موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللَّهُ بيتَ مَدَرٍ [6360] مَدَر: الطِّينُ الصُّلبُ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/69). ولا وَبَرٍ [6361] الوَبَر: صوفٌ أو شَعرٌ. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) لعبد الرحمن المباركفوري (6/419). إلَّا أدخَله اللَّهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ به الكُفرَ)). وكان تميمٌ الدَّاريُّ يقولُ: قد عرَفْتُ ذلك في أهلِ بيتي، لقد أصاب من أسلَمَ منهم الخَيرَ والشَّرَفَ والعِزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافِرًا الذُّلَّ والصَّغارَ والجِزيةَ [6362] رواه أحمد (16957) واللفظ له، والطبراني (2/58) (1280)، والحاكم (8326). صحَّحه الحاكمُ على شرط الشيخينِ، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم: شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16957)، وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): (على شرطِ مسلمٍ، وله شاهدٌ على شرطِ مسلمٍ أيضًا)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/17): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). .
- وعن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ، قال: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يبقى على ظَهرِ الأرضِ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخله اللَّهُ كَلِمةَ الإسلامِ، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، إمَّا يُعِزُّهم اللَّهُ فيجعَلُهم من أهلِها، أو يُذِلُّهم فيَدينون لها)) [6363] رواه أحمد (23814) واللفظ له، وابن حبان (6701)، والطبراني (20/255) (601). صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (8324)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (1159)، وحسَّنه ابنُ عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/806). .
ففي هذا الحديثِ يُبَشِّرُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعِزِّ هذا الدِّينِ وتمكينِه في الأرضِ، وأنَّ هذا العِزَّ والتَّمكينَ سيكونُ سواءً بعِزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذليلٍ، أي: (أدخَل اللهُ تعالى كَلِمةَ الإسلامِ في البيتِ مُلتَبِسةً بعِزِّ شَخصٍ عزيزٍ، أي: يعِزُّه اللهُ بها؛ حيث قَبِلَها من غيرِ سَبيٍ وقتالٍ، "وذُلِّ ذليلٍ" أي: أو يُذِلُّه اللهُ بها حيثُ أباها، والمعنى: يُذِلُّه اللهُ -بسَبَبِ إبائِها- بذُلِّ سَبيٍ أو قتالٍ، حتى ينقادَ إليها كَرهًا أو طَوعًا، أو يُذعِنَ لها ببَذلِ الجِزيةِ. والحديثُ مُقتَبَسٌ من قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] ، ثمَّ فسَّر العزَّ والذُّلَّ بقولِه: "إمَّا يُعِزُّهم" أي: قومًا أعزُّوا الكَلِمةَ بالقَبولِ، "فيَجعَلُهم من أهلِها" بالثَّباتِ إلى المماتِ، "أو يُذِلُّهم" أي: قومًا آخرين لم يلتفتوا إلى الكَلِمةِ وما قَبِلوها، فكأنَّهم أذلُّوها؛ فجُوزوا بالإذلالِ جزاءً وِفاقًا، "فيَدينون لها"... أي: يطيعون وينقادون لها) [6364] ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (1/ 116). .
- و((أرسل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى عُيَينةَ بنِ حِصنِ بنِ حُذَيفةَ، والحارِثِ بنِ عَوفِ بنِ أبى حارثةَ، رئيسَي غَطَفانَ، فأعطاهما ثُلُثَ ثمارِ المدينةِ، وجرت المراوضةُ [6365] المراوَضةُ: التَّساوُمُ، من: راضه يروضُه، أي: كُلُّ واحدٍ منهما يروضُ صاحِبَه؛ ليَسلَسَ له وينقادَ على ما يريدُ منه. يُنظَر: ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (3/ 197). في ذلك، ولم يتِمَّ الأمرُ، فذكر ذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لسَعدِ بنِ مُعاذٍ وسَعدِ بنِ عُبادةَ، فقالا: يا رسولَ اللهِ، أشيءٌ أمرك اللهُ به فلا بُدَّ لنا منه؟ أم شيءٌ تحِبُّه فنصنَعُه، أم شيءٌ تصنَعُه لنا؟ قال: بل شيءٌ أصنعُه لكم، واللهِ ما أصنعُ ذلك إلَّا أني رأيتُ العربَ قد رمَتْكم عن قوسٍ واحدةٍ [6366] أي: اجتمعوا عليهم بالعداوةِ. وهو مَثَلٌ في الاتِّفاقِ. يُنظَر: ((شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم)) لنشوان (8/ 5661)، ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) للفيومي (2/ 519). . فقال سعدُ بنُ معاذٍ: يا رسولَ اللهِ، قد كنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللَّهِ وعبادةِ الأوثانِ، وهم لا يُطيقون أن يأكُلوا منها تمرةً إلَّا قِرًى [6367] القِرَى: ما يُهَيَّأُ للضَّيفِ من طعامٍ ونُزُلٍ. يُنظَر: ((مشارق الأنوار على صحاح الآثار)) للقاضي عياض (2/ 181). أو بيعًا، فحين أكرَمَنا اللهُ تعالى بالإسلامِ، وهدانا له، وأعزَّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! واللهِ لا نعطيهم إلَّا السَّيفَ. فصَوَّب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأيَه، وتمادَوا على حالِهم)) [6368] ذكره ابن حزم في ((جوامع السيرة)) (ص: 188). .
وهكذا كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرَبِّيهم على معاني العِزَّةِ، ويَغرِسُها في قلوبِهم غَرسًا.

انظر أيضا: