موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ من الرَّحمةِ عِندَ الصَّحابةِ


سار صحابةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نهجِه، واقتَدَوا به في التَّمسُّكِ بهذا الخُلُقِ الكريمِ، وقال اللهُ تعالى في وصفِهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] .
رحمةُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
وتتجلَّى رحمةُ أبي بَكرٍ في مواقِفَ عديدةٍ؛ فقد كان رَضِيَ اللهُ عنه رقيقًا رحيمًا، ومن أبرَزِ تلك المواقِفِ موقِفُه من أَسرى المشرِكين يومَ بَدرٍ حينَ سأله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ماذا يصنَعُ معهم.
يقولُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((فلمَّا أسَروا الأُسارى قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمَرَ: ما تَرَونَ في هؤلاءِ الأُسارى؟ فقال أبو بكرٍ: يا نبيَّ اللهِ، هم بنو العَمِّ والعشيرةِ، أرى أن تأخُذَ منهم فِديةً، فتكونَ لنا قُوَّةً على الكُفَّارِ؛ فعسى اللهُ أن يَهديَهم للإسلامِ)) [4136] أخرجه مسلم (1763). .
ومن رحمتِه رَضِيَ اللهُ عنه سعيُه في عِتقِ رِقابِ أصحابِه الضُّعَفاءِ، وإنقاذِهم من تعذيبِ صناديدِ قُرَيشٍ وتسَلُّطِهم عليهم. عن عامِرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، عن أبيه، قال: قال أبو قُحافةَ لأبي بَكرٍ: أراك تُعتِقُ رِقابًا ضِعافًا، فلو أنَّك إذ فعَلْتَ ما فعَلْتَ أعتَقْتَ رِجالًا جُلدًا يمنعونَك ويقومون دونَك. فقال أبو بكرٍ: يا أبتِ إنِّي إنما أريدُ ما أريدُ. لما نزلت هذه الآياتُ فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 6] إلى قَولِه عزَّ وجَلَّ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: 19] [4137] أخرجه الحاكم (3942) واللفظ له. صحَّحه الحاكم على شرط مسلم. وأخرجه أحمد في ((فضائل أحمد)) (66)، وابن أبي الدنيا في ((مكارم الأخلاق)) (415)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/69) من طريقٍ عن عامرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ عن بعضِ أهلِه. .
رحمةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
- فهذا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه الذي عُرِف بشِدَّتِه وقُوَّتِه، تُغيِّرُ الرَّحمةُ من طباعِه، فيُصبِحُ رقيقًا يمتَلِئُ قَلبُه رحمةً، ويُفيضُ فؤادُه شَفَقةً، وممَّا يدُلُّ على ذلك قولُه لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ حينما أتاه يكَلِّمُه في أن يُلينَ؛ لأنَّه أخافَ النَّاسَ حتَّى خاف الأبكارُ في خُدورِهنَّ، فقال: (إنِّي لا أجِدُ لهم إلَّا ذلك، واللهِ لو أنَّهم يَعلَمون ما لهم عندي من الرَّأفةِ والرَّحمةِ والشَّفَقةِ لأخَذوا ثوبي عن عاتِقي) [4138] رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1199)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/270). .
- ورآه عُيَينةُ بنُ حِصنٍ يومًا يُقَبِّلُ أحَدَ أبنائِه، وقد وضَعَه في حِجرِه وهو يحنو عليه، فقال عُيَينةُ: (أتُقَبِّلُ وأنت أميرُ المُؤمِنين؟! لو كنتُ أميرَ المُؤمِنينَ ما قبَّلْتُ لي ولَدًا، فقال عُمَرُ: آللهِ؟ آللهِ؟ حتى استحلفه ثلاثًا فقال عُمَرُ: فما أصنَعُ إن كان اللهُ نَزَع الرَّحمةَ من قَلبِك، إنَّ اللهَ إنَّما يرحَمُ مِن عبادِه الرُّحَماءَ) [4139] رواه عبد الرزاق (20590). .
- واشتهى الحوتَ يومًا، فقال: لقد خَطَر على قلبي شهوةُ الطَّرِيِّ من حيتانٍ، فخرج يرفَأُ في طَلَبِ الحوتِ لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، ورَحَل راحلَتَه، فسار ليلتينِ مُدبِرًا، وليلتينِ مُقبِلًا، واشترى مِكتَلًا، وجاء بالحوتِ، ثمَّ غَسَل يرفَأُ الدَّابَّةَ، فنظر إليها عُمَرُ فرأى عَرَقًا تحتَ أُذُنِها، فقال: عذَّبْتَ بهيمةً من البهائِمِ في شهوةِ عُمَرَ! لا واللهِ لا يذوقُه عُمَرُ، عليك بمِكتَلِك [4140] رواه عبد الله بن أحمد في ((زوائد فضائل الصحابة)) (443) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/301). .
(ومرَّ رَضِيَ اللهُ عنه براهبٍ فوقف، ونوديَ بالرَّاهبِ، فقيل له: هذا أميرُ المُؤمِنين، فاطَّلَع فإذا إنسانٌ به من الضُّرِّ والاجتهادِ وتَركِ الدُّنيا، فلمَّا رآه عُمَرُ بكى! فقيل له: إنَّه نصرانيٌّ، فقال عُمَرُ: قد عَلِمتُ، ولكنِّي رَحِمتُه، ذكَرْتُ قولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 3- 4] رَحِمْتُ نصَبَه واجتهادَه وهو في النَّارِ) [4141] رواه عبد الرزاق في ((التفسير)) (3584) واللفظ له، والحاكم (3925). جود إسناده ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (2/620). .
رحمةُ أبي بَرْزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه:
- وهذا أبو بَرزةَ الأسلميُّ رَضِيَ اللهُ عنه من رحمتِه أنَّه كان له جَفنةٌ [4142] الجفنةُ: القصعةُ ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص: 1186). من ثريدٍ غُدوةً، وجَفنةٌ عَشِيَّةً، للأرامِلِ واليتامى والمساكينِ [4143] رواه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) (5569)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (62/99). .

انظر أيضا: