موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (32-33)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

مشكل الإعراب:

قَوْلُه تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
أَن يُتِمَّ: مَصدرٌ مُؤَوَّلٌ، وهو في محلِّ نَصبٍ، مَفعولٌ به، والاستثناءُ هنا مُفرَّغٌ- ناقِصٌ مَنفيٌّ- وإنما دَخَلَ الاستثناءُ المفرَّغُ مع الفِعلِ الْمُثْبَتِ يَأْبَى- وشَرطُ الاستثناءِ المُفَرَّغِ أن يكونَ بعد نفيٍ أو شِبْههِ كالاستفهامِ [479] قال الشيخ خالد الأزهري: (ولا يتأتَّى التَّفريغُ في الإيجابِ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى الاستبعادِ؛ لا نقولُ: رأيتُ إلَّا زيدًا؛ لأنَّه يلزَمُ منك أنَّك رأيتَ جَميعَ النَّاسِ إلَّا زيدًا، وذلك محالٌ عادةً). يُنظر: ((شرح التصريح)) (1/540). - ولكِنْ أحصى الدكتور: محمد عبد الخالق عضيمة آياتِ الاستثناءِ في القرآنِ الكَريمِ، فوجَدَ ثمانيَ عَشْرةَ آيةً، جاء فيها الاستثناءُ المُفَرَّغُ بعد الإيجابِ، وبعض هذه الآياتِ جاء الإثباتُ فيها مُؤَكَّدًا؛ ممَّا يُبعِدُ تأويلَ هذا الإثباتِ بنَفيٍ، مثلُ قَولِه تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45] . وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة: 143] . لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [يوسف: 66] ... ثمَّ قال: فإنَّنا لو سَلَكْنا هذا الطَّريقَ وسَوَّغْنا هذا التَّأويلَ، ما وَجَدْنا في لغةِ العَرَبِ إثباتًا يستعصي على تأويلِه بالنَّفيِ. يُنظر: ((دراسات لأسلوب القرآن الكريم)) (1/7- 266). ويُنظَرُ أيضًا: ((التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل)) لأبي حيان الأندلسي (8/178). - لأنَّ يَأْبَى في معنى النَّفيِ؛ لأنَّه في معنى (لا يُريِدُ)، والتَّقديرُ: ولا يُريدُ اللهُ إلَّا إتمامَ نُورِه. وقيل: إنَّ المُستثنى منه مَحذوفٌ، وهو مفعولُ يَأْبَى، والتَّقديرُ: ويأبى اللهُ كُلَّ شيءٍ إلَّا إتمامَ نورِه، وعليه فـ أَنْ يُتِمَّ في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ [480] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/327)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/641)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/40-41)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/73). .    

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ أهلَ الكِتابِ يُريدونَ أن يُبطِلوا دينَ اللهِ الإسلامَ، بما يَقولونَه بألسِنَتِهم مِن تكذيبٍ للحَقِّ، وافتراءاتٍ عليه، ولا يَرضى اللهُ إلَّا أن يُتِمَّ دِينَه ويُظهِرَه للنَّاسِ، ولو كَرِه الكافِرونَ، ويُخبِرُ تعالى أنَّه هو الذي أرسَلَ رَسولَه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهُدى، وبِدِينِ الإسلامِ؛ لِيُظهِرَه على سائِرِ الأديانِ، ولو كَرِه المُشرِكونَ.

تفسير الآيتين:

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وَهَّى اللهُ سُبحانَه أمْرَ أهلِ الكِتابِ مِن جِهةِ استنادِهم، زاد ذلك توهيةً مِن جِهةِ مُرادِهم؛ بالإعلامِ بأنَّهم بقِتالِهم لأهلِ الطَّاعةِ إنَّما يُقاتِلونَ اللهَ تعالى، وأنَّه لا يُنَفِّذُ غَرَضَهم، بل يريدُ غَيرَ ما يريدونَ، ومِن المُقَرَّرِ أنَّه لا يكونُ إلَّا ما يريدُ سُبحانه [481] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/443). .
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ.
أي: يريدُ اليَهودُ والنَّصارى أن يُبْطِلوا دينَ اللهِ الإسلامَ، بما يقولونَه بألسِنَتِهم مِن تكذيبٍ للحَقِّ، وافتراءاتٍ عليه [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/421)، ((البسيط)) للواحدي (10/388)، ((تفسير البغوي)) (2/340)، ((تفسير ابن عطية)) (3/26)، ((تفسير البيضاوي)) (3/79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 335)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/171). قال ابن كثير: (مَثَلُهم في ذلك كمَثَلِ مَن يريدُ أن يُطفِئَ شُعاعَ الشَّمسِ، أو نورَ القَمرِ بنَفْخِه! وهذا لا سبيلَ إليه، فكذلك ما أَرسَلَ اللهُ به رسولَه؛ لا بُدَّ أن يَتِمَّ ويَظهَرَ). ((تفسير ابن كثير)) (4/136). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 7، 8].
وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ.
أي: ولا يَرضى اللهُ إلَّا أن يُتِمَّ دينَه، ويُظهِرَه للنَّاس [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/421)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/444)، ((تفسير ابن عطية)) (3/26)، ((تفسير البيضاوي)) (3/79). .
كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3].
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
أي: ولو كَرِهَ الكُفَّارُ إتمامَ اللهِ دينَه، فإنَّه سيُتِمُّه لا محالةَ [484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/421)، ((تفسير ابن كثير)) (4/136)، ((تفسير الشوكاني)) (2/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 335)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/172)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/450). .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكى اللهَ تعالى عن الأعداءِ أنَّهم يُحاوِلونَ إطفاءَ نورِ الله، وبيَّنَ تعالى أنَّه يأبى ذلك، وأنَّه يُتِمُّ نورَه- بَيَّنَ كيفيَّةَ ذلك الإتمامِ [485] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/32). ، وبيَّنَ النُّورَ المَذكورَ الذي قد تكَفَّلَ بإتمامِه وحِفْظِه، فقال تعالى [486] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:335). :
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.
أي: اللهُ وَحْدَه هو الذي بعَثَ رَسولَه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بالعِلمِ النَّافِعِ المُشتَمِل على الإيمانِ الصَّحيحِ، ومعرفةِ الشَّرائِعِ والأحكامِ، وبَعَثَه بدِينِ الإسلامِ المُشتَمِل على الأعمالِ الصَّالحةِ النَّافعةِ في الدُّنيا والآخرةِ [487] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/422)، ((تفسير ابن عطية)) (3/26)، ((تفسير ابن كثير)) (4/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 335)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/173)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/450). .
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
أي: ليُعلِيَ اللهُ الإسلامَ بالغَلَبةِ والانتصارِ على أهلِ الأديانِ، ويُعلِيَه بالحُجَّةِ والبُرهانِ على سائرِ الأديانِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/422)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (2/116)، ((تفسير ابن عطية)) (3/26)، ((تفسير الرازي)) (16/33)، ((تفسير الخازن)) (2/354)، ((تفسير أبي حيان)) (5/406)، ((تفسير ابن كثير)) (4/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 335)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/451). قال الرازي: (لا دينَ بخلافِ الإسلامِ، إلَّا وقد قَهَرَهم المسلمونَ، وظَهَروا عليهم في بعضِ المواضِعِ، وإن لم يكُن كذلك في جميعِ مَواضِعِهم، فقَهَروا اليهودَ وأخرَجُوهم من بلادِ العَرَب، وغَلَبوا النَّصارى على بلادِ الشَّامِ وما والاها إلى ناحيةِ الرُّومِ والغَرْبِ، وغَلَبوا المجوسَ على مُلْكِهم، وغَلَبوا عُبَّادَ الأصنامِ على كثيرٍ مِن بلادِهم ممَّا يلي التُّركَ والِهندَ، وكذلك سائِرُ الأديان؛ فثبت أنَّ الذي أخبَرَ الله عنه في هذه الآيةِ قد وقع وحصَل، وكان ذلك إخبارًا عن الغَيبِ، فكان مُعجِزًا). ((تفسير الرازي)) (16/33). وقال ابن عاشور: (ظهورُ الإسلامِ على الدِّينِ كُلِّه حصَلَ في العالَمِ، باتِّباعِ أهلِ المِلَلِ إيَّاه في سائِرِ الأقطار، بالرَّغمِ على كراهِيةِ أقوامِهم وعظماءِ مِلَلِهم ذلك، ومُقاوَمَتِهم إيَّاه بكلِّ حِيلةٍ، ومع ذلك فقد ظهرَ وعلا، وبان فضلُه على الأديانِ التي جاوَرَها... ولا يلزَمُ مِن إظهارِه على الأديانِ أن تنقَرِضَ تلك الأديانُ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/173، 174). وقال الألباني: (تُبَشِّرُنا هذه الآيةُ الكَريمةُ بأنَّ المُستقبَلَ للإسلامِ، بسَيطَرتِه وظُهورِه وحُكْمِه على الأديانِ كلِّها، وقد يظُنُّ بعضُ النَّاسِ أنَّ ذلك قد تحقَّقَ في عهدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعهدِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ والملوكِ الصَّالحين، وليس كذلك، فالذي تحقَّقَ إنَّما هو جزءٌ مِن هذا الوَعدِ الصَّادِقِ). ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/31). .
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى. فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إن كنْتُ لَأظَنُّ حين أنزَلَ اللهُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أنَّ ذلك تامًّا! قال: إنَّه سيكونُ من ذلك ما شاءَ اللهُ )) [489] رواه مسلم (2907). .
وعن ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوَى ليَ الأرضَ [490] زَوَى لي الأرضَ:أي: قَبَضَها وطَوَاها، وجَعَلَها مجموعةً كَهَيئةِ كَفٍّ في مرآةِ نَظَرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (9/3676). ، فرأَيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتِي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها )) [491] رواه مسلم (2889). .
وعن خبَّابِ بن الأرَتِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((شَكَوْنا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكَعبةِ، قُلنا له: ألَا تَستَنصِرُ لنا، ألَا تدعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجُلُ فيمن قبلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه، فيُشَقُّ باثنَتَينِ، وما يصدُّه ذلك عن دينِه، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحَديدِ ما دونَ لَحمِه مِن عَظمٍ أو عصَبٍ، وما يصُدُّه ذلك عن دينِه، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضرمَوتَ، لا يخافُ إلَّا اللهَ، أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلون )) [492] رواه البخاري (3612). .
وعن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعْتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لَيَبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ، أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ)) [493] أخرجه أحمد (16957)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (6155)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/58) (1280)، والحاكم في ((المستدرك)) (8326). قال الحاكم (5/615): صحيح على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/17): رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): على شرط مسلم. .
  وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
أي: ولو كَرِهَ المشركونَ ظُهورَ الإسلامِ على جميعِ الأديانِ، فإنَّ اللهَ سيُظهِرُه [494] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 335)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/174). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بُشرى وتثبيتٌ لأهلِ الإسلامِ الدَّاعِينَ له العاملينَ به، أنَّ اللهَ سبحانَه قد تكَفَّلَ لهذا الأمرِ بالتَّمامِ والظُّهورِ على جميعِ الأديانِ، وأنَّه لا بُدَّ أنْ يكونوا على ثِقةٍ مِن هذا الوعدِ الذي لا بدَّ أنْ يُنجِزَه سبحانَه [495] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/280). .
2- بعثَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إلى النَّاسِ؛ فبالهدى يُعرَفُ الحقُّ، وبدينِ الحَقِّ يُقصَدُ الخيرُ ويُعمَلُ به، فلا بدَّ مِن عِلْمٍ بالحَقِّ، وقصْدٍ له، وقُدرةٍ عليه، والفتنةُ تضادُّ ذلك؛ فإنَّها تمنعُ معرفةَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها من الشُّبُهاتِ التي تَلبِسُ الحقَّ بالباطِلِ، أو تمنَعُ قصدَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها من الأهواءِ والشَّهواتِ، أو تمنعُ القُدرةَ على الخيرِ؛ لِمَا فيها من ظهورِ قُوَّةِ الشَّرِّ [496] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/547). .
3- الوَعدُ الحَقُّ مِن اللهِ، الدَّالُّ على سُنَّتِه التي لا تتبَدَّلُ: أنَّه مُتِمُّ نُورِه بإظهارِ دِينِه، ولو كَرِهَ الكافِرونَ، وهو وعدٌ تطمَئِنُّ له قلوبُ الذين آمَنوا، فيدفَعُهم هذا إلى المُضِيِّ في الطَّريقِ على المشَقَّةِ واللَّأواءِ في الطَّريقِ، وعلى الكَيدِ والحَربِ مِن الكافرينِ؛ قال الله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 

الفوائد العلمية واللطائف:


1- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بيانُ أنَّه لا هُدَى إلَّا فيما جاء به الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يَقبلُ اللهُ مِن أحدٍ دينًا يَدينُه به إلَّا أنْ يكونَ مُوافِقًا لدينِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد نزَّه سبحانه وتعالى نفسَه عمَّا يَصِفُه به العبادُ إلَّا ما وصفَه به المُرسَلونَ، فقال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 180-181] وسلَّمَ على المُرسَلينَ؛ لِسَلامةِ ما وصَفُوه به مِن النَّقائِصِ والعُيوبِ [499] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/152). .
2- كثيرًا ما يجمَعُ سُبحانه بين هذينِ الأصلَينِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لأنَّ بهما تمامَ الدَّعوةِ، وظهورَ دِينِه على الدِّين ِكُلِّه [500] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/14). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ كالبَيانِ لِقَولِه تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؛ ولذلك كَرَّرَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، غيرَ أنَّه وضَعَ الْمُشْرِكُونَ مَوضِعَ الْكَافِرُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم ضَمُّوا الكُفرَ بالرَّسولِ إلى الشِّركِ باللهِ تعالى [501] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/606). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لزِيادةِ إثارةِ غَيظِ المُسلِمينَ على أَهْلِ الكتابِ، بكَشْفِ ما يُضمِرونَه للإسلامِ من المُمالاةِ، والتألُّبِ على مُناوأةِ الدِّينِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/171). .
- وقد مَثَّلَ حالَهم في طَلبِهم أنْ يُبطِلوا نُبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتكذيبِ، بحالِ مَن يُريدُ أنْ يَنْفُخَ في نُورٍ عَظيمٍ مُنبَثٍّ في الآفاقِ، يُريدُ اللهُ أنْ يَزيدَه ويُبلِغَه الغايةَ القُصْوى في الإشراقِ أو الإضاءةِ؛ ليُطْفئَه بنَفخِه ويَطْمِسَه، ومِن كمالِ بلاغةِ هذا الكلامِ أنَّه صالحٌ لتَفكيك التَّشبيهِ؛ بأن يُشبَّهَ الإسلامُ وحْدَه بالنُّورِ، ويُشبَّهَ مُحاوِلُو إبطالِه بمُريدِي إطفاءِ النُّورِ، ويُشَبَّهُ الإرجافُ والتَّكذيبُ بالنَّفخِ، ومِن الرَّشاقةِ أنَّ آلةَ النَّفخِ وآلةَ التَّكذيبِ واحدةٌ، وهي الأفواهُ [503] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/171). ، وهذا التَّمثيلُ له دَلالتانِ؛ الأُولى: قوَّةُ نورِ اللهِ، وظُهورُ أَمْرِهِ، حتَّى مَثَلَ أمامَهم نورًا حقيقيًّا، كنُورِ الشَّمْسِ. والثانيةُ: ضَعْفِ كَيدِ الكافرين؛ لأنَّ كُلَّ مُحاولاتِهم لم تَكَدْ تَعْدو النَّفْخَ بأفواهِهم، وما ذلك بمُحقِّقٍ لهم ما يُريدونَ [504] يُنظر: ((خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية)) للمطعني (2/395-396). .
- قولُه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ في إضافةِ النُّورِ إلى اسمِ الجلالةِ بقولِه: نُورَ اللَّهِ: إشارةٌ إلى أنَّ مُحاولةَ إطفائِه عَبَثٌ، وأنَّ أصحابَ تِلك المحاولةِ لا يَبلُغون مُرادَهم [505] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/172). .
- وقولُهُ: بِأَفْوَاهِهِمْ تَعبيرٌ جميلٌ رشيقٌ؛ لأنَّ المعنى تمَّ بدُونِه؛ فجاءَ هو لإضافةِ ظِلالٍ رقيقةٍ على المعنى العامِّ، اكْتَسى بها جمالًا ورُواءً؛ فقد أفادتْ- أولًا- أنَّ كيدَهم للقرآنِ لم يَعْدُ كلماتٍ جوفاءَ اتَّهمُوه بها (أَساطيرُ الأوَّلين - رِئيٌ من الجِنِّ- شِعْرٌ- لو نَشاءُ لقُلْنا مِثْلَ هذا)؛ هذه الكلماتُ لم يَكُنْ لها نصيبٌ من الوجودِ سِوى التلفُّظِ بها لم تتمكَّنْ حتَّى من قُلوبِ قائليها، وهذا يدُلُّ على ضَعْفِ كيدِهم، وهى تُفيدُ- ثانيًا- أنَّ النُّورَ كان ماثلًا أمامَهم حتَّى قَصَدوه قصدًا في مكانٍ وجِهةٍ، وهذا يدلُّ على ظُهورِ أَمْرِ اللهِ، وقوَّةِ انْتِصارِه، وهى تُفيد - ثالثًا - أنَّ هذا النُّورَ لم يَكُنْ لأيِّ عامِلٍ آخَرَ أنْ يُطْفِئه (ريحٌ شديدةٌ مثلًا، أو عاصِفةٌ مُدمِّرةٌ)؛ فهو قائمٌ رَغْمَ هذه التقلُّباتِ التي لا يَكادُ يَخْلو منها وَقتٌ؛ فكيف يَتسنَّى لهم أنْ يُطْفِئوه بأفواهِهِم؟! إنَّه نُورٌ قويٌّ باهِرٌ، وسيَظلُّ- هكذا- نُورًا باهرًا قويًّا، ولو كَرِهَ الكافرون [506] يُنظر: ((خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية)) للمطعني (2/395-396). .
- ومِن محاسِنِ البيانِ أيضًا في قولِه تعالى: نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ أنَّ فيه إضافَتينِ؛ إحْداهُما: إضافةُ النُّورِ إلى اللهِ تعالى: نُورَ اللَّهِ، والمُرادُ به دِينُ الإسلامِ، والأُخْرى إضافةُ الأفواهِ، وهي الآلةُ المُستَعْملةُ للإطفاءِ إلى جماعةِ المُريدينَ لإطفاءِ النُّورِ: بِأَفْوَاهِهِمْ وعند التَّأمُّلِ في الإضافةِ الأُوْلى: نُورَ اللَّهِ يتَّضِحُ أنَّ النُّورَ المُضافَ قَدْ اكْتَسَبَ قَدْرًا مِن خَصائصِ القوَّةِ والعَظَمةِ والشَّرَفِ والعُلوِّ والبَقاءِ من المضافِ إليه (الله)، ثم تأتي الإضافةُ الأُخْرى: بِأَفْوَاهِهِمْ بإضافةِ الأفواهِ الضَّعيفةِ إلى نفَرٍ مِن البَشَرِ المخلوقينَ الضُّعفاءِ؛ فالمضافُ فيها- وهو كلمةُ: (أفواهٍ)- على ما فيه من الضَّعْفِ العُضويِّ والعَضَليِّ يَزدادُ ضعفًا من خلال إضافتِه إلى الضَّميرِ المُتَّصِلِ (هُمْ) العائدِ إلى أولئك المخلوقينَ المهازيلِ، وهذا مِن عجيبِ البَيانِ؛ إذ يَجْمعُ أَمْرَين؛ أحدُهما: التَّهكُّمُ بإرادتِهم، وزعْمِهم أنَّه نورٌ ضعيفٌ يُمكِنُ أنْ يَنطفِئ بمجرَّد النَّفخِ، والآخَرُ: تَصغيرُ شأنِهم، وتَضعيفُ كيدِهم؛ فهم بالمقارنةِ مع قوَّةِ الخَالقِ العظيمِ ضُعفاءُ، مهما أُوتُوا مِن قوَّةٍ، ومَحْدُودون مهما اسْتَعْملوا من آلةٍ وأداةٍ؛ فكيف إذا كانتْ أداةُ الإطفاءِ أفواهَهم [507] يُنظر: ((تأمّلات لُغوية في آيتين)) لخالد بن إبراهيم النملة (موقع البيان). ؟
- وقولُه: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ فيه إظهارُ النُّورِ في مَقامِ الإضمارِ مُضافًا إلى ضَميرِهِ عزَّ وجلَّ؛ زيادةً في الاعتِناءِ بشأنِهِ، وتَشريفًا له على تشريفٍ، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكْم [508] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/61). .
- و(لو) في قولِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ اتَّصاليَّةٌ، وهي تُفيدُ المبالغةَ بأنَّ ما بَعْدَها أجدرُ بانْتِفاءِ ما قَبْلَها لو كان مُنْتفيًا [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/172). .
2- قَولُه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ عبَّرَ عن الإسلامِ بالهُدى ودينِ الحَقِّ؛ تنويهًا بِفَضلِه، وتعريضًا بأنَّ ما هم عليه ليس بهُدًى ولا حقٍّ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/173). .
- قولُهُ: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خُصَّ المشرِكون هنا بالذِّكْرِ؛ لأنَّ الكَراهةَ كراهةٌ مُختصَّةٌ بظهورِ دِينِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ ظهورَ دينِ الإسلامِ أشدُّ حسرةً على المشركين مِن كلِّ أُمَّةٍ؛ لأنَّهم الذين ابتدءُوا بمعارضتِه وعداوتِه، ودَعَوا الأُممَ للتألُّبِ عليه، واستَنْصروا بهم، فلم يُغنوا عنهم شيئًا، ولأنَّ أتمَّ مظاهرِ انتصارِ الإسلامِ كان في جزيرة العربِ، وهي ديارُ المشركينَ، وخُصَّ الكافرون قَبْلُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ؛ لأنَّها كراهةُ إتمامِ نُورِ اللهِ في قَديمِ الدَّهْرِ، وباقِيه يَعُمُّ الكَفَرةَ من لَدُنْ خَلْقِ الدُّنيا إلى انْقِراضِها، ووَقعتِ الكراهةُ والإتمامُ مِرارًا كثيرةً [511] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/407)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/174). .
- وفي هاتَينِ الآيتَينِ مُناسَباتٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا في سُورةِ التَّوبةِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، بَينمَا قال عزَّ وجَلَّ في سُورةِ الصَّفِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8-9] ؛ فقال تعالى في الآيةِ الأُولى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، وقال في الثَّانية: لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ: فاختُصَّتِ الأُولى بـ (أنْ)، والثانيةُ باللَّامِ دون (أنْ)؛ ووجْهُ هذِه المناسَبةِ: أنَّ الإرادةَ في الآيةِ الأُولى تَعلَّقتْ بإطفاءِ نُورِ اللهِ بأفواهِهم، وإطفاءُ نورِ اللهِ إنَّما يكونُ بما حاوَلوا مِن دَفْعِ الحَقِّ بالباطِلِ؛ فالحقُّ يُسمَّى نُورًا؛ لأنَّ حُجَجَه وبَراهينَه تُضيءِ لطالبِه بها إليه، والباطِلُ هو قولُهم بأفواهِهم، وهو ما أخْبَر اللهُ تعالى به قبلُ عن اليهودِ والنَّصارَى بقولِه: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30] ، أي: هو قولٌ لا حَقيقةَ له، ولا مَحصولَ، وبمِثلِه لا يُدفَعُ الحقُّ، وبالأفواهِ لا يُطفأُ هذا النورُ كما يُطفأُ السِّراجُ؛ لأنَّ هذا النُّورَ، وإنْ أَشْبَهَه في أنَّه يَهدِي، ويُبيِّن الحقَّ مِن الباطِل، فهو بخِلافِه في الامتِناعِ من الإطفاءِ كما يَتهيَّأ ذلك في السِّراجِ.
وأمَّا الآيةُ في سُورةِ الصَّفِّ، وتَعليقُ الإرادةِ فيها بالإطفاءِ مع زِيادةِ اللامِ، فعلى قولِ المحقِّقينَ مِن النَّحويِّين، فالفعلُ بعدَ هذه اللَّامِ مُعدًّى إلى مفعولٍ مَحذوفٍ، واللَّامُ الداخلةُ على الفِعلِ المنصوبِ تكونُ مُنبِئةً على العِلَّةِ التي لها أُنشِئَ الفِعلُ، والمرادُ في الآيةِ على هذا التَّحقيقِ: يُريدون أنْ يكذبوا؛ ليُطْفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم؛ لأنَّ قَبْلَها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ [الصف: 7] ؛ فقوله: يُرِيدُونَ لم يُذْكَر فيه مفعولُ ما يُريدونَ؛ اعتمادًا على ما نَبَّه عليه بقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فكأنَّه قِيل: يُريدونَ افتراءَ الكذبِ؛ ليُطْفِئوا نورَ الله؛ فلهذا خُصَّتِ الآيةُ الثانيةُ بدُخولِ اللَّامِ على (يُطْفِئوا)، ولَمَّا كان المرادُ في الآيةِ الأُولَى الإطفاءَ بالأفواهِ لِمَا دَلَّ عليه مُفتَتحُ الآياتِ، وهو قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة: 30] ، كانتِ الإرادةُ مُعدَّاةً إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ تعالى بأفواهِهم، أي: يُريدونَ أنْ يَدْفعوا الحقَّ بالباطِلِ مِن أفواهِهم [512] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/704-709)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 136). .
وأيضًا مِمَّا يُبيِّنُ تِلك المناسباتِ ما يَلي:
أولًا: في الغاياتِ الظَّاهرةِ والمخفيَّةِ، حيثُ قال في التَّوبةِ: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا، وفي آيةِ الصَّفِّ قال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا، وقَبْلَ النَّظَرِ في دَلالاتِ هذا الاختلافِ بين الآيتَينِ، والمعنى الذي يُضيفُه دُخولُ اللامِ في الثَّانيةِ؛ يُشارُ إلى مُقدِّمة نَحْويَّةٍ يسيرةٍ تُعينُ على فَهْمِ المعنى، وهي أنَّ الفِعْلَ المُضارِعَ يُطْفِئُوا في الآيتَينِ منصوبٌ بـ (أنْ) الظَّاهِرةِ في الأُولى، والمُضْمَرةِ في الثَّانيةِ، وتَقديرُ الثَّانيةِ: يُريدونْ لأنْ يُطْفِئوا، و(أنْ) والفِعْلُ المضارعُ بَعْدَها تؤوَّلُ بمَصْدرِ (إطفاء)، وعلى هذا يكونُ التَّقديرُ في آيةِ التَّوبةِ: (يُريدون إطفاءَ نَورِ اللهِ)، وفي آيةِ الصَّفِّ: (يُريدونِ لإطفاءِ نورِ اللهِ)، وهذه اللَّامُ هي لامُ التَّعليلِ، وفي هذا الاختِلافِ اللَّفظيِّ بين الآيتَينِ إشارةٌ إلى أنَّهم يُغايرونَ في إظهارِ غاياتِهم وأهدافِهم؛ ففي آيةِ التَّوبةِ: هم يُريدون إطفاءَ نُورِ اللهِ صَراحةً، وبصُورةٍ ظاهرةٍ ومباشِرةٍ؛ فالإطفاءُ (وهو المفعولُ به للفِعْلِ: يُريدونَ)، هو مُرادُهم عَلَنًا؛ فالغايةُ من إرادتِهم هنا ظاهرةٌ وصريحةٌ.
أمَّا آيةُ الصَّفِّ، وتَقديرُها: (يُريدونَ لإطفاءِ نُورِ اللهِ)؛ فالشَّيءُ المُرادُ فيها (وهو المفعولُ بِهِ للفِعْلِ: يُريدون) غيرُ مذكورٍ، أي: إنَّهم يُريدون مُراداتٍ مُخْتلِفةً يَجْعلونها وسائلَ مُوصِلةً في نهاياتِها إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ؛ فهم لا يُظهِرون عَلَنًا أنَّهم يُريدونَ الإطفاءَ، وإنَّما يُريدونَ أنْ يَصِلوا إلى الإطفاءِ من خلالِ طُرُقٍ غير مُباشِرةٍ تُوصِلُ في زَعْمِهم وتَدْبيرِهم إليه؛ ولذلك يَظهرونَ في هذه الحالِ بعباءاتٍ مُختلِفةٍ، ويَدْعُمون البرامجَ والمشروعاتِ، ويَرْفعونَ شِعاراتٍ إصلاحيَّةً في ظاهِرِها، لكِنَّها تتغيَّا في حقيقتِها إطفاءَ نُورِ اللهِ، وما مِن شكٍّ في أنَّ خُطورةَ هؤلاء في الحالِ الثَّانيةِ، وهي حالُ الغاياتِ المخفيَّةِ؛ أشدُّ من خطورتِهم في الحالِ الأُوْلى التي يُصرِّحون فيها بمُراداتِهم، ويُعلِنونَ فيها غاياتِهم.
وقدِ اتَّفقتْ الآيتانِ في البَدْءِ بالفِعْلِ المُضارِعِ: يُرِيدُونَ الذي يَدُلُّ على الحدوثِ والتَّجدُّدِ في الحاضِرِ والمُستقْبَلِ، ولم يأتِ التعبيرُ بالفِعْلِ الماضي (أَرَادُوا) الذي يَدُلُّ في الأَصْلِ على انْقِضاءِ حُدوثِ الفِعْلِ في الزَّمنِ الماضي؛ فهم يُريدونَ بصورةٍ مُتجدِّدةٍ ومُتكرِّرةٍ إطفاءَ نُورِ اللهِ مُنذُ ظهورِ ذلك النُّورِ إلى زمنِنا الحاضِرِ، وستتجدَّدُ معهم تلك الإرادةُ، وتَستمِرُّ ما بقي هذا النُّورُ الممتدُّ على مدَى الزَّمنِ المُتتابِعِ، وما بَقِيتْ فيهم قُوَّةٌ على النَّفْخِ؛ إنَّهم عَبْرَ التاريخِ لم يَقِفوا عند حدِّ انحرافِهم الشَّخصيِّ عن دِينِ الحَقِّ، واتِّباعِهم شهواتِهم، إنَّما هم كذلك يُعلِنونَ باستمرارٍ الحربَ على دِينِ الحَقِّ، ويُريدونَ إطفاءَ نُورِ اللهِ في الأرضِ.
ثانيًا: في الموقِفِ الرَّبَّانيِّ؛ حيثُ جاءَ الموقِفُ الربانيُّ من تلك الإراداتِ والغاياتِ في الآيتينِ مُختلِفًا في المَبْنى؛ ليُعطيَ المُتأمِّلَ دَلالاتٍ إضافيَّةً في المعنى، تَتناسَبُ مع اختلافِ الدَّلالاتِ في الغاياتِ في الآيتينِ: ففي آيةِ التَّوبةِ يَقولُ اللهُ تعالى بجُملةٍ فِعليَّةٍ حاصِرةٍ: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، والإباءُ: هو الامْتِناعُ بقوَّةٍ؛ فاللهُ تعالى هنا يأبى كُلَّ شيءٍ إلَّا إتمامَ نُورِهِ، وفي التَّعبيرِ بالفِعْلِ (يَأْبى) من المُبالَغةِ والدَّلالةِ على الامْتِناع ما ليس في نَفْي الإرادةِ، لو كان التَّعبيرُ: (ولا يُريدُ اللهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ)؛ فهم يُريدونَ إطفاءَ النُّورِ، واللهُ الذي له جميعُ العَظَمةِ وكمالُ القُدْرةِ والعِزِّ ونفوذُ الكَلَمةِ يَأْبى إلَّا أن يُتِمَّ نُورَه، ثُم يُجدِّدون الإرادةَ، واللهُ يَأْبَى ... وما تَزالُ إراداتُهم تَتجدَّد، ويتجدَّد معها إباءُ العظيمِ- جلَّ وعلَا- وامتناعُهُ من كلِّ شيءٍ إلَّا إتمام النُّورِ.
واسْتِعمالُ الجُملةِ الفِعْليَّةِ الحاصِرةِ بفِعْلِها المضارعِ (يَأْبَى) المُشعِرِ بقوَّةِ الامْتِناعِ؛ يَتناسَبُ مع الغايةِ الصَّريحةِ والجُرأةِ المُعلَنةِ التي ظَهَرتْ منهم في أَوَّلِ الآيةِ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ؛ فرايةُ الإطفاءِ لنُورِ اللهِ المُعلَنةُ بصراحةٍ وجُرأةٍ لا يُناسِبها إلَّا القوَّةُ في بيانِ الموقفِ الإلهيِّ.
أمَّا آيةُ الصَّفِّ التي جاءتْ إرادةُ الإطفاءِ فيها عَبْرَ الوسائلِ والأعوانِ والشِّعاراتِ الإصلاحيَّةِ: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [الصف: 8] ؛ فيُناسِبُها أنْ تكونَ صياغةُ الموقفِ الإلهيُّ فيها من خِلالِ الجُمْلةِ الاسميَّةِ الحاليَّةِ: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف: 8] ؛ التي تَدلُّ على الدَّوامِ والثُّبوتِ، أي: إنَّهم يُريدونَ أمورًا يُخادِعونَ فيها ويَكيدونَ؛ ليَصِلوا من خلالِها إلى إطفاءِ نُورِ اللهِ، فلربَّما شَعَروا بشَيءٍ من القُدْرةِ، ووَجَدوا من الأعوانِ مَنْ يَمُدُّهم بعَونِهِ بقصدٍ سيِّئٍ، أو بنيَّةٍ حَسَنةٍ، أو وَجَد بعضُ أَهْلِ الإيمانِ في نَفْسِهِ أنَّ الدِّينَ يَتضاءلُ، وأنَّ نُورَهُ آخِذٌ في الانحسارِ؛ فيأتي الموقِفُ الإلهيُّ الواعِدُ بدوامِ إتمامِ النُّورِ، وبخاصَّةٍ في الأحوالِ التي يُريدونَ فيها الإطفاءَ من خلالِ الدُّروبِ المُلتويةِ.
وإتمامُ النُّورِ الموعودُ به في الآيتينِ لا يَقْتصِرُ على مُجرَّدِ إشراقِه، بل الموقِفُ الإلهيُّ يَعِدُ بإكمالِه وإعلائِه، ويُبشِّرُ بتبليغِه غايتَه بنَشْرِه في الآفاقِ، وإظهارِهِ على الدِّينِ كُلِّهِ، حتى يَبْلُغَ ما بَلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، وحتَّى لا يَبْقى بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أَدْخَلَ اللهُ فيه هذا النُّورَ.
لقدِ اجْتَمعتْ في معاني هاتَينِ الآيتَينِ الصُّورُ التكامُليَّةُ التي تُظهِر بتفنُّنٍ حالَ دِينِ الحَقِّ، وإراداتِ أعدائِه وغاياتِهم ضِدَّهُ، والموقِفُ الرَّبَّانيُّ الذي يَختِمُ فيه المؤمنُ قراءتَهُ المُتدبِّرةَ لهاتينِ الآيتينِ، لكنَّ البيانَ لم يَقِفْ عند هذا الحدِّ؛ إذ يتأكَّدُ المعنى من خلالِ الكلمةِ الختاميَّةِ الوارِدةِ بَعْدَ الآيتينِ في السُّورتين بلَفْظٍ واحدٍ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ؛ فهو سُبْحانه قد أَرْسَلَ رَسولَهُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حاملًا لمنهجِ النُّورِ والهُدى ودِينِ الحَقِّ؛ ليُظْهِرَ رِسالتَهَ على جميعِ الرِّسالاتِ، ولم يُرْسِلْه لتَنْتصِرَ على رِسالتِهِ إراداتُ النَّافخينَ [513] يُنظر: ((تأمّلات لُغوية في آيتين)) لخالد بن إبراهيم النملة (موقع البيان). .
- ومِن المُناسَبةِ الحَسنَةِ أيضًا: أنَّ آيةَ التَّوبةِ زادتْ على آيةِ الصَّفِّ عَشْرةَ أحرفٍ؛ ووجْهُ ذلك أنَّ زيادةَ آيةِ التَّوبةِ مُقابَلٌ بها ما ورَد من الطُّولِ في المحكيِّ في هذِه السُّورةِ مِن قولِ الطائَفتَينِ مِن اليَهودِ والنَّصارَى؛ قال تعالى حاكيًا عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ... الآيةَ [التوبة: 30] ؛ فوقَع في المحكيِّ هنا طُولٌ اقتَضى ما بُني جوابًا عليه؛ ليتناسَبَ. وأمَّا آيةُ الصَّف فمُقابَلٌ بها قولُ عيسى عليه السَّلامُ لَمَّا قال لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، ثم قال تَعالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] ، وإنَّما الجوابُ على المحكيِّ مِن قولِهم خاصَّةً، وهو قولهم: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وليس هذا في الطُّولِ وعِدَّةِ الكَلِمِ المحكيِّ في سُورة بَراءة؛ فالواقعُ في سُورةِ بَراءة سِتُّ كَلِماتٍ، وفي الصَّفِّ ثلاثُ كَلِماتٍ، ثمَّ إنَّ الواقِعَ في سُورةِ بَراءة مقالُ طَائفتَينِ (اليهود والنَّصارى) مُفْصَحًا به، والواقِعَ في الصَّفِّ مقالةُ طَائفةٍ واحدةٍ، وهذا مُراعًى؛ فوَرَد كلٌّ مِن الآيتَينِ مُناسِبًا لِمَا اتَّصل به وعلى ما يَجِبُ في السُّورتَينِ [514] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/228-229). .