بعد الوالِدَينِ والأقرَبينَ، فقال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى أي: القريبِ، وَالْجَارِ الْجُنُبِ أي: الغريبِ؟ قاله ابنُ عَبَّاسٍ، وكذلك هو في اللُّغةِ. ومنه: فلانٌ أجنبيٌّ، وكذلك الجنابةُ: البُعدُ) [1209] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/183). .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما زال يوصيني جِبريلُ بالجارِ، حتَّى ظنَنْتُ أنَّه سيُوَرِّثُه)) [1210] أخرجه البخاري (6014) واللفظ له، ومسلم (2624). .
- برُّ اليتامى والضَّعَفةِ والمساكينِ بالإحسانِ إليهم، والقيامِ على مصالحِهم وحقوقِهم، وعدمِ تضييعِها.
عن سَهلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنا وكافِلُ اليتيمِ في الجنَّةِ هكذا، وأشار بالسَّبَّابةِ والوُسطى، وفرَّج بينهما شيئًا)) [1211] أخرجه البخاري (5304). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((السَّاعي على الأرملةِ والمِسكينِ كالمجاهِدِ في سبيلِ اللَّهِ، أو القائِمِ اللَّيلَ الصَّائِمِ النَّهارَ)) [1212] أخرجه البخاري (5353) واللفظ له، ومسلم (2982). .
- البِرُّ في البيعِ بعَدَمِ غِشِّ النَّاسِ، والتِزامِ الصِّدقِ والأمانةِ، وعَدَمِ التَّرويجِ للبَيعِ بالكَذِبِ؛ رغبةً في الكَسبِ، بل خيرُ الكَسبِ وأفضَلُه ما بُذِلت فيه النَّصيحةُ للنَّاسِ بالحَقِّ، فهذا هو بِرُّهم.
 عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ الكَسبِ كَسبُ يَدِ العامِلِ إذا نَصَح)) [1213] أخرجه أحمد (8412) واللفظ له، وأبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) (1/419)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1236). حسَّنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3283)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1266)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/175)، وحسَّنه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/79)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14/ 136). .
- البِرُّ في التِزامِ الوفاءِ بالعُهودِ والمواثيقِ؛ فالمؤمِنُ وفيٌّ بوعودِه، لا تُعرَفُ منه خيانةٌ، ولا تفريطٌ في العُهودِ.
وقد أمَر اللهُ سُبحانَه بالوفاءِ بالعُهودِ، كما عَدَّ سُبحانَه الاتِّصافَ بالوفاءِ بالعُهودِ من الأخلاقِ الملازِمةِ للأبرارِ.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] .
- البِرُّ بالإصلاحِ بَينَ سائِرِ المؤمِنين، فهذا من القيامِ بحُقوقِ الأخُوَّةِ، ومن البِرِّ بالمؤمِنين.
قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] .
(فلا يتصَدَّعُ بنيانُكم ولا تتشَتَّتُ أمَّتُكم، وتُصبِحُ جماعاتٍ وطوائِفَ متعاديةً يَقتُلُ بَعضُها بعضًا، ولمَّا لم يتَّقِ المؤمنون اللهَ في الإصلاحِ الفوريِّ بَينَ الطَّوائفِ الإسلاميَّةِ المتنازِعةِ حَصَل من الفسادِ والشَّرِّ ما اللهُ به عليمٌ في الغَربِ الإسلاميِّ والشَّرقِ) [1214] ((أيسر التفاسير)) لأبي بكر الجزائري (5/129). .

انظر أيضا: