موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القرآنِ الكريمِ


لم يفتَأْ كتابُ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ يبُثُّ في قَلبِ المُؤمِنِ ورُوحِه هذا الشُّعورَ العظيمَ؛ الشُّعورَ بالعِزَّةِ المستمدَّةِ من عِزَّةِ هذا الدِّينِ وقوَّتِه، والمُستلهَمةِ من آياتِ كتابِه وتعاليمِه؛ عِزَّةٌ تجعلُه يترفَّعُ عن كُلِّ ما من شأنِه أن يحُطَّ من قَدْرِه، أو يُرغِمَه على إعطاءِ الدَّنيَّةِ في دينِه؛ فالإسلامُ إنَّما جاء بالعِزَّةِ لأتباعِه والرِّفعةِ لأوليائِه.
- قال اللَّهُ تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] .
(أي: من كان يوَدُّ أن يكونَ عزيزًا في الدُّنيا والآخرةِ، فليلزَمْ طاعةَ اللَّهِ تعالى؛ فإنَّ بها تُنالُ العِزَّةُ؛ إذ للهِ العِزَّةُ فيهما جميعًا) [6352] ((تفسير المراغي)) لأحمد مصطفى المراغي (22/112). .
ويقولُ الشِّنقيطيُّ: (بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ من كان يريدُ العِزَّةَ فإنَّها جميعَها للهِ وحدَه، فلْيَطلُبْها منه، وليتسَبَّبْ لنَيلِها بطاعتِه جلَّ وعلا؛ فإنَّ من أطاعه أعطاه العِزَّةَ في الدُّنيا والآخرةِ) [6353] ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/280). . و(هذه الحقيقةُ كفيلةٌ -حين تستَقِرُّ في القلوبِ- أن تُبدِّلَ المعاييرَ كُلَّها، وتُبَدِّلَ الوسائِلَ والخُطَطَ أيضًا، إنَّ العِزَّةَ كلَّها للهِ، وليس شيءٌ منها عِندَ أحدٍ سِواه؛ فمن كان يريدُ العِزَّةَ فليطلُبْها من مصدَرِها الذي ليس لها مصدرٌ غيرُه، ليطلُبْها عِندَ اللهِ؛ فهو واجِدُها هناك، وليس بواجِدِها عِندَ أحَدٍ، ولا في أيِّ كَنَفٍ، ولا بأيِّ سَبَبٍ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [6354] ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/280). .
- وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] .
قولُه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فهم الأعزَّاءُ، والمنافقون وإخوانُهم من الكُفَّارِ هم الأذلَّاءُ. وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذلك؛ فلذلك زعموا أنَّهم الأعزَّاء، اغترارًا بما هم عليه) [6355] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 865). .
- وقال اللهُ تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء: 139] .
قال ابنُ كثيرٍ: (أخبر تعالى بأنَّ العِزَّةَ كلَّها للهِ وَحدَه لا شريكَ له، ولمن جعلَها له، كما قال في الآيةِ الأخرى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] ، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] ، والمقصودُ من هذا التَّهييجُ على طَلَبِ العِزَّةِ من جنابِ اللهِ، والالتجاءُ إلى عبوديَّتِه، والانتظامُ في جملةِ عبادِه المُؤمِنين الذين لهم النُّصرةُ في هذه الحياةِ الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ) [6356] ((تفسير ابن كثير)) (2/435). .
ويقولُ الطَّبريُّ: (فإنَّ الذين اتَّخذوهم -أي المنافقين- من الكافرين أولياءَ ابتغاءَ العِزَّةِ عندَهم، هم الأذلَّاءُ الأقلَّاءُ، فهلَّا اتَّخذوا الأولياءَ من المُؤمِنين، فيلتَمِسوا العِزَّةَ والمنَعةَ والنُّصرةَ من عِندِ اللهِ الذي له العِزَّةُ والمنَعةُ، الذي يعِزُّ من يشاءُ، ويُذِلُّ من يشاءُ، فيُعِزُّهم ويمنَعُهم) [6357] ((تفسير الطبري)) (9/319). .
- وقال اللهُ تبارك وتعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] .
في هذه الآيةِ الكريمةِ أدَبٌ قرآنيٌّ عظيمٌ، وتوجيهٌ ربَّانيٌّ كبيرٌ للثُّلَّةِ المُؤمِنةِ المجاهِدةِ والصَّابرةِ، يحثُّهم فيه على عَدَمِ الهوانِ الذي ينافي العِزَّةَ ويُضادُّها.
فهو أمرٌ للمُؤمِنين بالثَّباتِ على عِزَّتِهم، حتَّى في الأوقاتِ العصيبةِ؛ لتبقى العِزَّةُ ملازمةً لهم، لا تنفَكُّ عنهم في الضَّرَّاءِ والسَّرَّاءِ، في الفَرَحِ والحُزنِ، في الحَربِ والسِّلمِ، في النَّصرِ والهزيمةِ.
يقولُ الفخرُ الرَّازيُّ: (كأنَّه قال: إذا بحَثتُم عن أحوالِ القرونِ الماضيةِ علمتُم أنَّ أهلَ الباطلِ وإن اتَّفَقت لهم الصَّولةُ، لكِنْ كان مآلُ الأمرِ إلى الضَّعفِ والفُتورِ، وصارت دولةُ أهلِ الحقِّ عاليةً، وصولةُ أهلِ الباطِلِ مُندَرِسةً؛ فلا ينبغي أن تصيرَ صَولةُ الكُفَّارِ عليكم يومَ أحُدٍ سببًا لضَعفِ قَلبِكم، ولجُبنِكم وعَجْزِكم، بل يجِبُ أن يَقوى قَلبُكم؛ فإنَّ الاستعلاءَ سيَحصُلُ لكم، والقُوَّةَ والدَّولةَ راجِعةٌ إليكم) [6358] ((تفسير الرازي)) (9/ 371). .
- وقال اللهُ تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] .
في هذه الآيةِ الكريمةِ يُبَيِّنُ اللهُ تبارك وتعالى أنَّ العِزَّةَ على أهلِ الكُفرِ هي صفةٌ من صفاتِ جيلِ التَّمكينِ، الذين أحبَّهم اللهُ وأحبُّوه، وارتضاهم بديلًا عمَّن يرتدُّ عن دينِه، وبالمقابلِ فهم أذِلَّةٌ في تعامُلِهم مع إخوانِهم من أهلِ الإيمانِ، يخفِضون لهم الجَناحَ تواضُعًا، ويُلينون لهم القولَ.
يقولُ الشِّنقيطيُّ: (أخبر تعالى المُؤمِنين في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّهم إن ارتَدَّ بعضُهم فإنَّ اللهَ يأتي عوضًا عن ذلك المرتَدِّ بقومٍ من صفاتِهم الذُّلُّ للمُؤمِنين، والتَّواضُعُ لهم، ولِينُ الجانبِ، والقَسوةُ والشِّدَّةُ على الكافرين، وهذا من كمالِ صِفاتِ المُؤمِنين) [6359] ((أضواء البيان)) (1/ 415). .

انظر أيضا: