موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من الشَّفَقةِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


1- شَفَقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَّتِه:
كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شفيقًا على أمَّتِه، رحيمًا بهم، وشَفَقتُه ورحمتُه لم تكُنْ خاصَّةً بالمؤمِنين، بل كان يُشفِقُ على الكافِرين ممَّن لا يَدينُ بدينِ الإسلامِ. ونشيرُ هنا إلى بعضِ النَّماذجِ؛ فمن ذلك:
- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديثِ الشَّفاعةِ: ((أمَّتي أمَّتي)) [5232] رواه البخاري (7510)، ومسلم (193) مطولًا. .
قال البَيهقيُّ: (فصلٌ في حَدبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَّتِه ورأفتِه بهم؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ... [التوبة: 128] قال الفارسيُّ أبو الحُسَينِ: (انظُرْ هل وصَف اللهُ عزَّ وجَلَّ أحدًا من عبادِه بهذا الوصفِ من الشَّفَقةِ والرَّحمةِ التي وصَف بها حبيبَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ألَا تراه في القيامةِ إذا اشتَغَل النَّاسُ بأنفُسِهم، كيف يدَعُ حدَثَ نَفسِه، ويقولُ: ((أمَّتي أمَّتي))؟ يرجِعُ إلى الشَّفَقةِ عليهم، ويقولُ: إني أسلَمتُ نفسي إليك، فافعَلْ بي ما شئتَ، ولا تردَّني في شفاعتي في عبادِك) [5233] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (2/163). .
2- شَفَقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الكُفَّارِ:
عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّها قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ مِن يومِ أحُدٍ؟ قال: لقد لَقِيتُ مِن قومِك ما لقيتُ، وكان أشَدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عرضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عَبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقْتُ وأنا مهمومٌ على وَجهي، فلم أستفِقْ إلَّا وأنا بقَرنِ الثَّعالِبِ، فرفعْتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث اللهُ إليك ملَكَ الجِبالِ لتأمُرَه بما شئْتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجِبالِ، فسلَّم عليَّ، ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، فقال: ذلك فيما شئْتَ، إن شئْتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) [5234] رواه البخاري (3231) واللفظ له، ومسلم (1795). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وفي هذا الحديثِ بيانُ شَفَقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قومِه، ومزيدِ صَبرِه وحِلمِه، وهو موافِقٌ لقَولِه تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ، وقولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) [5235] ((فتح الباري)) (6/316). .
3- شفقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أصحابِه:
- عن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما أنا لكم مِثلُ الوالِدِ أُعَلِّمُكم ...)) [5236] رواه مطولًا: أبو داود (8)، والنسائي (40) واللفظ له، وابن ماجه (313). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (1431)، والبغوي في ((شرح السنة)) (1/272)، والنووي في ((المجموع)) (2/95)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1/38)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1341). .
قال علي القاريُّ: («إنَّما أنا لكم مِثلُ الوالِدِ» أي: ما أنا لكم إلَّا مثلُ الوالِدِ في الشَّفَقةِ لولَدِه، «أعَلِّمُكم» أي: أمورَ دينَكم) [5237] ((مرقاة المفاتيح)) (1/380). .
- وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكَعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولدَتْك أمُّك! قال: قُلتُ: أمِنْ عِندِك يا رسولَ اللهِ، أم من عندِ اللهِ؟ قال: لا، بلْ من عندِ اللهِ)) [5238] رواه مطولًا البخاري (4418) واللفظ له، ومسلم (2769). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (وفى سُرورِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك وفرَحِه به واستنارةِ وَجْهِه دليلٌ على ما جعَل اللهُ فيه من كمالِ الشَّفَقةِ على الأمَّةِ، والرَّحمةِ بهم والرَّأفةِ، حتَّى لَعَّل فَرَحَه كان أعظَمَ من فَرَحِ كعبٍ وصاحِبَيه) [5239] ((زاد المعاد)) (3/585). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((حاصر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهلَ الطَّائِفِ، فلم يَنَلْ منهم شيئًا. فقال: إنَّا قافلون [5240] قافِلون: أصلُه الرُّجوعُ، ولا تُسَمَّى قافلةً إلَّا إذا رجعَت، وقد يُطلَقُ في الابتداءِ عليها تفاؤُلًا. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/175). إن شاء الله. قال أصحابُه: نرجِعُ ولم نفتَتِحْه! فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اغْدُوا على القتالِ، فغَدَوا عليه، فأصابهم جِراحٌ. فقال لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا قافِلون غدًا. قال: فأعجَبَهم ذلك، فضَحِك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [5241] رواه البخاري (4325)، ومسلم (1778) واللفظ له. .
قال النَّوويُّ: (معنى الحديثِ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَصَد الشَّفَقةَ على أصحابِه والرِّفقَ بهم بالرَّحيلِ عن الطَّائِفِ؛ لصعوبةِ أمرِه، وشِدَّةِ الكُفَّارِ الذين فيه، وتقويتِهم بحِصنِهم، مع أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلِم أو رجا أنَّه سيفتَحُه بَعدَ هذا بلا مشقَّةٍ، كما جرى ...) [5242] ((شرح النووي على مسلم)) (12/124). .
4- شَفَقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأطفالِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، عن أبيه قال: ((خرج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إحدى صلاتَيِ العِشاءِ، وهو حامِلٌ حَسَنًا أو حُسَينًا، فتقَدَّم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضَعَه، ثمَّ كبَّر للصَّلاةِ، فصَلَّى، فسجد بين ظهرانَيْ صلاتِه سَجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي، وإذا الصَّبيُّ على ظَهرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو ساجِدٌ، فرجعتُ إلى سُجودي، فلمَّا قضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاة، قال النَّاسُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّك سجَدْتَ بَينَ ظهرانَيْ صلاتِك سجدةً أطَلْتَها، حتى ظنَنَّا أنَّه قد حدَث أمرٌ، أو أنَّه يُوحى إليك. قال: كُلُّ ذلك لم يكُنْ، ولكِنَّ ابني ارتحَلَني، فكَرِهْتُ أن أعجِلَه حتَّى يقضيَ حاجتَه!)) [5243] رواه النَّسائي (1141) واللفظ له، وأحمد (16033). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1141)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (475)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (25/ 420)، وذكَر ثبوتَه ابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (9/291). .
- عن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه: (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلِّي وهو حامِلٌ أمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأبي العاصِ بنِ الرَّبيعِ، فإذا قام حمَلَها، وإذا سجَد وضَعَها) [5244] رواه البخاري (516)، ومسلم (543) واللفظ له.
فمن رحمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفقتِه بأُمامةَ أنَّه كان إذا ركَع أو سجَد يخشى عليها أن تسقُطَ، فيضَعُها على الأرضِ.
قال النَّوويُّ: (وفيه ما كان عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الشَّفَقةِ على المؤمِنين والمؤمناتِ، ورحمتِهم ومواساتِهم فيما أمكَنه) [5245] ((شرح النووي على مسلم)) (14/166). .
- عن بُرَيدةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ، فجاء الحَسَنُ والحُسَينُ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعليهما قَميصانِ أحمرانِ يَعْثُرانِ  فيهما، فنَزَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَطَع كَلامَه، فحَمَلَهما ثمَّ عاد إلى المِنبَرِ، ثمَّ قال: صَدَقَ اللهُ: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28] ، رأيْتُ هذَينِ يَعثُرانِ في قَميصَيْهما، فلم أَصبِرْ حتَّى قَطعْتُ كَلامي فحَمَلْتُهما)) [5246] أخرجه أبو داود (1109)، والترمذي (3774)، والنسائي (1413) واللفظ له، وابن ماجه (3600)، وأحمد (22995). صحَّحه ابنُ حبان في ((الصحيح)) (6039)، والحاكم في ((المستدرك)) (1/424) -وقال: (على شرط مسلم)-، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1413)، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلم: الضياء المقدسي في ((السنن والأحكام)) (2/375)، والنووي في ((الخلاصة)) (2/803)، وابن عبد الهادي في ((تنقيح تحقيق التعليق)) (2/81). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا من كمالِ رحمتِه ولُطفِه بالصِّغارِ وشفَقتِه عليهم، وهو تعليمٌ منه للأمَّةِ الرَّحمةَ والشَّفَقةَ واللُّطَف بالصِّغارِ) [5247] ((عدة الصابرين)) (ص: 64، 65). .
5- شَفقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قومِه وأهلِه:
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، دعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قريشًا، فاجتَمَعوا فعَمَّ وخَصَّ، فقال: ((يا بني كَعبِ بنِ لُؤَيٍّ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني مُرَّةَ بنِ كَعبٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ شَمسٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ مَنافٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني هاشِمٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ المطَّلِبِ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا فاطِمةُ، أنقِذي نَفسَكِ من النَّارِ؛ فإنِّي لا أملِكُ لكم من اللهِ شيئًا)) [5248] أخرجه مسلم (204). .

انظر أيضا: