موسوعة الأخلاق والسلوك

 أ - من القُرآنِ الكَريمِ


- قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال: 47] .
يَعني أبا جَهلٍ وأصحابَه الخارِجينَ يَومَ بَدرٍ لنُصرةِ العِيرِ، خَرَجوا بالقِيانِ والمُغَنِّياتِ والمَعازِفِ، فلمَّا ورَدوا الجُحفةَ بَعَثَ خُفافٌ الكِنانيُّ -وكان صَديقًا لأبي جَهلٍ- بهَدايا إليه مَعَ ابنٍ له، وقال: إن شِئتَ أمدَدتُك بالرِّجالِ، وإن شِئتَ أمدَدتُك بنَفسي مَعَ من خَفَّ من قَومي. فقال أبو جَهلٍ: إنْ كُنَّا نُقاتِلُ اللهَ كما يَزعُمُ مُحَمَّدٌ فواللهِ ما لنا باللهِ من طاقةٍ، وإن كُنَّا نُقاتِلُ النَّاسَ فواللهِ إنَّ بنا على النَّاسِ لقوَّةً، واللهِ لا نَرجِعُ عن قِتالِ مُحَمَّدٍ حتَّى نَرِدَ بَدرًا فنشَربَ فيها الخُمورَ، وتَعزِفَ عَلينا القِيانُ -فإنَّ بَدرًا مَوسِمٌ من مَواسِمِ العَرَبِ، وسوقٌ من أسواقِهم- حتَّى تَسمَعَ العَرَبُ بمَخرَجِنا فتَهابَنا آخِرَ الأبَدِ؛ فورَدوا بَدرًا ولكِن جَرى ما جَرى من هَلاكِهم! والبَطَرُ في اللُّغةِ: التَّقويةُ بنِعَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وما ألبَسَه من العافيةِ على المَعاصي. وهو مَصدَرٌ في مَوضِعِ الحالِ، أي: خَرَجوا بَطِرينَ مُرائينَ صادِّينَ. وصَدُّهم: إضلالُ النَّاسِ [1154] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبى (8/25). .
- وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص: 58] .
يقول تعالى ذِكرُه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيةٍ أبطَرَتْها (مَعِيشَتُهَا) فبَطِرَت وأشَرِتَ وطَغَت، فكَفرَت رَبَّها. وقيل: بَطِرَت مَعيشَتَها، فجَعَل الفِعلَ للقَريةِ، وهو في الأصلِ للمَعيشةِ، كَما يُقالُ: أسفَهَك رَأيُك فسَفِهْتَه، وأبطَرَك مالُك فبَطِرْتَه، والمَعيشةُ مَنصوبةٌ على التَّفسيرِ.
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا [القصص: 58] يَقولُ: فتلك دُورُ القَومِ الذينَ أهلَكْناهم بكُفرِهم برَبِّهم، ومَنازِلُهم لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا يَقولُ: خَرِبَت من بَعدِهم، فلم يَعمُرْ منها إلَّا أقَلُّها، وأكثَرُها خَرابٌ. ولفظُ الكَلامِ وإن كان خارِجًا على أنَّ مَساكِنَهم قد سُكِنَت قَليلًا فإنَّ مَعناه: فتلك مَساكِنُهم لم تُسكَنْ مِن بَعدِهم إلَّا قَليلًا منها، كَما يُقالُ: قَضَيتُ حَقَّك إلَّا قَليلًا منه [1155] ((جامع البيان)) للطبري (19/603). .
- وقال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور  [هود: 10] .
يُخبرُ تعالى عن الإنسانِ وما فيه من الصِّفاتِ الذَّميمةِ إلَّا من رَحِمَ اللهُ من عِبادِه المُؤمنينَ؛ فإنَّه إذا أصابَته شِدَّةٌ بَعدَ نِعمةٍ حَصَل له يَأسٌ وقُنوطٌ من الخَيرِ بالنِّسبةِ إلى المُستَقبَلِ، وكُفرٌ وجُحودٌ لماضي الحالِ، كأنَّه لم يَرَ خَيرًا، ولم يَرجُ بَعدَ ذلك فرَجًا. وهكذا إن أصابَته نِعمةٌ بَعدَ نِقمةٍ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي أي: يَقولُ: ما بَقيَ يَنالُني بَعدَ هذا ضَيمٌ ولا سُوءٌ؛ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أي: فرِحٌ بما في يَدِه، بَطِرٌ فَخورٌ على غَيرِه [1156] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (4/309). .
- وقال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] .
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ قال لقارونَ قَومُه من بني إسرائيلَ: لَا تَفْرَحْ لا تَبطَرْ ولا تأشَرْ ولا تمرَحْ؛ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبّ الْفَرِحِينَ الأشِرينَ البَطِرينَ الذين يَشكُرونَ اللهَ على ما أعطاهم [1157] ((معالم التنزيل)) للبغوي (6/221). .
 - وقال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36]
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمةً أي: الخِصبَ وكَثرةَ المطَرِ فَرِحُوا بِهَا يعني فَرَحَ البَطَرِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئةٌ أي: الجَدبُ وقِلَّةُ المطَرِ، ويقالُ: الخَوفُ والبلاءُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ السَّيِّئاتِ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من رحمةِ اللهِ، وهذا خِلافُ وَصفِ المؤمِنِ؛ فإنَّه يَشكُرُ اللهَ عندَ النِّعمةِ، ويرجو رَبَّه عندَ الشِّدَّةِ [1158] ((معالم التنزيل)) للبغوي (6/272). .
- قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [ الحديد: 22-23] .
يَقولُ تعالى مُخبِرًا عن عُمومِ قَضائِه وقَدَرِه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد: 22] ، وأخبَرَ اللهُ عِبادَه بذلك لأجلِ أن تَتَقَرَّرَ هذه القاعِدةُ عِندَهم، ويَبنوا عَليها ما أصابَهم من الخَيرِ والشَّرِّ، فلا يَأسَوا ويَحزَنوا على ما فاتهم، ممَّا طَمِحَت له أنفُسُهم وتَشَوَّفوا إليه؛ لعِلمِهم أنَّ ذلك مَكتوبٌ في اللَّوحِ المَحفوظِ لا بُدَّ من نُفوذِه ووُقوعِه، فلا سَبيلَ إلى دَفعِه، ولا يَفرَحوا بما آتاهم اللهُ فرَحَ بَطَرٍ وأشَرٍ؛ لعِلمِهم أنَّهم ما أدرَكوه بحَولِهم وقوَّتِهم، وإنَّما أدرَكوه بفضلِ اللهِ ومَنِّه، فيَشتَغلوا بشُكرِ مَن أولى النِّعَمَ ودَفعَ النِّقَمَ؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي: مُتَكَبِّرٍ فظٍّ غَليظٍ، مُعجَبٍ بنَفسِه، فخورٍ بنِعَمِ اللهِ، يَنسُبُها إلى نَفسِه، وتُطغيه وتُلهيه، كما قال تبارك وتعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [1159] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 842). [الروم: 49] .
قوله: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] فإنَّ مَن عَلِم أنَّ ما أصابَه من الضُّرِّ كان مُقدَّرًا عِلمُه في الأزَلِ لم يَحزَنِ الحُزنَ الشَّديدَ؛ لأنَّه قد وطَّنَ نَفسَه على ذلك، وكَذا في جانِبِ الخَيرِ؛ لأنَّه كان مُتَرَقِّبًا. والمُرادُ بهما: ما يُخرِجُ إلى الجَزَعِ وعَدَمِ الصَّبرِ، والفرَحِ المُطغي المُفضي إلى البَطَرِ [1160] ((غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني)) للكوراني (ص: 98). .

انظر أيضا: