موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ من حِكمةِ الصَّحابةِ


أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((إنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه خرج، وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه يُكلِّمُ النَّاسَ، فقال: اجلِسْ، فأبى، فقال: اجلِسْ، فأبى، فتشهَّد أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فمال إليه النَّاسُ، وتركوا عُمَرَ، فقال: أمَّا بعدُ، فمَن كان منكم يعبُدُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد مات، ومن كان يعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ؛ قال اللهُ تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إلى الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، واللهِ لكأنَّ النَّاسَ لم يكونوا يعلمون أنَّ اللهَ أنزلها حتى تلاها أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فتلقَّاها منه النَّاسُ، فما يُسمَعُ بَشَرٌ إلَّا يتلوها!)) [3614] أخرجه البخاري (1242). .
عثمانُ بنُ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه:
فقد أمر الصَّحابةَ إذا اختلفوا في شيءٍ عِندَ جمعِ القرآنِ أن يكتُبوه بلغةِ قُرَيشٍ، ففعلوا، حتى إذا نسَخوا الصُّحُفَ في المصاحِفِ، رَدَّ عثمانُ الصُّحُفَ إلى حفصةَ رَضِيَ اللهُ عنها، وأرسل إلى كُلِّ أفُقٍ من الآفاقِ بمصحَفٍ ممَّا نسَخوا، وأمَرَ بما سواه من القرآنِ في كُلِّ صحيفةٍ أو مُصحَفٍ أن يُحرَقَ [3615] ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (1/165). .
حِكمةُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في مناظَرةِ الخوارِجِ:
عن عبد اللهِ بن عباس قال (لَمَّا اعتَزَلَتِ الحَرُوريَّةُ فكانوا في دارٍ على حِدَتِهم، فقُلت لعَليٍّ: يا أميرَ المُؤمنين، أبرِدْ عنِ الصَّلاةِ لَعَلِّي آتي هؤلاء القَومَ فأكَلِّمَهم، قال: إنِّي أتخوَّفُهم عليك، قُلتُ: كَلَّا إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، قال: فلَبِستُ أحسَنَ ما أقدِرُ عليه من هذه اليَمانيةِ، قال: ثُمَّ دَخَلتُ عليهم وهم قائِلونَ في نَحرِ الظَّهيرةِ، قال: فدَخَلْتُ على قَومٍ لم أرَ قَومًا قَطُّ أشَدَّ اجتِهادًا منهم، أيديهم كأنَّها ثَفِنُ الإبلِ، ووُجوهُهم مُعَلَّمةٌ من آثارِ السُّجودِ، قال: فدَخَلْتُ فقالوا: مَرحَبًا بكَ يا ابنَ عَبَّاسٍ، ما جاء بك؟ قُلتُ: جِئتُ أحدِّثُكم عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عليهم نَزلَ الوَحيُ، وهم أعلمُ بتَأويلِه، فقال بَعضُهم: لا تُحَدِّثوهُ، وقال بَعضُهم: واللَّهِ لنُحَدِّثَنَّه، قال: قُلتُ: أخبِروني ما تَنقِمونَ على ابنِ عَمِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخَتَنِه وأوَّلِ من آمن به، وأصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معه؟ قالوا: نَنقِمُ عليه ثَلاثًا، قال: قُلتُ: وما هُنَّ؟ قالوا: أوَّلُهن أنَّه حَكَّمَ الرِّجالَ في دينِ اللهِ، وقد قال اللَّهُ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، قال: قُلتُ: وماذا؟ قالوا: وقاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، لَئِن كانوا كفَّارًا لَقد حَلَّتْ له أموالُهم، ولَئِن كانوا مُؤمِنين لقد حَرُمَتْ عليه دِماؤُهم. قال: قُلتُ: وماذا؟ قالوا: مَحا نَفسَه من أميرِ المُؤمنينَ، فإن لم يَكُنْ أميرَ المُؤمِنين فهو أميرُ الكافِرينَ. قال: قُلتُ: أرأيتُم إن قَرَأتُ عليكم من كِتابِ اللهِ المُحكَمِ وحَدَّثْتُكم من سُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لا تُنكِرونَ، أترجِعونَ؟ قالوا: نَعَم، قال: قُلتُ: أمَّا قَولُكم: حَكَّمَ الرِّجالَ في دينِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 95] إلى قَولِه: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم [المائدة: 95] ، وقال في المَرأةِ وزَوجِها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء: 35] أنشُدُكم اللَّهَ أحُكْمُ الرِّجالِ في حَقنِ دِمائِهم وأنفُسِهم وإصلاحِ ذاتِ بينِهم أحَقُّ أم في أرنَبٍ ثَمنُها رُبُعُ دِرهمٍ؟ قالوا: اللَّهمَّ بَل في حَقنِ دِمائِهم وإصلاحِ ذاتِ بينِهم، قال: أخرَجْتُ مِن هذه؟ قالوا: اللَّهُمَّ نَعَم، قال: وأمَّا قَولُكم: إنَّه قاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، أتسْبونَ أُمَّكُم عائِشةَ أم تَستَحِلُّونَ منها ما تَستَحِلُّونَ من غيرِها! فقد كفَرتُم، وإن زَعَمْتُم أنَّها ليسَت أمَّ المُؤمنين فقد كفَرتُم وخَرجْتُم من الإسلامِ، إنَّ اللهَ يَقولُ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] فأنتم مُتَرَدِّدونَ بينَ ضَلالَتين، فاختاروا أيَّتَهما شِئتُم، أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَم، قال: وأمَّا قَولُكم: مَحا نَفسَه من أميرِ المُؤمنينَ، فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَعا قُرَيشًا يَومَ الحُدَيبيَةِ على أن يَكتُبَ بينَه وبينَهم كِتابًا، فقال: اكتُبْ: هذا ما قاضَى عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللَّهِ. فقالوا: واللَّهِ لو كُنَّا نَعلمُ أنَّك رَسولُ اللهِ ما صَدَدناك عنِ البيتِ ولا قاتَلْناكَ، ولكِنِ اكتُب: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ، فقال: واللهِ إني لرَسولُ اللهِ حَقًّا وإن كذَّبتُموني، اكتُبْ يا عَليُّ: مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ. فرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أفضَلَ من عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَم، فرَجَع منهم عِشرونَ ألفًا، وبَقِيَ منهم أربَعةُ آلافٍ فقُتِلوا) [3616] أخرجه النسائي في ((الكبرى)) (8575)، والحاكم في ((مستدركه)) (2656) وصحَّحه على شرط مسلمٍ، والطبرانيُّ في الكبير (10598) والبيهقي في السنن الكبرى (17186). .
عمرُو بنُ العاصِ والأرطَبونُ:
وأقام عَمرٌو على أجنادينَ لا يَقدِرُ من الأرطبونِ على سَقطةٍ، ولا تشفيه الرُّسُلُ، فوَلِيَه بنفسِه، فدخل عليه كأنَّه رسولٌ، فأبلغه ما يريدُ وسمع كلامَه، وتأمَّل حصونَه حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبونُ في نفسِه: واللهِ إنَّ هذا لعَمرٌو، أو إنَّه الذي يأخُذُ عمرٌو برأيِه، وما كنتُ لأصيبَ القومَ بأمرٍ هو أعظَمُ مِن قَتلِه! فدعا حَرَسيًّا فسارَّه فأمَرَه بقتلِه. فقال: اذهَبْ فقُمْ في مكانِ كذا وكذا، فإذا مرَّ بك فاقتُلْه. ففَطِن عمرُو بنُ العاصِ، فقال للأرطبونِ: أيُّها الأميرُ، إني قد سَمِعتُ كلامَك وسمِعتَ كلامي، وإنِّي واحدٌ من عَشَرةٍ بعَثَنا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ لنكونَ مع هذا الوالي؛ لنشهَدَ أمورَه، وقد أحبَبتُ أن آتيَك بهم ليسمعوا كلامَك، ويَرَوا ما رأيتُ. فقال الأرطبونُ: نعم، فاذهَبْ فائتِني بهم. ودعا رجلًا فسارَّه فقال: اذهَبْ إلى فلانٍ فرُدَّه. وقام عمرٌو فذهب إلى جيشِه، ثمَّ تحقَّق الأرطبونُ أنَّه عَمرُو بنُ العاصِ. فقال: خدعني الرَّجُلُ، هذا واللهِ أدهى العَرَبِ [3617] يُنظَر: ((تاريخ الأمم والملوك)) للطبري (13/ 247)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/ 653). !
أبو الدَّرداءِ:
مرَّ أبو الدَّرداءِ على رجُلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسُبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجَدتُموه في قَليبٍ، ألم تكونوا مُستخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تَسُبُّوا أخاكم، واحمَدوا اللهَ الذي عافاكم، قالوا: أفلا تُبغِضُه؟ قال: إنَّما أبغِضُ عَمَلَه، فإذا تركَه فهو أخي [3618] أخرجه أبو داود في الزهد (232)، وأبو نعيم في الحلية (1/225)، والبيهقي في شعب الإيمان (6691). .

انظر أيضا: