موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ من الشَّفَقةِ عندَ الأنبياءِ والمُرسَلين


كان الأنبياءُ صلواتُ اللهِ عليهم يحرِصون في التَّعامُلِ مع أقوامِهم على الرَّحمةِ بهم والشَّفَقةِ عليهم، فكانوا يُشفِقون عليهم بالرَّغمِ من إيذاءِ قومِهم لهم؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كأنِّي أنظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحكي نبيًّا من الأنبياءِ، ضربه قومُه فأدْمَوه [5224]  أَدْمَوه: جعَلوه صاحِبَ دمٍ خارجٍ من رأسِه. ((مرقاة المفاتيح)) للملا علي القاري (8/3330). ، فهو يمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه، ويقولُ: رَبِّ اغفِرْ لقومي؛ فإنَّهم لا يَعلَمون)) [5225] رواه البخاري (6929) واللفظ له، ومسلم (1792). .
قال النَّوويُّ: (فيه ما كانوا عليه -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- من الحِلمِ والتَّصبرِ والعفوِ، والشَّفَقةِ على قومِهم، ودعائِهم لهم بالهدايةِ والغُفرانِ، وعُذرِهم في جنايتِهم على أنفُسِهم بأنَّهم لا يعلَمون. وهذا النَّبيُّ المشارُ إليه من المتقَدِّمين، وقد جرى لنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ هذا يومَ أحُدٍ) [5226] ((شرح النَّووي على مسلم)) (12/150). .
- نوحٌ عليه السَّلامُ:
قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 45-46] .
قال السَّعديُّ: (لعلَّه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- حملَتْه الشَّفَقةُ، وأنَّ اللهَ وَعَده بنجاةِ أهلِه، ظَنَّ أنَّ الوعدَ لعُمومِهم؛ من آمَن ومَن لم يؤمِنْ؛ فلذلك دعا ربَّه بذلك الدُّعاءِ، ومع هذا ففَوَّض الأمرَ لحِكمةِ اللهِ البالغةِ) [5227] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 382). .
- إبراهيمُ عليه السَّلامُ:
كان نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ شفيقًا على النَّاسِ، وكان يجادِلُ عن قومِ لوطٍ، حتَّى لا يأتيَهم العذابُ، وذلك لغَلَبةِ الشَّفَقةِ عليه؛ قال تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود: 74 - 76] .
قال ابنُ عجيبةَ: (ظاهِرُ قولِه تعالى: يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ أنَّ مجادلتَه كانت عن قومِه فقط؛ لغلَبةِ الشَّفَقةِ عليه، كما هو شأنُه؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، حتَّى قال له تعالى: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا لمَّا تحتم عليهم العذابُ) [5228] ((البحر المديد)) (4/300-301). .
وقال أيضًا: (والحاصِلُ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ حملَتْه الشَّفَقةُ والرَّحمةُ حتى صدَر منه ما صدَر مع خُلَّتِه واصطفائيَّتِه؛ فالشَّفَقةُ والرَّحمةُ من شأنِ الصَّالحينَ والعارفينَ المقرَّبين، غيرَ أنَّ العارفين باللهِ مع مرادِ مولاهم، يُشفِقون على عبادِ اللهِ، ما لم يتعَيَّنْ مرادُ اللهِ؛ فاللهُ أرحَمُ بعبادِه من غيرِه، ولذلك قال لخليلِه، لَمَّا تعيَّن قضاؤه: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) [5229] ((البحر المديد)) (2/544). .
- يعقوبُ عليه السَّلامُ:
قال تعالى ذاكِرًا وصيَّةَ يعقوبَ لأبنائِه عندَ دُخولِهم مِصرَ: وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 67 - 68] .
قال الواحِديُّ: (قولُه: إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا يعني: أنَّ ذلك الدُّخولَ من الأبوابِ المتفَرِّقةِ قضى حاجةً في نفسِ يعقوبَ، وهي إرادتُه أن يكونَ دخولُهم كذلك؛ شفقةً عليهم وخوفًا من العينِ) [5230] ((التفسير الوسيط)) (2/622). .
وقال تعالى في ذكرِ ما كان من إقرارِ أبنائِه عليه السَّلامُ له بذَنْبِهم في حَقِّ أخيهم يوسُفَ: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف: 97 - 98] .
 قال الألوسيُّ: (طلبوا منه عليه السَّلامُ الاستغفارَ، ونادَوه بعنوانِ الأبُوَّةِ؛ تحريكًا للعَطفِ والشَّفَقةِ، وعَلَّلوا ذلك بقَولِهم: إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ أي: ومِن حَقِّ المعتَرِفِ بذنبِه أن يُصفَحَ عنه ويُستغفَرَ له، وكأنَّهم كانوا على ثقةٍ من عَفوِه؛ ولذلك اقتصروا على طلَبِ الاستغفارِ، وأدرجوا ذلك في الاستغفارِ، وقيل: حيثُ نادَوه بذلك أرادوا: ومِن حَقِّ شَفقَتِك علينا أن تستغفِرَ لنا؛ فإنَّه لولا ذلك لكنَّا هالِكين لتعمُّدِ الإثمِ، فمَن ذا يرحَمُنا إذا لم ترحَمْنا؟!) [5231] ((روح المعاني)) (7/53). .

انظر أيضا: